عندما تعهدت أمريكا لروسيا بعدم توسع الناتو شرقاً!
موقع الخنادق:
لم يكن تدمير آلاف الأسلحة النووية، الاستراتيجية منها والتكتيكية، عام 1994 عبثيًا، بل إنه لم يكن ليحصل بشكل مجاني، إلا بعد لقاءات تاريخية ومحادثات ثنائية ومتعددة، علنية وسرية، تضمنت بنود وتعهدات لحث الجانب السوفياتي ودفعه نحو القبول بالرغبة الغربية “الأمريكية”.
عقب معاهدة الصواريخ المضادة للباليستية في 1972، ومعاهدة الصواريخ النووية المتوسطة المدى عام 1988، لجأ قطبي الحرب الباردة، إلى عقد اتفاقية ستارت 1 وذلك قبيل انهيار الاتحاد السوفياتي عام 1991 وقد دخلت حيز التنفيذ عام 1994. وقد تم الاتفاق عليها للحد من الأسلحة الاستراتيجية بين بوش الأب وغورباتشوف، وقد تضمنت أكبر خفض ثنائي للأسلحة النووية في التاريخ.
تلك المعاهدة التي حصلت إثر حركة دبلوماسية مكوكية لوزير الخارجية جيمس بايكر، التقى فيها مع الرئيس السوفياتي أو هاتفه، وكذلك عبر محادثات ولقاءات بين الرئيسين بوش وغورباتشوف، بالتوازي مع لقاءات مع الأوروبيين “الحلفاء في الناتو”. ولكشف ما دار في تلك الأروقة الروسية والأمريكية والأوروبية، اعتمدنا على أوراق وثائق علنية وسرية مسربة تتضمن فحوى الضمان الأمريكي الغربي الذي أوصل إلى ذلك الاتفاق لوقف حرب عالمية كان العالم على شفا حفرة منها.
كما ذهب الأمريكي إلى الدخول في محادثات مع الرئيس الروسي الحديث العهد آنذاك بوريس يلتسن، بعيد انهيار الاتحاد السوفياتي عام 1991، مستغلا الضعف الذي كان يعاني منه عهد يلتسن على كافة الأصعدة، ومقايضًا إياه على بنود مصيرية كانت تشكل ضمانات في عهد غورباتشوف. وهنا، بدأ التخلف الأمريكي عما كان قد وعد به قبيل انهيار الاتحاد السوفياتي وانتهج سبيل الهيمنة والاستئثار بحكم العالم بقطب واحد.
بايكر: الناتو لن يتوسع إلى الشرق
في مجلد كبير، وقع في أكثر من ألف صفحة – متضمنًا نصوصًا ألمانية تكشف عن اجتماعات المستشار الألماني كول مع رئيس الاتحاد السوفياتي غورباتشوف والرئيس الأمريكي بوش الأب، الرئيس الفرنسي فرانسوا ميتران، ورئيسة الوزراء السابقة مارجريت تاتشر وغيرهم- وردت رسالة من وزير الخارجية بيكر إلى المستشار الألماني كول. سياق الرسالة يحوي وثيقةً يُطلع الأمريكي الألماني على “المخاوف” السوفيتية بشأن الوحدة الألمانية، ويلخص سبب كون مفاوضات “اثنين زائد أربعة” هي المكان الأنسب للمحادثات حول “الجوانب الخارجية للوحدة”. يعلق بيكر بشكل خاص على رد غورباتشوف غير الملزم على السؤال حول ألمانيا المحايدة مقابل ألمانيا في الناتو مع تعهدات ضد التوسع شرقًا، وينصح كول بأن غورباتشوف “قد يكون على استعداد للموافقة على نهج معقول يمنحه بعض التغطية …” هذه الرسالة كانت في محادثته الخاصة في وقت لاحق من ذلك اليوم مع الزعيم السوفيتي. وعزا مخاوف غورباتشوف بشأن توحيد ألمانيا إلى أن يكون بعضها مرتبطًا بالعواطف التي تثيرها هذه القضية في الاتحاد السوفيتي.
وبالعودة إلى وثيقة المحادثة تلك بين ميخائيل غورباتشوف وجيمس بيكر في 9 فبراير 1990، حول الوحدة الألمانية، أكد بيكر لغورباتشوف أن الأمريكيين يفهمون أهمية الضمانات للاتحاد السوفيتي وأوروبا التي ” لن تمتد شبرًا واحدًا من الولاية العسكرية الحالية لحلف الناتو في الاتجاه الشرقي”. حيث يصرح الجانب الأمريكي أن “الناتو هو آلية تأمين الوجود الأمريكي في أوروبا. إذا تمت تصفية الناتو، فإنها ستنتفي هذه الآلية في أوروبا”.
يجادل بيكر لصالح محادثات اثنين زائد أربعة باستخدام نفس التأكيد: “نعتقد أن المشاورات والمناقشات في إطار آلية “2 + 4″ يجب أن تضمن أن توحيد ألمانيا لن يؤدي إلى انتشار منظمة حلف شمال الأطلسي العسكرية إلى الشرق.” يرد غورباتشوف نقلاً عن الرئيس البولندي فويتشخ ياروزلسكي: “إن وجود القوات الأمريكية والسوفياتية في أوروبا هو عنصر من عناصر الاستقرار”. ثم يذهب بيكر إلى تخيير غورباتشوف عما إذا كان يفضل “ألمانيا الموحدة خارج الناتو، مستقلة تمامًا وبدون القوات الأمريكية؛ أو ان تحافظ ألمانيا الموحدة على علاقاتها مع الناتو، ولكن مع ضمان عدم انتشار سلطة الناتو أو قواته شرق الحدود الحالية “. وهكذا، في هذه المحادثة، قدم وزير الخارجية الأمريكي ثلاث مرات تأكيدات بأنه إذا سُمح لألمانيا بالتوحد في الناتو، والحفاظ على الوجود الأمريكي في أوروبا، فإن “الناتو لن يتوسع إلى الشرق”.
العضوية الألمانية
لتوضيح قضية عضوية ألمانيا بعد توحيدها في الناتو، لا بد من العودة إلى خطاب الأمين العام لحلف شمال الأطلسي Manfred Wörnerبتاريخ 17 مايو 1990 في بروكسل؛ الذي يرى أن “المهمة الأساسية للناتو هي ترسيخ ألمانيا الموحدة بقوة في الهياكل المؤسسية للغرب والمفوضية الأوروبية وحلف شمال الأطلسي. هناك ثلاث اعتبارات أساسية تحدد سياسة التحالف الخاصة بنا: الحياد أو عدم الانحياز لألمانيا الموحدة هو أمر غير مقبول بالنسبة لنا. سوف يزعزعون استقرار أوروبا ويعيدوننا إلى أيام دبلوماسية توازن القوى والتحالفات والتحالفات المضادة. يجب ألا تخضع ألمانيا الموحدة لأي أنظمة خاصة تمييزية. لن ينتجوا إلا الاستياء عاجلاً أم آجلاً.
وبحسب Wörner “لا يمكن أن يتوقع منا السوفيات أن نضع وجود الناتو على المحك، وبالتالي منحه شيئًا لم ينجح في الحصول عليه في الماضي، حتى في ذروة قوته. لا يستطيع الغرب الرد على تآكل حلف وارسو بإضعاف أو حتى تفكك حلف الأطلسي. الرد الوحيد هو إنشاء إطار أمني يحتضن كلا التحالفين: بمعنى آخر، ذلك الذي يجر الاتحاد السوفييتي إلى أوروبا التعاونية.”
ويضيف الأمين العام للناتو المزيد من الحجج والاعتبارات الذاتية للحلف لتبرير أفعاله قائلاً: “نحن بالفعل بصدد فحص استراتيجيتنا ومهام تحالفنا، وتكييفها مع الظروف المتغيرة. ومع ذلك، لا يمكن لأحد أن يتوقع منا حرمان الناتو من وظيفته الأمنية الأساسية وقدرته على منع الحرب. إن استراتيجيتنا وتحالفنا دفاعيان حصريًا. إنهم لا يهددون أحدا، لا اليوم ولا غدا. لن نكون أبدًا أول من يستخدم أسلحتنا. نحن مستعدون لنزع السلاح الجذري، وصولاً إلى الحد الأدنى الذي يجب أن نحتفظ به لضمان أمننا.”
ثم يعمد Wörner إلى التعرض لما طرحه الجانب الغربي على السوفياتي بخصوص تقديم الضمانة الأمنية “إن حقيقة أننا على استعداد لعدم نشر قوات الناتو خارج أراضي الجمهورية الفيدرالية تعطي الاتحاد السوفيتي ضمانات أمنية ثابتة. علاوة على ذلك، يمكننا تصور فترة انتقالية يمكن خلالها بقاء عدد أقل من القوات السوفيتية متمركزة في جمهورية ألمانيا الديمقراطية الحالية. وهذا سوف يلبي المخاوف السوفيتية بشأن عدم تغيير التوازن الاستراتيجي الشامل بين الشرق والغرب. يخطئ السياسيون السوفييت عندما يزعمون أن عضوية ألمانيا في الناتو ستؤدي إلى عدم الاستقرار”.
توسع حلف الناتو نحو الشرق
رغم انتفاء الأسباب التي تأسَّس من أجلها حلف شمال الأطلسي، فإن هذا الحلف لم ينحلَّ. حيث تذرّع بالدفاع عن المصالح السياسية والعسكرية للدول الأعضاء فيه، والتي أصبح عددها 29 دولةً، مع توسّعه ليضم دولا كانت جزءًا من الاتحاد السوفياتي وأعضاءً في حلف وراسو المعادي مثل تشيكيا وسلوفاكيا وألمانيا الشرقية وأستونيا ولاتيفيا ولتوانيا وجورجيا وبلغاريا والمجر وبولندا نفسها، التي حمل الحلف السابق اسم عاصمتها. وقد كان القضاء على بقايا حلف وارسو، وتفكيكه تماماً، هدفاً أميركياً عميقاً. فأشهر مهمّات الناتو في أواخر التسعينيات هي القصف والغارات التي شنّتها طائراته على يوغوسلافيا، التي تفككت بتأثير تدخلات الناتو في عدّة دولٍ، اثنتان منها هما سلوفينيا ومقدونيا، اللتان انضمتا إلى حلف الناتو لاحقاً.
وعليه، لم يكن الضمان الغربي صادقًا بما قدمه لغورباتشوف، فسرعان ما عمل على التوسع باتجاه الشرق، كما أنه قد عمل على تسليح أوكرانيا رغم أنها لم تدخل بعد إلى الحلف. حيث عملت الدول الغربية على ضخ أوكرانيا بالأسلحة الفتاكة للعمليات الهجومية وليس للدفاع عن الدولة منذ عام 2016. على مدار سبع سنوات، قدمت واشنطن أكثر من 2.5 مليار دولار للمساعدات العسكرية في أوكرانيا. بالإضافة إلى ذلك، في كانون الثاني /يناير 2022، سمحت الولايات المتحدة رسميًا لإستونيا وليتوانيا ولاتفيا بتزويد أوكرانيا بأسلحة أمريكية الصنع.
اليوم، وبحسب ممثل وزارة الخارجية الأمريكية، فقد وصلت شحنة أسلحة بقيمة إجمالية حوالي 200 مليون دولار إلى أوكرانيا عام 2022. هذا هو ثاني توريد للأسلحة لأوكرانيا، علاوة على أنه ليس الأخير.
الاستغلال الأمريكي للضعف الروسي
سرعان ما يقدم الرئيس الروسي يلتسن اعتراضه الحقيقي حول توسع الناتو، بعد أن كان قد عوّل على الشراكة الروسية الأمريكية عشية قمة G-7 في نابولي في أيلول 1994. وبناءً على الوعود الأمريكية لروسيا وقتذاك، قدم يلتسين لكلينتون أقصى آماله في تلك الشراكة ومكانة روسيا في الانتقال من G-7 إلى G-8، وأن مركز السياسة العالمية، بحسب يلتسين هو الشراكة بين روسيا والولايات المتحدة، القوتان العظيمتان”.
وبعد عام من تلك القمة، بات يلتسن لا يرى سوى الإذلال لروسيا إذا ما توسع الناتو، واصفا إياه بـ “الحصار الجديد”. بناءً على وثائق تثبت محاضر لقاءات الرئيسين الأمريكي والروسي كلينتون ويلتسن، في (أيار 1995)، يجادل الأخير بأن ما يحتاجون إليه هو نظام أمني أوروبي جديد، وليس كتلًا قديمة، حيث اعتبر أن” الموافقة على توسيع حدود الناتو باتجاه حدود روسيا – سيشكل خيانة للشعب الروسي.”
رداً على ذلك، برر كلينتون موقف الولايات المتحدة من توسع الناتو – يجب أن يُنظر إليه في سياق المشاركة الأمريكية المستمرة في الأمن الأوروبي والجهود المبذولة لإنشاء أوروبا متكاملة تمامًا، وذلك بحسب ما جاء في الوثيقة حول مذكرة المحادثة بين الرئيسين إثر زيارة الرئيس الأمريكي للكرملين في موسكو.
وقد عمل كلينتون على إغراء يلتسين، بأنه ومع توسع الناتو – ستكون روسيا عضوًا مؤسسًا في نظام ما بعد COCOMوتنضم إلى مجموعة الدول الصناعية السبع الكبرى، ولها علاقة خاصة مع الناتو – ولكن فقط إذا كانت روسيا “تمر عبر الأبواب التي نفتحها لها”.
كانت أولوية يلتسين الملحة هي الانتخابات القادمة. وهو يثق للرئيس الأمريكي بأن “منصبه الذي يتجه إلى انتخابات عام 1996 ليس موثوقا تمامًا”. يطلب من الرئيس تأجيل مناقشة التوسع على الأقل إلى ما بعد الانتخابات. لكن كلينتون واضح للغاية بشأن ضغوطه الانتخابية مع الجمهوريين والناخبين في ويسكونسن وإلينوي وأوهايو الذين يضغطون من أجل توسيع الناتو.
يوافق يلتسين في النهاية على مضض على عرض كلينتون – لا توجد قرارات للناتو إلا بعد انتهاء الانتخابات، فقط دراسة للتوسع؛ ولكن لا بد أن يغيب أي خطاب روسي مناهض لحلف شمال الأطلسي من روسيا والاتفاق على توقيع اتفاق السلام قبل نهاية أيار/مايو. يحتاج يلتسين إلى دعم كلينتون للفوز في صناديق الاقتراع، ولا يرى بديلاً عن الاعتماد على التأكيدات الأمريكية.
وانطلاقًا من تلك الضغوط الأمريكية، وقعت روسيا على مذكرة بودابست لعام 1994، التي ضمنت سيادة أوكرانيا ووحدة أراضيها مع الحدود الدولية السارية في ذلك الوقت، مقابل تخلي أوكرانيا عن ثالث أكبر مخزون نووي في العالم.
في عام 1997، وقع حلف الناتو وروسيا، “القانون التأسيسي” لإنشاء مجلس مشترك دائم وتحديد عدد من المجالات التي سيعمل فيها التحالف الغربي وروسيا معًا لتعزيز الأمن – “تحالف مع الحلف”، كما يفعل بعض مهندسيه في إدارة كلينتون وضعها في ذلك الوقت.
تبلور الموقف الروسي
منذ ٢٠٠٧ حذر بوتين في خطاب له في مؤتمر ميونيخ للأمن من العالم احادي القطب الذي هو مركز واحد للسلطة، مركز واحد للقوة، مركز واحد لاتخاذ القرار، وحذر من نشر عناصر من أنظمة الدفاع ضد الصواريخ في أوروبا، ومن توسع الناتو ونشر قواعد أميركية أمامية على حدود روسيا، والتغيير الجيبولتيكي الناتج عن ذلك.
فمنذ 15 عامًا، استغل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ذلك التجمع العالمي لإصدار خطاب يرفض فيه بشكل قاطع النظام الأمني الأوروبي. ووقف بوتين في ميونيخ لمدة 30 دقيقة ليتهم الولايات المتحدة بالاستفراد بأحادية السيادة على العالم “عالم فيه سيد واحد، وسيادة واحدة”. وقد حذر خلاله الناتو من استمرار تمدده باتجاه روسيا، وأكد أن النموذج الأحادي القطب لم يعد ممكنا في العالم المعاصر.
وما بين خطاب عام 2007 وخطاب 2022، ردٌ على خرق الغرب، المقولب في حلف الناتو وبرئاسة أمريكية، لعهدهم عام 1994 بعدم التوسع شرقا، والمس بالأمن القومي الروسي.
في المحصلة، لن يقبل بوتين – على المدى الطويل – وبحسب خطابه الأخير، أقل من تحقيق ضمانات أمنية أوردها في مطالب ثلاثة: أولاً، عدم السماح للناتو بالتوسع؛ ثانياً، رفض نشر القواعد والمنظومات الهجومية قرب الحدود الروسية؛ ثالثاً العودة إلى حدود عام 1997 لانتشار الناتو.
حيث ان خلاصة خطابه في هذا السياق، تؤكد أن “الناتو أصبح هو سبب الأزمة في الأمن الأوروبي، وأثّر بصورة مباشرة في العلاقات الدولية وفقدان الثقة. والوضع بدأ يتدهور، بما في ذلك في المجال الاستراتيجي”. ويؤكد بوتين هذه القراءة بتفصيل عسكري تقني لإمكان تنفيذ الناتو ضربة مفاجئة ضد روسيا؛ ضربة تستند إلى شمول الوثائق الأميركية للتخطيط الاستراتيجي لمبدأ توجيه الضربة الوقائية للعدو، بينما تؤكد الوثائق نفسها أن هذا العدو هو روسيا.