على صهوة حصان.. أحمر؟!
صحيفة البناء اللبنانية ـ
محمد شمس الدين:
طارت الحكومة، وطارت معها الشعارات التي رفعها رئيسها المستقيل نجيب ميقاتي، إن لجهة «الوسطية» على المستوى الداخلي، أو لجهة «النأي بالنفس» على المستوى الخارجي، وبذلك تكون التجربة الثانية التي أُطلق عليها اسم «الصيغة التوافقية» قد سقطت بين اللبنانيين، بعد سقوط الأولى مع اتفاق الطائف الذي أسكت المدافع في لبنان.
صار لزاماً على البلاد أن تدخل الصيغة الثالثة، لعلّها تكون الثابتة والأخيرة التي تضع الأمور في نصابها، وتؤسّس لدولة تُعطى «رقماً» صحيحاً على مستوى «الجمهورية»، ربما تكون أيضاً «الجمهورية الثالثة»، إذا قيست على أساس أن كل جمهورية سابقة خاضت تجربتها، والتجربة الثالثة هي «اللون الواحد» الذي لم يجرّب بشكله الكامل ولا مرّة.
لم تستقل الحكومة لأن رئيسها «حرد» على عدم تلبية مطلبه في تعيين موظف عسكري من هنا أو مدني من هناك، لقد سقط الرئيس نجيب ميقاتي في ساحة العمل، ولم ينجح في ممارسة المهام الموكلة إليه لا بالوسطية التي بقيت شعاراً، ولا بالنأي بالنفس الذي تُرجم انحيازاً كاملاً في بعض المواقف، التي بني الشعار على أساسها.
تجربة الحكم في لبنان بدأت تتبلور بعد سلسلة من الإخفاقات على هذا الصعيد، افتتحها الرئيس السابق للحكومة سعد الحريري الذي تمّت تسميته لهذا الموقع في ظروف ضاغطة فرضها اغتيال والده بغض النظر عن السبب والمسبب، والذي حاول خلال توليه رئاسة الحكومة أن يمارس ممارسة عدائية أو مارسها بالفعل ضد فريق من اللبنانيين ينظر إليهم على أنهم «متّهمون»، إضافة الى أنه تبنّى مشروعاً خارجياً لإسقاطهم مستنداً الى ثقة أولوه إياها، ناهيك عن شراكة عقدوها معه تحت عناوين توافقية سرعان ما انقلب عليها، وذهب باتجاه خاطئ أوصل فيها البلاد الى حافة الانهيار.
لم تنجح الحكومات التوافقية التي تمّ اعتمادها بعد عام 2005 تاريخ اغتيال رفيق الحريري، لأن من تولاها كان يمارس حكمه على خلفية الثأر والتشكيك وصولاً الى حد التآمر على مستقبل لبنان وأهله من جميع الطوائف، معتقداً أن رؤيته تمثّل الأفضل. في حين أن الصيغ التوافقية التي حكمت لبنان قبل ذلك التاريخ مكّنت الحاكمين من استغلال السلطة لسرقة البلاد وتحقيق مكاسب شخصية ومالية كبرى أوصلتها إلى الانهيار الاقتصادي والمالي وضرب صيغة الدولة لمصلحة أزلامها، ما أحدث خللاً بنيوياً في المجتمع الذي لم يكن ينقصه في انقسامه الطائفي والمذهبي سوى المزيد من السرقات وعمليات النهب المنظّمة لتعميق الهوة بين أبنائه.
ربما يصلح أن يطلق على الصيغ التوافقية التي حكمت منذ الطائف اسم «الجمهورية الثانية» بالإذن من القوانين والدساتير ورجال القانون وتصنيفاتهم ومعاييرهم، في حين أن «الجمهورية الأولى» التي سبقت الطائف وانتهت بحرب أهلية راح ضحيتها أكثر من 150 ألف قتيل قد تميّزت باستئثار وهمينة الطائفة الواحدة على مقدرات البلاد والعباد، بغض النظر عن العوامل الخارجية التي وجدت من خلال تركيبة النظام الهشة، مساحة واسعة لتحويل لبنان الى ساحة للصراعات الدولية والإقليمة، وأسّست لفتح شهية «اللاعبين» على منافع ونفوذ جديدين معنوياً ومادياً.
لم يستطع الرئيس ميقاتي تمييز نفسه من خلال أدائه عن كل من سبقه، على الرغم من إيحائه بذلك وطرح شعارات براقة، فشعار «الوسطية» لم ينجح حتى بتركيب تحالفات سياسية تجمع بين الأخصام السياسيين من الأطراف كافة، ناهيك عن أن ميقاتي «الوسطي» لم يكن مقبولاً من أطراف تجمعه بها سياسات استراتيجية، كما أنه أوغل في انحيازه المذهبي وهو إذ مدّ يده لجماعات مدانة بتطرفها، وأصرّ على تبنيه لموظف من هذا المذهب لانسجامه معه في طريق يجمع بين تمذهبه وخطّه السياسي غير البعيد عن خط من سلفه في الحكم، في حين أنه رفض آخر من مذهبه لأنه لا ينسجم مع خدمة أهدافه السياسية داخل مذهبه وخارجه، كما لا يستطيع أن يوفر له المساحة الكاملة لتغطية شعار النأي بالنفس الذي يغلف فيه انحيازه في قضايا الصراع الإقليمي والدولي الدائر حالياً حول سورية ودورها المستقبلي في المنطقة.
لقد اختتم ميقاتي عهد «الجمهورية الثانية» بفشل ذريع في الحكم وممارسة السلطة، ولم يكن أفضل ممن سبقه في الانحياز وتجاوز القوانين في كثير من المحطات التي شهدتها فترة حكمه، في حين أن الأزمات التي تعصف في المحيط والتي لن يكون لبنان بمنأى عنها، سيكون لها اليد الطولى في فرض الصيغ المقبلة للحكم فيه، وهي ستفرض نوع وشكل الحكومة المقبلة، الأمر الذي سيخضع لتجاذبات سياسية كبرى على المستويات الدولية والإقليمية والداخلية ما قد ينسف كل محاولات تشكيل حكومة أخرى جديدة، وهو ما يفسّر توقيت ميقاتي للتخلي عنها ويرجّح أن قراره في هذا الاتجاه ينسجم مع متطلبات الحراك السياسي والعسكري المتصاعد في المنطقة لا سيما في الأسبوعين الأخيرين اللذين شهدا حدة غير مسبوقة في الخطاب السياسي الدولي والإقليمي حول الملفات الساخنة فيها، ما يرفع من أسهم الفراغ على مستوى السلطة في لبنان لمصلحة إغراقه في الفوضى من جديد، وهذا ما سيدفع الى اعتماد خيارات صعبة عند من «يهمه الأمر» تمهيداً لدخول «الجمهورية الثالثة» على صهوة حصان.. أحمر.