على أعتاب الصحافة الورقية
موقع العهد الإخباري ـ
ياسر رحال:
قبل ما يقارب العشرين عاماً شهدتُ “موت مجلة” كانت بجدارة من أنجح التجارب الإعلامية، لكن الظروف عاكستها، فاضطرت للإقفال وختمت تاريخاً من النضال المهني للحفاظ على المصداقية وتقديم الأفضل للقارئ، فاتحة أمامه كتاب الكرة الأرضية ليبقى على اطلاع ويعرف ما يدور حوله.. واليوم تعد من اهم المراجع لحقبة امتدت من 1990 إلى 2000.
وقبل ما يقارب العشرة أعوام شهدت انتقال مجلة أخرى من الصيغة الورقية إلى الالكترونية، فعانيت على المستوى الشخصي من الم الفراق مجدداً وعانى الجمهور “الجريدة” كما احبوا تسميتها من نقص في المجال المعرفي والمعلومات والتحليل.. وأخبار أنبل وأشرف قضية عرفناها لدرجة ان أحداهم قال لي: “لدي صالون حلاقة فماذا أفعل .. أحوله لمقهى انترنت كي يتمكن الزبائن من متابعة “الجريدة” التي كانت تدور بين أيديهم وكل واحد منهم ينهل منها ما يحتاج.. وتصيب العدو بالمقتل مع كل عدد كان يعبر إلى الشريط المحتل منها.
ان تنتزع من يدك مجلة أو صحيفة هو أمرٌ ليس بالسهل، الوسيلة تصبح جزءًا من كيانك، وطقوسك اليومية.
يروى ان عالماً كبيراً بعد ان فرغ من التحقيق في مسألة فقهية رمى القلم من يده وصاح: “أين الملوك وأبناء الملوك من هذه اللذة..” لذة البحث والإبحار عبر الكتب والانتقال من نقطة معرفة إلى نقطة اخرى وصولاً إلى الغاية المنشودة.
وفي لطيفة أخرى يحكى ان قاطع طريق طلب إلى عابر سبيل ان يعطيه كل ما يملك، فضحك الاخير وقال له: “ليس لدي ما تطمع فيه. فأكمل اللص: “ماذا تحمل على ظهر بعيرك”. فأجاب الرجل: ” هي كتبي لا تنفعك.. أما انا فهي كل ما حصلت عليه من معرفة “، فقال اللص: ” إنزلها لا خير في علم يحمل على ظهر بعير” (في إشارة إلى ضرورة حمل العمل في العقل والقلب لا في الكتب فقط).
من يحمل بيده الهاتف النقال يعتقد انه يحمل الكرة الأرضية بكل ما فيها وما عليها، هل جربنا يوم الاستغناء عن الهاتف، اعتقد سيكون الجواب وبنسبة عالية: “لا نستطيع العيش من دونه”، ولكن كم منا يحسن استعمال كل خدمات “هاتفه الذكي”؟
أو كم منا يستخدم هاتفه في مجالات عمله او درسه او تحقيقه او..
الجواب: يقودنا إلى الهدف الذي يسعى اليه “محتلنا الثقافي”.
في ستينيات القرن الماضي، أطلق الكندي مارشال ماكلوهان نظريته الشهيرة والتي تقول: “الوسيلة هي الرسالة”.. فاختلف القوم بين مؤيد ومعارض، أما اليوم فاعتقد أن لا خلاف أن الوسائل التكنولوجية على الأقل في عالمنا العربي هي “الرسالة”، لأننا قوم مستهلكون ولم نتمكن حتى اليوم من مقاربة المحتوى العالمي على الشبكة العالمية بلغتنا العربية ولو بنسبة عشرية.
أفيقوا يا سادة.. إذا كانت “الوسيلة هي الرسالة” وبالتالي هي ما يريدنا “المحتل” ان نخضع له به، فقد نجح.. لأن معظمنا يتباهى بان لديه أهم هاتف ذكي.. أو أكثرها تطورا: ونتسابق على شراء النسخة الحديثة منها التي أغرقت الأسواق..
تعالوا لنحارب الاحتلال بوسيلتنا.. صحفنا التي قد نختلف معها او نتفق هي إدوات إبداع لم ولن يستطيع لا الانترنت ولا الكمبيوتر ولا التكنولوجيا أن تجاريها. هي تطبع من حبر يخرج من بين الأصابع وشغاف القلب وعصارة الفكر، لذا نجد ان الرجوع اليها والنقاش فيها ومعها يكون جائزاً بينما في الوسائل الحديثة تضيع بين الصفحات كل تعليقات الكون.. فيما لو كان هناك من مجال للتعليق..
لست ضد التكنولوجيا لكني أرفض أن أكون عبداً لآلة وصفها استاذ مادة الحاسوب يوماً بأنها: “أغبى آلة اخترعها الإنسان”.
لا تقبلوا ان يفرض عليكم ما يسمى “التراث الحديث”.. ليس هناك تراث حديث، هي ادوات استعمار لتخريب الذاكرة وشطب الماضي والتأسيس من المكان الذي يرغب فيه المستعمر..
تعالوا لنتضامن مع وسائلنا، لنتضامن مع رسائلنا.. لنحفظ الهوية.