عشر سنوات على الحرب السورية.. الطاقة والكيان المؤقت محركات الصراع
موقع الخنادق-
جعفر خضور:
اليوم، وبعد مرور أكثر من عقدٍ على الحرب الكونيّة ضدّ سورية، حريٌ بنا الوقوف عند ذكراها المأساويّة التي ما زلنا نعيش نتائجها المؤلمة بنظرة شاملةٍ على الأسباب، وتلّخيص الاستنتاجات، وإن كانَ توصيف السرديّة العشريّة مهمٌّ، إلا أنَّ الأهمّ هو الغوص الموضوعيّ العقلانيّ فيها، والذي من شأنه فتح الأفق للفهم العميق، لما اعترى المشهد العام من تشويش شكّل ضبابية في الرؤية من جهة، وآخر قلّبَ الحقائق وزيّفها من جهة أخرى.
عند الحديث عن الحرب لا يمكننا أن نفصلها عما سبقها من سلسلة من الأحداث الكُبرى التي تعهّدت مطابخ المخابرات الأنغلو – أميركية بصنعها، وخصوصاً لمنطقتنا لاعتباراتٍ عدّة، أي أنَّ ما حصلَ في سورية هو نصيبٌ لها من خطّة رسمتها القوى المحرّكة للصراع.
ومن هذه الخطط، الوثيقة الأميركية السرّية التي قالت إنها ستعمل على تدمير 7 بلدان خلال 5 سنوات، ومنها سورية. ولكن يبقى التساؤل: لماذا سورية؟! وهل نحن حالة منعزلة، أم جزء أصيل من الصراع؟!
من المفيد ذكره أنَّ الصراع الذي أوجدته الولايات المتحدة الأميركية ومعها أدواتها في منطقتنا لم يكن وليدَ يومٍ وليلة، وإنما هو أحد قرارات المؤتمر الفارق في التاريخ بالنسبة لقوى الهيمنة، وأقصِد: مؤتمر “كامبل بانرمان” الذي سبق “بلفور” بـ 7 سنوات، وترجمه فعلياً الوعد المشؤوم الذي بدأ بمخاض تهيئة ولادة “إسرائيل” الجسم الأجنبي الغريب الذي سيفصل دول شمال إفريقيا عن دول آسيا، وعكس أبعاد مؤامرة ضد الوطن العربي، علاوةً على أنّه سيكون الأداة لإدارة الصّراع والتحكُّم بالمجريات الخادمة لأهدافه. ومن التقارير التي خَلُصت إليها لجان ذاك المؤتمر الآتي:
بعد دراسة إنشاء الإمبراطوريات القديمة وسقوطها، والظروف السياسيّة والاجتماعية التي كانت تحيط بها، تضمّنت الفئة الثالثة من التقرير: “دول لا تقع ضمن الحضارة الغربية المسيحية، ويوجد تصادم حضاري معها، وتشكل تهديداً لتفوقها، وهي (الدول العربية بشكل خاص والإسلامية بشكلٍ عام)، والواجب تجاه هذه الدول حرمانها من الدعم ومن اب العلوم والمعارف التقنية، ومحاربة أي توجه وحدوي فيها”.
يستشرف القارئ إذا ما أسقط المذكور على الأحداث الفائتة النيات الحقيقيّة للغرب تجاه أرضنا العربية والإسلامية التي وجد فيها عوامل التهديد التي تواجه الامبراطوريات الاستعمارية، وتلك التي وجدت فيها البيئة الخصبة لتحقيق المآرب.
وبمعنىً آخر، هو صراع حضارات أكثر مما هو صراع سياسيّ أو عسكريّ، هدفه الأول والأهمّ “الحرب الاقتصادية”، والحرب من أجل الموارد البشريّة؛ عبر وكلاء يتعاونون جنباً إلى جنب مع الحكومات الغربيّة، ولأنَّ عصب الهيمنة الأميركية هو نهب ثروات الشعوب والجثوم على منابع النفط وآبار الغاز، وأوضحها شاهداً، الثروات الهائلة التي نهبتها من أفغانستان والتي تقارب 3.5 مليار دولار، علاوةً على سرقتها “لليثيوم” الخلطة الأساسيّة لصناعة السيارات، واليوم احتلالها لآبار النفط السوريّة والتموضع القاطع لشريانها التجاريّ.
في مراجعة لمضامين الحروب على دولنا العربيّة، نجد بأنَّه يغلبُ على لبوسها الطابع المشوِّه للإسلام، والذي شكّل عاملاً مُساعداً للحرب وحقق أهداف مُريديها، وهذا ليس بغريب، فالغرب وعبر عملائه درس موزاييك الشعوب وحضاراتهم ووجد فيها عوامل قوة، فشرّحها وأوجد بنفس لبوسها عوامل تفتّتها. وأكبر دليل على ذلك هو المؤامرة الطامية التي بدأت على الإسلام، منذ أوائل القرن الثامن عشر، هذه المؤامرة التي آتت أؤكلها بالنسبة لأميركا، عبر تجنيد مجاميع إرهابية حملت الفكر الإسلاموي المصطنع إنكليزياً، والتي وجدت بيئةً حاضنةً لها بالتعاون مع الوهابية، ما يُدلل على أن الصّراع ليس صراعاً من أجل سلطة، أو من أجل هدف سياسي فحسب، بل أعمق من ذلك بكثير، هو صراعٌ مستمرّ هدفه الأول التفتيت، وتغيير وجه المنطقة الذي يريد الغرب رؤيته في مراياه، عبر إشعال النزاعات على طول المنطقة وعرضِها.
أمّا المهم الآن، هو إسقاط كُل ما ذكر على سورية، البلد المكتفي ذاتياً، الذي لا ديون عليه، ودخْل سكانه في عام 2014 ما يقارب 5100 دولار أميركي، والبلد الذي يصدّر أفضل أنواع القمح القاس في العالم، وإنتاجه من النفط بمعدل 350 ألف برميل يومياً، كل هذا قبل اندلاع الحرب.
في فهم طبيعة الصراع، لا بد من البحث عن جذور مسببات الصراع ودوافعهِ، ودوافع الغرب في حربهم على سورية تكمن في خيبة الأمل بانصياع هذا البلد إلى رغباتهم بالدرجة الأولى، وليكن محطّة وصولهم بالدرجة الثانية، ولا سيما على مستوى الإمداد الطّاقي، أضف إلى ذلك موقف سورية الرّاسخ والمتجذّر في عقيدتها وتاريخها من الصّراع “الإسرائيلي – العربي”، ودعمها لحركات المقاومة على كافة المستويات وأهمّها: عسكرياً.
خاضت سورية حرباً مركّبةً بامتياز، تعددت أدوات الهجوم في رحاها، عبر تصديها لما يعرف بـ “استراتيجية الاختراق النظيف الأميركية”، و “المعركة بين الحروب الإسرائيلية”، التي كان تكتيكها بثورات “الربيع العربيّ” المشتقّة من “الثورات الملوّنة”، وباستخدام المجاميع الإرهابية، المهجّنة على القتل والجرائم، مجموعات دعمها يمرّ من حلف الناتو، ومن قوى إقليمية، صوّروها بأنها سيطرت على مصانع السيارات، ومخازن الأسلحة، وأنَّ ما تقوم فيه هو غزو، وتستوجب محاربتها من دُعاة حقوق الإنسان، ما يُمهّد الأرضية للتدخل الدّولي تحت ذريعة التعاطف وحلّ الأزمات.
واجهت سورية الحرب المفروضة عليها باستراتيجيةٍ متفرّدة، على المديين القريب والبعيد، البعيد الذي ظهر عبر تدويلها، بالطرف المناوئ والمدافع طبعاً، والذي وجدَ في ذلك حفاظاً لأمنه القوميّ بالدرجة الأولى من التوغّل الأميركي عبر حرب الوكالات، وأقرب مثال لذلك، ما يحصل اليوم في خاصرة روسيا، في محاولة لتقويضها، وزرع المهددات على حدودها، وقطع موطئ قدمها الأهم في أوروبا، وعلى المدى القريب مستجدّات ومبادرات إيجابية لم تعرفها الحروب السّابقة وهي قيام الدّولة السّورية “بالتسويات” أو “المصالحات” في لهيب المعارك، والمستمرّة حتى اليوم، حيث أنّه عادةً ما تطرح الدول المصالحات بعد أن تنتهي الحرب، فحققت ربحاً كبيراً حافظَ على نسيج المجتمع السّوري من التمزّق، وهذه نقطة مضيئة.
بالعودة لما تشهده السّاحة الروسيّة – الأوكرانيّة نجد مُقاربة تستوجب الوقوف عندها، وهي أنَّ أحد محرّكات النزاع في سورية هو نفسه أحد محرّكات النزاع في روسيا، واللافت ليس الطرف فقط. احدى الاهداف من الحربين، “الطّاقة”، والبحث عن مصادر طاقويّة يُستأثر بها، لضمان بقاء التحكّم ببنية المنظومة الماليّة والنقديّة العالميّة، ولا نقع في حبائل الوهم إنّ قُلنا إن خسارة الرهان الغربي في الحرب على سورية، بقرار حكومتها وببسالة جيشها أولاً، ومساعدة حلفائها وأصدقائها ثانياً، ساهمَ في كشف أجندات الغرب، والتمرّس على مواجهتها.
استخلاصاً لما سبق، ستفتح الاستراتيجية الأبواب لسورية بأن تكون جزءاً من التوازن الدّولي الذي عمِلَ الغرب على نسفهِ خلال عقودٍ داميةٍ مضت، بموقعها الاستراتيجيّ المتوسّط للقارات، وبترسيخها لمعادلة إثبات القوة الضامنة لكل أمن المنطقة عبر دحر “الفوضى الخلّاقة” التي امتدّت شرارتها إليها، إضافةً لقناعة من خطط ودعم ونفّذ الحرب بعدم جدواها في تحوير الحضور السوري وصياغته وفق متطلّباته، وما تغيير لغة التّعاطي مع سورية إلا دليلٌ دامغٌ على الفشل، والذي دفعَ “إسرائيل” كمتدخّل مباشر في الحرب، إلى البحث عن طرق أخرى لإطالة أمد وجودها المؤقت، فالحرب لها بُعدٌ استراتيجي عميق بعثرَ أهداف الصهاينة المتركّزة على عزل سورية عن حركات المقاومة وإيقافها عن دعمها، وهذا ما لم ولن يتحقق.
وجامع كل ذلك، الرؤية العقلانية في قراءة الأحداث، والتّنسيق العالي المستوى مع الحلفاء في محور المقاومة وروسيا، أمّا النتائج، فيصعُب التنبؤ بها رغم وجود بعض المؤشرات الموحية بهشاشة القطب الواحد والتي ستلعب دوراً مهماً في صياغة توازنٍ وواقعٍ دوليٍّ جديد يكون بعيداً عن هوى الاستكبار العالمي، وازدواجية المعايير.
يؤمن السّوريون بتجربتهم المُرّة خلال العقد الدامِ عليهم، ويتطلّعون للنهوض من تحت الأنقاض بشتّى الوسائل، رغم الرؤية المشوّشة وضريبة الموقع والموقف الّتي دفعوها، فالحرب لم تنتهِ بعد، والاستخلاصات المتنامية باطراد خلال الحقبة الماضية كفيلةٌ بالاستفادة من فصولها واستثمار إثبات بقائها أمام العاصفة الهوجاء.