عسكر انقرة ودبلوماسيتها.. مسارات متعددة وهدف واحد
موقع العهد الإخباري-
عادل الجبوري:
في اواخر شهر ايار/ مايو الماضي، غادر السفير التركي المثير للجدل فاتح يلدز بغداد، بعد انتهاء مهامه الدبلوماسية فيها، ليحل محله السفير علي رضا غوناي، وكان مؤملا ان تبدأ مرحلة جديدة بمجيء السفير الجديد، تختفي فيها مظاهر التدخلات المرفوضة ودس الانف في كل شيء، لكن يبدو ان السفير غوناي، يهوى هو الاخر، مثله زميله يلدر، الاستعراضات الكلامية والاثارات الاعلامية، والخوض في مساحات بعيدة الى حد كبير عن صلب مهامه وادواره المحددة، وهذا ما تبدى واضحا منذ الايام الاولى لوجوده في العراق، ومن خلال ما تحدث به وقاله لبعض وسائل الاعلام.
ومن بين ما تحدث به سفير تركيا الجديد في بغداد، هو مظلومية التركمان، وحرمانهم من حقوقهم واضطهادهم، وقال، “أفضل أن أصفهم بأتراك العراق، لأنهم تاريخياً هاجروا من أواسط آسيا، جاؤوا من القفقاس وسكن بعضهم في الشرق الأوسط وبعضهم في العراق، هم ينتمون لنفس أصلنا، كون أصولنا واحدة أمر لا يقبل النقاش، لكن هذا ليس رأياً يخالف وحدة العراق”.
ويشير قائلا، “عمل أتراك العراق دائماً على حماية وحدة الصف ووحدة أرض العراق، وكانوا في الصف المتقدم في هذا المجال، وناضلوا في سبيل حماية وحدة العراق، لكنهم تعرضوا للظلم باستمرار في هذه المنطقة، لأسباب عدة.. ورغم كل الظلم الذي تعرضوا له، ينظر إليهم في العراق وللأسف، على أنهم القومية الأصيلة الثالثة في البلد ولا يجري التعاطي معهم ولا يمنحون حقوقهم”.
ويضيف غوناي، وهو يتحدث عن التركمان، ” هم يستطيعون التحرك فقط في إطار دائرة الكوتا المحددة لهم، هل تعتقدون أن هذا يكفي؟ هذا ليس كافياً حين يجري الحديث عن مكون هو الثاني في هذا الإقليم-اقليم كردستان-وعاش متآخياً مع الكرد”.
لاشك ان مثل هذا الكلام، في حال صدر عن شخصيات عراقية تنتمي للمكون التركماني، فذاك امر طبيعي جدا، مثلما يتحدث الكردي عن واقع ابناء قوميته، وكذا الشيعي والسني والمسيحي والشبكي والايزيدي، ولكن ان يتحدث بهذه الطريقة دبلوماسي يمثل حكومة بلده، فلا يختلف اثنان في ان ذلك يعد تدخلا سافرا في الشأن الداخلي، لايمت بصلة الى جوهر العمل الدبلوماسي المحكوم بسياقات وقوانين ومواثيق دولية متفق عليها.
ولعل النقطة الجوهرية هنا، تكمن في ان تدخلات السفير التركي الجديد، لاتخرج عن عموم المنهج والتوجه التركي العام الذي طبع سياسات انقرة الخارجية خلال العقود الاخيرة الماضية، تلك السياسات القائمة على اساس التدخل هنا وهناك، سواء التدخل العسكري او السياسي او المخابراتي، تحت حجج وذرائع مختلفة، وبالنسبة للتدخل في العراق، فأن الحجج والذرائع جاهزة دوما، وتتمثل في محاربة حزب العمال الكردستاني التركي المعارض(PKK)، المتواجد على الاراضي العراقية، والدفاع عن المكون التركماني العراقي.
والملاحظ انه خلال العشرة اعوام الاخيرة، اخذت التدخلات التركية نطاقا اوسع، ولم تعد انقرة تتردد وتتحرج في أي خطوة تقوم بها، مستفيدة من الظروف والاوضاع السياسية المضطربة في العراق على وجه العموم، وفي اقليم كردستان بالخصوص، ولتمرير اجنداتها ومخططاتها، فأنها استغلت كل الاوراق، ومن بينها ورقة المياه، ووظفت علاقاتها الجيدة بالولايات المتحدة الاميركية واطراف اخرى-داخلية وخارجية-لفرض الواقع الذي ينسجم مع مصالحها ونزعاتها التوسعية.
ومن الطبيعي جدا ان تكون هناك ردود افعال ومواقف رافضة ومستهجنة ومستنكرة لتصريحات السفير التركي، حيث قال ساسة واصحاب رأي عراقيون، “ان على من يرى أن هنالك مظلومية كبيرة بحق التركمان، أن يحترم أولاً الشعب العراقي، ويحترم حقوق الجوار”، “وان أي تدخل في الشأن الداخلي العراقي يجب أن يكون في اتجاه تنضيج وتوشيج العلاقات، وليس فيما لا يعني الجارة تركيا بقدر ما يعني الشعب العراقي والحكومة العراقية ومفاصل العملية السياسية في العراق، ولاشك ان العراق يعي أن التركمان هم جزء لا يتجزأ من جسد الشعب العراقي ومن مكونات العراق الأصيلة، وكل ما يدخل في تفاصيل حقوقهم السياسية والمدنية هي مصانة بالتأكيد”.
وثمة اوجه شبه كثيرة، وتوافق كبير، وان لم يكن مباشرا، بين تصريحات السفير، وتصريحات ادلى بها وزير الداخلية التركي سليمان صويلو مؤخرا، قال فيها “ان الأيام التي نذهب فيها إلى العراق وسوريا سيراً على الأقدام من هنا ليست بعيدة، فهي قريبة بإذن الله”، مؤكدا “ان السلام في سوريا والعراق وليبيا وأفغانستان والجغرافيا الإسلامية والإنسانية والشرق الأوسط هو أيضا مسؤوليتنا”.
وكانت انقرة قد اطلقت اواخر شهر نيسان/ أبريل الماضي عملية عسكرية في شمال العراق لتعقب عناصر حزب العمال، اطلق عليها “مخلب البرق”، اذ اشرف عليها ميدانيا وزير الدفاع التركي خلوصي اكار مع كبار القادة العسكريين، الذين تواجدوا على الاراضي العراقية من دون أي تنسيق او ترخيص من السلطات العراقية، ومازالت العمليات العسكرية التركية متواصلة، والتي ترافقت معها حملات لقطع واحراق مساحات واسعة من اشجار الغابات في جبال شمال العراق.
واكثر من ذلك، إعلن صويلو في أواخر شهر نيسان/ أبريل الماضي، عن نية بلاده إنشاء قاعدة عسكرية جديدة في منطقة متينا في شمالي العراق، مشيراً خلال اجتماع للجنة الإدارية المركزية والمجلس التنفيذي لحزب “العدالة والتنمية” الحاكم إلى الأهمية الاستراتيجية الكبيرة لهذه المنطقة، باعتبار أنها تقع على مقربة من جبال قنديل، التي تعد من أهم معاقل حزب العمال الكردستاني(PKK)، حيث صرح في حينه، “إن عملياتنا في شمال العراق ستتواصل، وتعد منطقة متينا مكاناً مهماً. وعلى غرار ما فعلناه في سوريا، سننشئ هناك قاعدة، وسنسيطر على المنطقة”.
وفي الوقت الذي تعلو من بغداد الأصوات المطالبة بإنهاء التواجد العسكري التركي، في إشارة واضحة إلى معسكر زليكان في قضاء بعشيقة (42 كم شمال شرقي محافظة نينوى)، فإن توجه أنقرة إلى إنشاء قواعد عسكرية جديدة، يعني في ما يعنيه أن الأمور تسير نحو المزيد من التأزم والتعقيد، وخصوصاً مع التلميحات والإشارات الواضحة إلى عزم أنقرة استعادة سيناريو شرق الفرات في سوريا وتكراره في العراق.
وواضح ان انقرة، لاتعير أي اهتمام للاعتراضات العراقية الرسمية والشعبية منها، فهي ـ بحسب خبراء أمنيين ـ “لن تسعى للحصول على موافقة العراق. وقد أسست جميع قواعدها من دون موافقة الحكومة العراقية”.
الى جانب ذلك، فانه اذا كانت انقرة في السابق، تتصرف وتتحرك عسكريا وسياسيا ودبلوماسيا في الخفاء وبعيدا عن فضاءات الاعلام ومنابر السياسة، فأنها الان باتت تقول وتفعل أي شيء وكل شيء علنا وبلا أي تردد ولا مواربة، وما قاله السفير الجديد علي رضا غوناي، وما قاله قبل ذلك وزير الداخلية سليمان صويلو واخرين غيرهما، مصاديق واضحة وجلية على ذلك، وافعال الجيش التركي في شمال العراق، مصاديق اخرى، يضاف اليها اسلوب التحكم بمياه دجلة والفرات، وليس هذا كل شيء.. فما خفي حتى الان ربما يكون اخطر واعظم، من دولة تحلم بأستعادة امجادها الامبراطورية الضائعة منذ قرن من الزمان!.