عجن المنطقة ولبنان
صحيفة الجمهورية اللبنانية ـ
جوني منيّر:
ليس اكتشافاً القول إنّ معركة ميسلون فتَحت الباب أمام إعلان دولة لبنان الكبير. ففي 24 حزيران 1920 انتَصَر الجيش الفرنسي في تلك المعركة الشهيرة على القوات السورية بقيادة وزير الدفاع يوسف العظمة، ما سمَح للجنرال غورو بعد أقل من ثلاثة اشهر، وتحديداً في الاول من أيلول إعلان قيام دولة لبنان الكبير.
رفَض بعض المناطق الانضواء في دولة لبنان الكبير، وهكذا وقعت اضطرابات في طرابلس وبعض مناطق البقاع الغربي، وقد حمَل بعضها خلفيات طائفية. لكنّ الهزيمة العسكرية كان قد سبقها اتفاق سياسي بين لندن وباريس على المنطقة تولّت على أساسه الدولة الفرنسية ترتيبَ أوضاع دولتي سوريا ولبنان على أنهما ساحة نفوذها.
فصيغ ميثاق حكم في لبنان أبصَر النور عام 1943، ويقوم على أساس شراكة مسيحية – إسلامية، ولكن في الحقيقة اختُصر الحكم بالمعادلة المارونية – السنّية مع أرجحيّة للموارنة.
دروس التاريخ تبقى واضحة: مصير التوازنات على الساحة السورية يؤثر مباشرة في صيغة الحكم في لبنان وفي تركيبة السلطة فيه. ولا حاجة لتعداد المحطات التاريخية التي تصبّ في خانة الاستنتاج نفسه.
لذلك ومع اندلاع شرارة المواجهات في سوريا، اندفع الطرفان السنّي والشيعي في لبنان كلّ واحد لمساندة الطرف السوري الذي يراهن عليه تمهيداً لاستثماره لاحقاً في لبنان، وذلك من دون إغفال النزاع العريض الدائر على مستوى المنطقة بين إيران من جهة، والسعودية وقطر وتركيا من جهة أخرى.
في الخطاب الأخير للأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصرالله عبارة واحدة تختصر كلّ المشهد: «المنطقة عم تنعجَن». ومعنى «العجن» واضح ولا يحمل التأويل، في وقت تُثبت فيه التجربة أنّ نصرالله يحسب جيداً استعمال عباراته بدقة.
«داعش» كسَر حرمة حدود سايكس – بيكو وهو يحاول إكمال مشواره في اتجاه لبنان. الأكراد صاغوا ما بين ضريبة الدم والأمر الواقع وتشابك المصالح، خصوصية لا يمكن العودة عنها بسهولة، والجنرال قاسم سليماني يتفقَّد ساحات القتال حيث ينتشر الضباط والخبراء الايرانيون، ويَصل الى لبنان قبل أن يعود الى طهران، فيما بلاده على مشارف توقيع اتفاق تاريخي ومفصلي مع الولايات المتحدة الاميركية.
نفوذ ميداني هائل تجاوز الهلال الشيعي وصولاً الى عمق الخليج وحتى شمال أفريقيا، ومظلّة سياسية قوية من المفترَض أن يؤمّنها الاتفاق مع واشنطن. إنها اللحظة المثالية للبدء بتكريس تغيير التوازنات على مستوى السلطة وأنظمة الحكم عندما تسمح اللحظة السياسية بذلك.
ومن زاوية ليست أبعد بكثير، دخلت تركيا الى الميدان السوري في خطوة يبدو أنها ستتكرّر مستقبلاً وتحت عناوين أكثر صراحة، وتزامناً مع فشل هجوم النظام في حلب وبعد طرد «داعش» من كوباني في معركة ساهم فيها الأتراك من خلف الستارة، فإنّ واشنطن لم تكن بعيدة من الاشارة التركية المعبّرة ببدء سلوك جديد في سوريا.
من هنا أهمية المواجهات التي تنتظر «ربيع لبنان»: «عجن» المنطقة قائم، ولبنان لن يكون بعيداً، وفي أيّ حال سيلقى النتائج التي ستظهر.
يُقال إنّه بعد مرحلة التطاحن الدموي، لا بدّ أن تتكرّس توازنات سياسية جديدة منبثقة من نتائج التوازنات العسكرية على الأرض.
ويُفهَم من كلام نصرالله أنّ «حزب الله» يدرس خطواته ويندفع في «عجين» المنطقة ليضمن لنفسه كرسياً متيناً على طاولة التسويات. والسعودية التي تستعدّ لجولة مواجهات جديدة ستكون طرفاً أساسياً بلا شك وستضمن مصالح السنّة في لبنان أيضاً.
أمّا الدروز الذين يتكيّفون ببراعة وسط التناقضات القاتلة، فيشدّون أواصر التضامن في المثلث السوري – اللبناني – الاسرائيلي. يبقى المسيحيون الغارقون في معركة رئاسة الجمهورية وسط أفق مسدود ومقفَل، وخشية جدّية من تمزّق هذه الورقة وخسارتها بكاملها.
ويتمحور ملف الرئاسة حول ثلاثة احتمالات:
الأوّل: توافق القوى السياسية على انتخاب العماد ميشال عون رئيساً. وقد فقد هذا الخيار عوامل عدة من قوّته بعد تراجع «المستقبل» عن فكرة تأييده، وانكشاف موقف «القوات».
الثاني: فرض رئيس جديد عبر إنجاز تسوية خارجية تُلزم الأفرقاء اللبنانيين بالسير فيها، على أن يحصل ذلك بعد ترتيب صدمة أمنية تُلزم الأفرقاء القبول بذلك مثل حوادث 7 أيار التي فتحت الطريق أمام اتفاق الدوحة.
وراج أخيراً احتمال حصول اغتيال كبير يدفع في هذا الاتجاه، لكنّ الجهات التي تتولّى حياكة أحداث شبيهة تكون جهات دولية كبرى عادة. وحتى الآن تبدو هذه الجهات غارقة في تطوّرات المنطقة وليست مهتمة بالواقع اللبناني.
الثالث: أن يبادر عون إلى اختيار اسم الرئيس المقبل، على أن يترافق ذلك مع رزمة إصلاحات داخلية تُعزّز موقع المسيحيين مثل قانون جديد للانتخاب والتركيبة الحكومية والتعيينات الكبرى. وهذا الخيار هو الهدف الحقيقي لحوار جعجع مع عون، وعلى أساس مشاركة عون في رأسماله. لكنّ عون لا يزال يرفض بقوة هذا الخيار.
والبديل عن هذه الاحتمالات الثلاثة هو خسارة الورقة الوحيدة التي يمكن أن يحملها المسيحيون لحظة دنوّ مرحلة التسويات وانتهاء «عجن» المنطقة.
في العام 1988، اختار المسيحيون رفض مخايل ضاهر رئيساً للجمهورية وفق مبرّرات السيادة والتمثيل المسيحي الحقيقي والعملية الديموقراطية.
وبعد حرب التدمير الذاتي اكتشَف هؤلاء أنّ الخيار «السيّئ» يومها كان افضل بكثير وبما لا يُقارن مع الزلزال الذي ضربهم وأخرجهم من السلطة. إنها دروس التاريخ.
[ad_2]