طهران تنعى «المشروع القطري»: الرياض تغيّر الاتجاه… وواشنطن تلهث للتفاوض
جريدة الأخبار اللبنانية:
اعتاد صديق القول إن الفرق بين العقل الإيراني وباقي العقول كالفرق بين نظامي تشغيل ماكينتوش وويندوز. الرموز مختلفة، كذلك آليات القراءة، وبالطبع النتائج. فرق لا يمكن أن يتلمسه إلا متابع دقيق لمقاربة المسؤولين الإيرانيين لما يجري في الداخل والخارج. مقاربة، برهنت بعد 34 عاماً على الثورة، أنها فعّالة. فهل تصيب هذه المرة أيضاً؟
تتسارع التطورات في المنطقة في أكثر من اتجاه. جو بايدن يعرض مفاوضات مباشرة على طهران. معاذ الخطيب يستعد لزيارتها. تعيين مقرن بن عبد العزيز نائباً ثانياً لرئيس الوزراء في السعودية. حزب النور السلفي في مصر ينقلب على الإخوان، في خطوة تؤدي إلى تصدعه، ولا يوقف تمرده هذا… وكل ذلك في خضمّ الغارة الإسرائيلية على سوريا، وقبل أسابيع من اللقاء المرتقب بين الرئيس الأميركي باراك أوباما والرئيس الروسي فلاديمير بوتين في آذار المقبل.
حراك يبدو للوهلة الأولى متعدد المسارات ولا رابط بينها. لكنها في عيون المعنيين في طهران تأتي في سياق واحدة جامع لا يمكن فهم أيّ مما يجري في المنطقة من دونه. مصادر قريبة من أروقة صناعة القرار في إيران تختصره بجملة واحدة: هزيمة المشروع القطري في المنطقة التي تتجه نحو تسوية في قمة الكبار.
مشروع قطري في المنطقة؟ يأتي الجواب بسيطاً ومختصراً: المقصود محاولة قطر بناء دائرة نفوذ للإخوان المسلمين تمتد من تركيا إلى المغرب في مقابل المشروع الإيراني. هزيمة لعل أبرز الدلائل حولها، على ما تصفه المصادر، بأنه «تراجع أميركي سعودي منظم»، من مؤشراته دعوة نائب الرئيس الأميركي جو بايدن لطهران إلى مفاوضات مباشرة، والصدام السعودي القطري في أكثر من محور. «ألم تلاحظ أن كل النقد يتوجه منذ مدة إلى تركيا وقطر، ويجري تحييد السعودية».
«واشنطن ومعها تل أبيب والرياض تريد أن تنسحب من الجبهة الداعمة للإخوان المسلمين». الحديث هنا يجري عن أكثر من ملف. في سوريا، قناة تفاوض سعودية سورية عبر الأردن. تقارب انعكس ميدانياً في توجه لواء التوحيد المدعوم من السعودية، الذي يحاصر غالبية القرى الشيعية والمسيحية في الشمال السوري، إلى قريتي نبّل والزهراء الشيعيتين موزعاً السلاح والأموال تحت عنوان: ما عدنا نريد أن نقاتل الشيعة، بل جبهة النصرة (المدعومة من قطر). هذا ما تؤكده مصادر سورية وثيقة الاطلاع كشفت أيضاً عن أن «صفقة إطلاق الرهائن الإيرانيين في سوريا، تضمنت إطلاق معتقلين سعوديين من السجون السورية جاء الأمير السعودي عبد العزيز بن عبد الله إلى دمشق وأخذهم بنفسه». ولا يمكن نسيان عودة وزير الخارجية السعودي سعود الفيصل إلى اللجنة الرباعية المعنية بالأزمة السورية بعد مقاطعة طويلة.
في مصر، السلفيون، وفي مقدمتهم حزب النور السلفي (المدعوم من السعودية)، يحيدون أنفسهم عن «الإخوان» (المدعومين من قطر) في خطوة أدت إلى تصدعات في صفوفهم. «وحدها جماعة حازم أبو اسماعيل بقيت متحالفة مع الإخوان. قيادات حزب النور أخذت مسافة، في مقدمهم منظر السلفيين في مصر (الداعية) محمد حسان الذي بدا أكثر قرباً من جبهة الإنقاذ». ويفسر البعض ما يجري لمحمد مرسي بأنه تعبير عن توجه أميركي مدعوم من حلفاء واشنطن في المنطقة بإضعاف مصر، عبر ترك رئيسها منهمكاً بالشؤون الداخلية من دون أن تكون له القدرة على التفكير في الخارج، وخاصة إسرائيل.
لكن المؤشر الأبرز، في عيون المعنيين في طهران، كان تعيين مقرن بن عبد العزيز في منصبه الجديد، لافتين إلى أن هذا الأخير هو «منظّر التقارب السعودي ـــ السوري، الذي ترجم في إحدى المراحل في معادلة سين ــ سين». بنظر هؤلاء، «أعطت القيادة السعودية بندر بن سلطان الفرصة»، عبر تكليفه قيادة جهاز الاستخبارات. «جربناك ولم تفعل شيئاً»، الجملة التي يقدر الإيرانيون أن تكون قد هُمس بها في أذن بندر. يستعيدون عبارة نقلها لهم مسؤول خليجي رفيع المستوى: «الأميركيون ضاقوا ذرعاً بـ(رجب طيب) أردوغان»، في إشارة إلى رئيس وزراء تركيا. وبناءً عليه، يرى هؤلاء أن السعودية بدأت تأخذ زمام المبادرة شيئاً فشيئاً من أيدي قطر.
ننتقل الآن إلى عرض بايدن. يضحك محدثوك عندما تسأل عما يجري. يكشفون عن أن إيران تلقت على مدى الأشهر الماضية أكثر من عرض أميركي، عبر وسطاء بينهم أوستراليا وإيطاليا وألمانيا. المشترك بين كل هذه العروض كان النووي: قبول طهران بوقف التخصيب بنسبة 20 في المئة، في مقابل اعتراف دولي بها دولة نووية. الاختلاف بين الرسائل كان يتعلق بتقسيم دوائر النفوذ في المنطقة: كلها تعطي إيران حقها في ممارسة نفوذها على الخليج كله. لكن مرة يعرض أن تسحب إيران يدها من الملف السوري في مقابل أن تصبح جزءاً من الحل، ومرة تُشترَط أمور يفهم منها وقف طهران تمددها باتجاه البحر الأحمر ومصر وباتجاه المتوسط. وإن شملت كلها تأكيدات لـ«مفاوضات مفتوحة إلى حين التوصل إلى اتفاق».
في مقابل هذه العروض، يجزم المعنيون بأن «الوقت ليس وقت تفاوض. لن يحصل شيء قبل تحصين عرين الأسد»، في إشارة إلى الرئيس السوري. بدا ذلك من خلال رد علي أكبر صالحي: ندرس الاقتراح.
الموكلون الملف السوري في طهران يكشفون عن أن الرئيس الأسد «فوض إلى طهران خطياً التفاوض نيابة عن دمشق مع من تريد في سبيل إيجاد حل في سوريا»، مشيرين إلى أن «كل أطياف القوس المعارض السوري، من سلمي ومسلح، إلى معاذ الخطيب، كلهم اتصلوا بنا. أدركوا أن اتفاق بوتين أوباما على حلول تفاوضية أصبح من المسلمات. لا يريدون أن يقضوا بين الأرجل». ويضيفون: «نعدّ لطاولة مفاوضات نفضلها في دمشق. لكن المعارضة السورية تريدها في الخارج».
معلومة تفتح الباب أمام سؤالين: ماذا يفعل سعيد جليلي في دمشق؟ «يضع الأسد بصورة المباحثات الدولية والعروض الغربية للتفاوض. وفي الوقت نفسه، يضع خبرات إيران وقدراتها في تصرف دمشق إن كان القرار الرد على الغارة الإسرائيلية». ولماذا يضع الأسد كل أوراقه بيد طهران؟ «لأنه يثق بالإيرانيين أكثر مما يثق بالروس. روسيا تقاتل من أجل أمنها القومي. تقاتل في دمشق لحماية أسوار موسكو. قتالها دفاعي. أما إيران، فهي تقاتل من أجل القدس. عقيدتها العسكرية تختصر بمقولة أنه بقتالها على أبواب تل أبيب تكون تدافع عن جميع العواصم العربية والإسلامية. قتالها تقدمي».
وماذا عن الغارة الإسرائيلية؟ وعن الرد المزعوم؟ ضحكة. «لنتفق أولاً على أن ما فعله الإسرائيلي أشبه بلعب كلمات متقاطعة في المرحلة الانتقالية الأميركية في المنطقة. غارة ضربت هدفاً ساقطاً عسكرياً. لم يكن أمامه هدف متاح. موقع أخلي منذ أشهر. وثانياً، أنها أظهرت للعالم كله أن كل ما كنا نقوله منذ عامين صحيح. أن الإسرائيلي هو المدير الحقيقي للعمليات في سوريا والباقي أدوات. لا ثورة ولا ربيع ولا من يحزنون. وثالثاً، أن (رئيس وزراء إسرائيل بنيامين) نتنياهو، بضربته تلك، يكون قد حرر واشنطن من ضغوطه لتصعيد المعركة، تحت عنوان أن الغارة لم تحقق شيئاً، وفي الوقت نفسه أرضى شهيته للحرب». حسناً، لكن أين الرد؟ «لننتهِ أولاً من التوظيف السياسي للغارة. الأتراك سقطت لهم طائرة ولم يردوا. لا يعني أنهم سكتوا. وظفوا الضربة في مكان آخر. إيران قتل لها علماء وحصل داخلها عمليات تفجيرات، ولم تعلن الحرب. الأمور ليست دائماً أسود أو أبيض». للفائدة، «سقطت طالبان في أفغانستان، وصدام حسين في العراق، من دون طلقة واحدة». ألن يفسر عدم الرد ضعفاً؟ «أولاً، لم يقل أحد إنه لن يكون هناك رد. ثانياً، الإسرائيلي أكثر ذكاءً ليعتقد بضعف. هو يعلم أن قواعد الاشتباك معه في مكان آخر، وطبيعتها مختلفة عن ألعاب الصغار التي يلعبها».