طبول حرب روسية – أوكرانية.. هل تتحقق التهدئة من خلال التصعيد؟
صحيفة الوفاق الإيرانية-
د. علي دربج:
على وقع طبول الحرب التي تقرع بين روسيا وأوكرانيا، تتجه أنظار العالم الى اللقاء المرتقب ، والذي سيجمع عبر تقنية الفيديو، بين الرئيس الأميركي جو بايدن ونظيره الروسي فلاديمير بوتين، لمناقشة الملف الأوكراني وقضايا اخرى، خصوصاً بعد ورود تقارير أميركية وغربية، تتحدث عن حشود روسية ضخمة على الحدود الاوكرانية، لا سيما في ظل مخاوف من امكانية قيام موسكو بغزو واسع النطاق لكييف.
عند استعراض مواقف الأطراف الرئيسية المتنافسة استراتيجياً في شبه جزيرة القرم نلحظ أن القلق سيد الموقف في العواصم الغربية وواشنطن من اجراءات موسكو.
أوكرانيا الطرف المقابل لروسيا، بدورها متأهبة ومتوجسة من نيات موسكو، وتستند في موقفها المتصلب ومواجهتها لروسيا، إلى دعم اميركا وحلف “الناتو” في هذه اللحظات المصيرية، حيث يجزم بعض جنرالاتها بأن الحرب آتية لا محالة. ففي 20 تشرين الثاني الماضي قال العميد الأوكراني كيريل بودانوف، في مقابلة مع موقع Military Times الاميركي إن لديه أدلة على خطط روسيا لغزو أوكرانيا بين كانون الثاني وشباط 2022. وتوقع بودانوف أن يتضمن الغزو غارات جوية، وهجمات بالمدفعية والعربات المدرعة، يليها إنزال القوات في أوديسا وماريوبول.
تصريحات العميد الأوكراني كان سبقها -وتقاطعت مع- كلام لوزير الدفاع الأوكراني أليكسي ريزنيكوف، عقب اجتماعه مع نظيره الاميركي لويد أوستن في مقر البنتاغون في 19 تشرين الثاني الفائت، أكد فيه أن “البيانات الاستخباراتية حول مخاطر هجوم محتمل من قبل موسكو، والتي حصلت عليها أوكرانيا، تتطابق مع البيانات التي جمعتها الولايات المتحدة وأوكرانيا والمملكة المتحدة. ومقابل ذلك، هناك آراء في كييف تستبعد الحرب كما سنرى لاحقا.
ونصل الى روسيا، فهي تحشد قواتها، وبذات الوقت تنفي عزمها الهجوم على اوكرانيا. وهنا لبّ القضية، حيث السؤال الأساس يتمحور حول هل أن الحرب خيار جدي بالنسبة لها، أم أن روسيا تراوغ للحصول على مرادها واثبات نفسها لاعباً جيوسياسيا في العالم بوسائل أخرى؟
إن تطورات الاوضاع في منطقة القرم، تتجه نحو التأزم اكثر فأكثر، لكن في العلم العسكري لا تشير التعزيزات الحربية دوما الى النية لشن الحروب. لذا فقد يكون الهدف من سلوك روسيا وخطواتها نوعاً من التهويل أو الحرب النفسية، التي تهدف الى دفع اوكرانيا الى الرضوخ لمطالب موسكو واستعادة نفوذها هناك، وفرملة اندفاعة كييف وانزلاقها إلى المدار اليورو-أطلسي، فضلا عن سعي موسكو لضمانات من الغرب، بعدم توسع الناتو شرقا في أوكرانيا، دون ان تضطر الى خوض مواجهة عسكرية قد تكون كارثية على الجميع. ومع ذلك هذا العلم يدفعنا ايضا الى الأخذ بفرضية الحرب.
لفهم طبيعة الخطوات الروسية، فلنقرأ سويا المقال الذي كتبه المساعد السابق للرئيس الروسي والذي يدعى “الكاردينال الرمادي” لسياسة الكرملين، فلاديسلاف سوركوف، ونُشر في مؤسسة “مركز الأزمات السياسية” في 20 تشرين الثاني الفائت.
يكتب إيديولوجي الكرملين بنص واضح أن الوصفة المثالية لروسيا هي توحيد “المواطنين” وتقسيم “الغرباء”، مما يسمح لموسكو “بحكم كليهما”. ويصرح أيضاً بأن “التوسع المستمر بالنسبة لروسيا ليس مجرد فكرة واحدة، بل هو الجوهر الحقيقي لوجودنا التاريخي، وأن الدولة لا تعرف كيف تعيش بأي طريقة أخرى”.
علاوة على ذلك، يقرّ سوركوف صراحةً بأن الاجماع الروسي حول القرم، هو مثال حي على توطيد واستقرار المجتمع من خلال توزيع الفوضى في دولة مجاورة، معتبراً أن “شكاوى بروكسل وواشنطن بشأن تدخل موسكو -في القرم- تظهر أن دولتنا لم تفقد غرائزها الإمبراطورية”.
تقوم نظرة سوركوف على أنه “من المحتمل جداً أن تصبح أوكرانيا مرة أخرى نقطة الانطلاق الرئيسية لهذا “التوسع الخارجي للفوضى”، وخصوصاً أن علماء السياسة في الكرملين يواصلون دون توقف الإصرار على فكرة “فشل الدولة الأوكرانية”.
ويعترف سوركوف بحدوث زيادة عفوية في التوترات الاجتماعية في روسيا، لكنه لا يتطرق الى الأسباب الحقيقية لهذا الاتجاه. وبالتوازي مع ذلك، تحدث ضد “التجارب الليبرالية” ودعا إلى تصدير الفوضى -في روسيا- للتخلص منها على أرض أجنبية. وطبعا المقصود هنا اوكرانيا.
ولكن ما أهمية كلام سوركوف؟ وما هي “خطة شاتون” التي كان وضعها، والخاصة بأوكرانيا؟ فلنتابع معا.
أشرف فلاديسلاف سوركوف سابقاً أيضاً على السياسة الروسية تجاه أوكرانيا. تُنسب إليه خطة “شاتون” التي حصل عليها، وفقاً لوسائل الإعلام ، قراصنة أوكرانيون في عام 2016 من مراسلات سوركوف الشخصية. أكد جهاز الأمن الأوكراني (SSU) ومستشار وزير الداخلية آنذاك أنطون جيراشينكو في تصريح له في 26 تشرين الأول 2016، صحة الوثيقة.
وفقاً للخطة، اقترح سوركوف زعزعة استقرار أوكرانيا و “هز” المجتمع من خلال تسريب تحقيقات واسعة النطاق عن أنشطة الفساد التي كان يقوم بها فريق الرئيس الأوكراني آنذاك بيوتر بوروشينكو، واطلاق يد العملاء الروس في هذا البلد، فضلاً عن تنظيم احتجاجات اجتماعية ضد ارتفاع الأسعار في المرافق العامة، وانشاء الحركات الانفصالية في المناطق.
في الواقع، تتناسب هذه الاستراتيجية تماماً مع النموذج الروسي للحرب “الهجينة” (الجيل الجديد). وعليه يمكن الافتراض أن مقالته الحالية تدور أيضاً حول “محاكاة” عدوان عسكري من خلال زعزعة استقرار الدول المجاورة من الداخل.
العديد من الخبراء الأوكرانيين لديهم نفس الرأي. رئيس الوزراء الأوكراني السابق أوليكسي هونشاروك واثق من أنه، “هذه المرة، يجب ألا يخشى الأوكرانيون غزواً آخر من روسيا”.
من جهته يتفق أولكسندر دانيليوك، الذي يرأس مركز إصلاحات الدفاع، ومنسق منصة لمواجهة التهديدات المختلطة لأوكرانيا والناتو، مع هذا الرأي. فاستنادا له، إن مقال سوركوف هو جزء من خطة الكرملين العامة لإجبار الغرب على قبول السلام بشروط الكرملين.
علاوة على ذلك، يعتقد دانيليوك أن التصعيد المتعمّد للتوترات يجب ــ بحسابات موسكو ــ أن يخلق ظروفاً مواتية للمفاوضات مع الغرب، وفي المقام الأول مع الولايات المتحدة، وبالتالي تحقيق التهدئة من خلال التصعيد.
ومع ذلك، فإن دانيليوك مقتنع بأن روسيا لن تتخلى عن الأساليب الهجينة، وبالتالي، لا بد من توقع زعزعة الاستقرار السياسي في أوكرانيا. فهو يرى أنه “يمكن خلق أزمة سياسية حول عدم ثقة الجمهور بالرئيس الأوكراني الحالي فولوديمير زيلينسكي والوفد المرافق له، وذلك عبر القيام باحتجاج اجتماعي، يرتبط، مثلا، بانقطاع إمدادات الغاز (التدفئة) والكهرباء، أو ممارسة تأثير سري منفصل على بعض المسؤولين الاوكرانيين”.
وليس بعيداً عن ذلك، يقول جورجي لوجفينسكي، عضو سابق في البرلمان الأوكراني ونائب رئيس سابق للجمعية البرلمانية لمجلس أوروبا (PACE) “ينبغي لأوكرانيا والغرب أيضاً توقع تفعيل روسيا الجبهات الأخرى للحرب الهجينة، على وجه الخصوص في المجالات القانونية الاقتصادية والدولية”.
من الأمثلة الصارخة على الحرب الاقتصادية، وفق منظور لوجفينسكي، الزيادة المصطنعة في أسعار الغاز الطبيعي، مما أجبر أوروبا على تسريع بدء تشغيل خط نورد ستريم 2.
اما بالنسبة إلى الساحة القانونية الدولية، فقد أشار لوجفينسكي إلى محاولات موسكو المتزايدة تشويه سمعة القاضي الأوكراني الحالي في المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، وتأخير النظر في الدعاوى المرفوعة ضد روسيا. ويحذر البرلماني السابق من أنه قد “يلجأ العملاء الروس في قوات الأمن الأوكرانية، الى انتهاك القواعد القانونية الخاصة بحقوق الانسان، لتشويه صورة البلاد في أعين المجتمع الدولي”. ويضيف “اما النتيجة الأخرى لهذا التكتيك، فقد تكون تقويض ثقة الأوكرانيين بالمؤسسات الأوروبية وفكرة التكامل الأوروبي ذاتها”.
ومهما كان الأمر، يشير الخبراء الأوكرانيون، مثل لوجفينسكي وداينليوك إلى أن “البلاد مستعدة لصد أي هجمات “مختلطة” من جانب روسيا. وأي محاولات جديدة للتصعيد لن تنتهي بالمفاوضات والتنازلات بل بعقوبات صارمة ضد موسكو”.
في الختام، وحتى حلول موعد محادثات بايدن ــ بوتين، سنشهد مزيداً من التصعيد في الخطاب، من قبل مختلف الاطراف المعنية بالقضية الاوكرانية. مع الاشارة الى انه سيكون من الخفّة في الواقع، بمكان، أن يحاول بوتين غزو أوكرانيا كاملة، وهي بلد ضخم يقطنه أكثر من 40 مليون إنسان، لكنه لن يكون خياليا بالنسبة له ــ إن لمس الرئيس الروسي ان التهديدات الاميركية والغربية مجرد كلام ـــ أن يسعى لتقسيمها إلى نصفين، أو أن يفرض تسوية تجمد ارتماء اوكرانيا في الأحضان الاميركية ــ الاوروبية.