“طالبان” بين الانهيار والصعود (1)
موقع العهد الإخباري-
د. علي دربج* :
فجأة استفاق العالم على انسحاب أميركا من أفغانستان، وسيطرة حركة “طالبان” على تلك الدولة. كالعادة بدأت التحليلات والاخبار والصور تتدفق كالسيل من كل حدب وصوب، فيما احتدم الجدل في وسائل الاعلام ودهاليز السياسة، هل أن ما شهدناه هزيمة لأميركا أم انتصار لـ”طالبان”.
لم يبق أحد في المعمورة من الخبراء والقادة العسكريين والصحافيين، إلا وتحدث عن أفغانستان. المشكلة أنهم بدأوا من حيث انتهى المشهد، أي الانسحاب. لكن ماذا عن حقبة اجتياح افغانستان المليئة بالأسرار والمفاجآت، والأحداث التي جرت غداة الغزوّ وبعده (والتي سنقوم بالإضاءة عليها على حلقات)، وما تلاها من أسئلة؟ وفي مقدمتها:
كيف تبخّرت ثم انبعثت “طالبان” من جديد وصولًا الى يومنا هذا؟ وما هو حجم مساهمة الولايات المتحدة بإحياء الحركة؟ وهل أن القوة العسكرية لـ”طالبان” ذات الصيت الذائع بالبطش والإرهاب، هي التي مكّنتها من اجتياح أفغانستان بسرعة قياسية؟ وكيف ساعدت ارتكابات الحكومة والجيش الأفغاني بإعادة “طالبان” بطريقة غير مباشرة؟
قبل الغوص في مرحلة الاجتياح، لا بد من القول إن التاريخ أعاد نفسه في أفغانستان، لكن مع انعكاس الصورة. قبل 20 عامًا، غزت أميركا البلد، واختفت “طالبان”، أما اليوم، فقد سيطرت الحركة وخرجت الولايات المتحدة، وذابت الحكومة التي نصّبتها، ومعها الجيش الذي دربته.
كثيرون في أميركا وصفوا ما فعله بايدن بالكارثة الفوضوية التي لا يمكن معها اخفاء وقع الخيبة التي لحقت بأميركا في أفغانستان، بعدما انسحبت منها بعد 20 عامًا، وهي خالية الوفاض وصفر النتائج السياسية وحتى العسكرية.
من المعروف أن خطوة بايدن جرّت عليه كمًا هائلًا من الانتقادات والاتهامات في الداخل والخارج. غير أن ما أراده بادين وادارته، هو حفظ ماء وجه أميركا بالحد الأدنى، وتجنب الخسائر المادية، خصوصًا مشاهد الإذلال لجنوده كما يحصل في العادة مع الاحتلال، فضلًا عن سلب “طالبان” ورقة النصر على أميركا، وادعاء طردها تحت النار، لذا أدار بايدن الانسحاب بعناية شديدة وبطريقة تحقق هدفه هذا، وليس اعتباطيًا كما يحلو للبعض القول.
العقل “البايدني” الأميركي أدرك أن الطريقة الوحيدة لوجود نقل منظم للسلطة في أعقاب رحيل الولايات المتحدة، كانت أن يتم التفاوض على العملية على أنها نقل للسلطة. وللتفاوض على ذلك يتطلب الاعتراف – وهنا الجزء الصعب بالنسبة للولايات المتحدة – بأن القوة كانت في الواقع تنتقل الى “طالبان”.
وفقًا لرؤية بايدن، هنا يكمن التناقض الذي وقع فيه منتقدوه: الخروج المنظم يتطلب الاعتراف بالهزيمة والتفاوض على ما لا يمكن تصوره: الاستسلام لـ”طالبان”.
لكن باديدن اختار طريقًا آخر بدلاً من ذلك. فالرئيس الأميركي الديمقراطي فضّل الحفاظ على وهم أن تسلم أميركا السلطة إلى الحكومة الأفغانية، وإلى الرئيس السابق الهارب أشرف غني. أي أنه اختار المخاطرة بالفوضى التي شهدناها، على الاعتراف بالهزيمة. وعليه، لم تعد حياة جنوده على المحك في الغالب، بل حياة الأفغان، الذين ساعدوا أميركا وجنودها على مدار العشرين عامًا الماضية.
تعرض بايدن أيضًا للهجوم بسبب سماحه بوقوع أسلحة في أيدي “طالبان”، كما انتُقد لعدم إجلاء الأمريكيين وحلفائهم عاجلاً. ففي الوقت الذي كان يسلم فيه الإمدادات والأسلحة للجيش الوطني الأفغاني، كان يتظاهر أيضًا، أنه يسلم السلطة إلى الحكومة الأفغانية. ولو فعل غير ذلك، وقام بشحن جميع الأشخاص والأسلحة إلى المنزل، لكان الجيش أطلق صرخة مدوية مفادها “إنك على خطأ”، وكان من الممكن أن يرسل ذلك إشارة إلى أن الأمور تنهار.
الأمر ذاته ينطبق على حالة إجلاء اللاجئين: إن نقل اللاجئين بأعداد كبيرة، كان من شأنه أن يشير إلى أن الولايات المتحدة قد فقدت الثقة الكاملة بالحكومة، الأمر الذي سيؤدي بعد ذلك إلى تسريع سقوطها. فالمسؤولية لا تقع على عاتق بايدن وفريقه الحكومي والعسكري فقط، بل إن ادارة الرئيس ترامب كانت شريكة بالأمر، فهي أبطأت عن عمد عملية اعطاء تأشيرة خاصة للاجئين الأفغان خصوصًا ممن تعاملوا مع الجيش الاميركي في أفغانستان، لأنه ومستشاره السياسي ستيفن ميلر، لم “يرغبا بوصول اللاجئين الأفغان إلى شواطئنا”، وفقًا لـ”أوليفيا تروي” مسؤولة الأمن القومي السابقة في البيت الأبيض في البيت الأبيض والتي كانت حاضرة في الاجتماعات. حتى إدارة بايدن لم تفعل ما يكفي لقطع الروتين.
بالعودة الى فترة سقوط أفغانستان تحت الاحتلال الاميركي بعد 11 ايلول، قلة قليلة من الصحافيين الذي حالفهم الحظ وعايشوا ميدانيا تلاشي “طالبان”. منهم الصحافي أناند غوبال، وهو مؤلف كتاب عن افغانستان تحت عنوان: “لا رجال صالحون بين الأحياء” وقام بنشره في العام 2014.
يشرح أناند لنا مدى تجذّر الفشل الاميركي هناك، ويتحدث عن قدرات “طالبان” القتالية، قائلا “لم يخوضوا الكثير من القتال، تفوقت عليهم عسكريًا أميركا وحلفاؤها. وكانوا يقاتلون من الكهوف والحقول. لكنهم أيضًا لم يخوضوا الكثير من القتال لأنهم لم يكونوا بهذه الشعبية، فحكمهم في التسعينيات وفّر القانون والنظام، غير أنه لم يقدم أي شيء آخر على الإطلاق. أعني، بالكاد كانت هناك خدمات اجتماعية، ولم يكن هناك أي شكل آخر من أشكال الحكم. لذلك لم يحتشد الناس حقًا لقضية طالبان. ولذا فإن ما رأيته هو الغزو، وفي غضون شهرين، انهاروا تمامًا”.
المفاجأة أن “طالبان”، وبخلاف ما يعتقده كُثر، تصرفت كما فعلت حكومة أشرف غني الآن. يقول اناند “ففي اجتماع قبيل الغزو في افغانستان قال زعيم الحركة السابق الملا عمر: “لقد انتهى هذا”. ثم تقرر “طالبان” أنهم يريدون التواصل، ويعترفون بحامد كرزاي المنصّب اميركيا، ويريدون الاستسلام بشكل فعال للولايات المتحدة، وأكثر من ذلك استكشفوا أيضًا إيجاد طريقة لتسليم أسامة بن لادن إلى الولايات المتحدة.
بدأت المبادرات الأولى عندما كانت هناك قناة دبلوماسية تحاول إيجاد طريقة لتسليم بن لادن ربما إلى دولة ثالثة. لذا فإن ما كان يتعامل معه الملا عمر وقيادة “طالبان” هو محاولة الحفاظ، من وجهة نظرهم، على نوع من الشرعية الإسلامية من خلال عدم تسليم شخص ما إلى محاكم غير شرعية.
مع حلول تشرين الثاني من عام 2001، وبعد مضى شهرين على الحرب انهارت “طالبان” إلى حد ما في جميع أنحاء البلاد. كانوا يتشبثون فقط بمقاطعة قندهار، موطنهم. حينها عقد اجتماعان بين حامد كرزاي الذي كان قد تم نقله للتو ليكون الزعيم الجديد للبلاد، وقيادة “طالبان”، وبعض كبار الوزراء في حكومة كرزاي، وكان هذا يحدث تقريبًا في المنطقة المجاورة للقوات الأمريكية، وكانوا قريبين جدًا منهم.
وفي ذلك الاجتماع الأول، وافق قادة “طالبان” بشكل أساسي على الاستسلام وتسليم مفاتيح المدينة إلى حد ما إلى كرزاي وبعض شيوخ القبائل المحليين الآخرين. وقبل كرزاي ذلك في المرة الأولى. وبعد أيام قليلة كان هناك اجتماع ثان حيث تم وضع الشروط، مثل عدد الأسلحة وعدد المركبات التي سيتم تسليمها. ومع نهاية ذلك الأسبوع (اي الأسبوع الثاني من شهر كانون الأول 2001)، كانت “طالبان” قد تنازلت تمامًا عن السيطرة على البلاد إلى كرزاي.
كانت “طالبان” تبحث عن العفو وتتطلع إلى تسليم البلاد ثم السماح لها بالاستقالة أو التقاعد. وإذا نظرنا إلى سياق التاريخ الأفغاني، فهذا في الواقع ليس بغريب. فعندما استولت “طالبان” على زمام الأمور في منتصف التسعينيات، خرجوا من حرب أهلية كان فيها أمراء حرب في جميع أنحاء البلاد، وعرضوا نفس الشروط على الكثير من هؤلاء الامراء، قائلين لهم بشكل أساسي “إذا ألقيت أسلحتك، وعدت إلى المنزل، وتنصلت من أي نشاط سياسي، فسنمنحك عفواً”. وهذا ما فعلوه. لذا فر بعض أمراء الحرب، واستقال البعض الآخر، وانضم بعضهم إلى طالبان، وهذا ما كانوا يأملون به، أي السماح لهم بالعودة إلى ديارهم.
بعد عدة أشهر من الاحتلال الأميركي لأفغانستان حاولت بعض مجموعات “طالبان” الانضمام إلى الحكومة الجديدة بشكل مباشر. الامثلة على ذلك كثيرة: احدى المجموعات الطالبانية السابقة أرادت انشاء حزب سياسي لدعم الحكومة الجديدة. فيما مجموعة أخرى متشددة تسمى شبكة حقاني، كانت تعمل شرق أفغانستان، حصل أحد قادتها بالفعل على منصب عمدة بلدة غارديز، وانضم فعليًا إلى الحكومة الأفغانية رسميًا.
أكثر من ذلك، لعب أمراء الحرب الأفغان الموالون للولايات المتحدة دورًا أساسيٍا في اخراج بن لادن من افغانستان. تضاربت الروايات حول حقيقة هروبه. إحداها تقول إن “ثمة أمير حرب، دفعت له “القاعدة” وبن لادن بشكل أساسي للسماح له بالمرور”.
بالمقابل هناك قصة أخرى تتحدث عن أن “القاعدة” أعطت أموالاً للرعاة المحليين وآخرين للسماح لهم بالمرور. ربما كلاهما (الروايتين) صحيح في وقت واحد. لكن ما هو واضح هو أنه كان من الصعب على بن لادن في تلك المرحلة مع التدقيق العسكري المكثف على الحدود تخطيها، دون الحصول على نوع من المساعدة من شخص ما على الجانب الآخر. لذلك من المحتمل جدًا أن يكون هناك لشخص ما في الحكومة الأفغانية، أو بعض الموالين للولايات المتحدة علاقة بالأمر. في النتيجة، كان لأمراء الحرب يد في ما حصل.
في الجزء الثاني: “كيف ساهمت أفعال أميركا وحلفائها بعودة طالبان؟”
*باحث ومحاضر جامعي