ضم فنلندا والسويد إلى الناتو.. خطوة في الإتجاه الخاطئ
موقع قناة الميادين-
حسن نافعة:
لتبرير سلامة موقفها المحرّض على انضمام فنلندا والسويد إلى حلف الناتو، تركز الدعاية الغربية على 3 أبعاد أساسية لهذه المسألة.
وسط مظاهر ترحيب وحفاوة وتشجيع، بل وتحريض سافر من جانب الدول الغربية، تقدمت كل من فنلندا والسويد أخيراً بطلب رسمي للحصول على عضوية حلف “الناتو”، منهيةً بذلك عقوداً من الحياد السياسي والنأي بالنفس بعيداً عن الصراعات الدولية والإقليمية، طالت في حالة السويد أكثر من قرنين من الزمن، وفي حالة فنلندا ما يقارب 3 أرباع القرن.
تركيا هي الدولة الوحيدة التي أبدت تحفظات علنية عن هذه الخطوة، ولأسباب تخصّها، ولا علاقة لها بالسياسات الأمنية لحلف الناتو أو بسياسة الباب المفتوح التي ينتهجها. ولأنَّ قبول طلبات العضوية الجديدة في حلف الناتو يستلزم إجماع كل الدول الأعضاء، ما يعني تمتّع كلّ دولة عضو بميزة حاسمة تمكنها من حرمان أي دولة ترغب في الحصول على عضوية جديدة، فليس من الواضح بعد ما إذا كانت تركيا ستصوت فعلاً ضد قبول فنلندا والسويد أعضاء في الحلف، ما سيؤدي إلى طيّ هذه الصفحة، ولو مؤقتاً، أو أنها ستكتفي بالتلويح باستخدام “حق الفيتو” كوسيلة للضغط على طالبي العضوية الجدد، لحملهما على تغيير موقفهما من المسألة الكردية، وربما للضغط على الولايات المتحدة أيضاً لحملها على الموافقة على المنطقة العازلة التي تطالب بها في شمال سوريا لتوطين اللاجئين السوريين.
لتبرير سلامة موقفها المحرض على انضمام فنلندا والسويد إلى حلف الناتو، تركز الدعاية الغربية على 3 أبعاد أساسية لهذه المسألة:
الأول: يتعلَّق بمشروعية حلف الناتو نفسه، باعتباره منظمة دفاعية تأسست استناداً إلى المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة، وهي المادة التي تتيح للدول الأعضاء حق الدفاع الفردي أو الجماعي عن النفس.
الثاني: يتعلق بالسمة الديمقراطية للنظم الحاكمة في كلٍّ من فنلندا والسويد، باعتبارها الأداة الصحيحة لضمان تطابق الإرادة الرسمية مع الإرادة الشعبية.
الثالث: يتعلق بالحقوق السيادية للدول، وبوجوب امتناع الدول الأخرى عن التدخل في شؤونها الداخلية، فالاعتراف بالحقوق السيادية للدول في الانضمام أو عدم الانضمام إلى المنظمات الدولية القائمة، ورفض التدخل في شؤونها الداخلية، هما الأساس الذي ينبغي أن ترتكز عليه أي علاقات دولية صحيحة وصحية.
ولكنَّ القضية الأكثر إلحاحاً هنا لا تتعلق بشرعية حلف الناتو من عدمه، رغم أنَّ الجدل حول هذه القضية لم ينقطع منذ سنوات طويلة، وما زال محتدماً حتى هذه اللحظة، ولا بحقوق الدول السيادية وواجباتها، والتي يفترض أنها مصونة ومسلم بها في القانون والعرف الدوليين، وبالتالي يصعب التشكيك في مصداقيتها، إنما تتعلّق بالتأثير المحتمل لانضمام كلٍّ من فنلندا والسويد في أمن أوروبا واستقرارها بصفة خاصة، وفي قضايا السلم والأمن الدوليين بصفة عامة.
ترى الولايات المتحدة أن من شأن خطوة كهذه تقوية دعائم حلف الأطلنطي وزيادة فاعليته الرادعة في مواجهة أي اعتداءات روسية جديدة أو محتملة، وربما يعمّق لدى روسيا شعوراً بالذنب تجاه الخطأ الذي ارتكبته حين قررت استخدام القوة العسكرية ضد أوكرانيا، ويقنعها بأنّ ارتكابها هذا الخطأ القائل هو ما أدى بدوره إلى مزيد من توسع حلف الناتو وامتداده شرقاً، وهو بالضبط عكس ما كانت تتوقعه أو تأمله.
ولكن هذه الرؤية الأميركية تفترض ضمناً أن هذه الخطوة التصعيدية ستحشر روسيا في الزاوية، وستجبرها على الاستسلام لإرادة الغرب، وهو ما يخالف ما يجري على أرض الواقع، فقد أعلنت روسيا بوضوح تام أن انضمام فنلندا والسويد إلى حلف الناتو يشكل تهديداً مباشراً لها سترد عليه في الوقت المناسب.
وقد أقدمت بالفعل على اتخاذ بعض الإجراءات العقابية ضد فنلندا، ربما تتبعها بإجراءات أكثر صرامة ضد السويد أيضاً، كما أعلنت في الوقت نفسه أنَّ لديها خططاً لتجهيز 12 قاعدة عسكرية جديدة على حدودها الشمالية.
تجدر الإشارة هنا إلى أنَّ فترة الحياد الطويلة التي تمتعت بها كل من السويد وفنلندا أتاحت لهما بيئة داخلية وإقليمية مواتية من الهدوء والأمن، سمحت لهما بتحقيق إنجازات سياسية واقتصادية واجتماعية ضخمة جعلتهما تتصدران المؤشرات العالمية في مجالات التعليم والتنمية والديمقراطية والرفاه وغيرها من المجالات.
لذا، يتوقع أن يؤدي انضمامهما إلى حلف الأطلنطي إلى إحداث تغيير جذري في هذه البيئة المحيطة، ويحولها من بيئة تعاونية إلى بيئة صراعية قد تضرّ بها وبمن حولها، بل يمكن القول إنَّ حالة عدم الاستقرار القائمة حالياً في منطقتي البلطيق والبحر الأسود سوف تمتدّ لتشمل كل شمال أوروبا وشرقها، الأمر الذي سيؤدي حتماً إلى تغيير المعطيات الجيوسياسية، ليس في أوروبا فحسب، إنما في منطقة البحر المتوسط القريبة أيضاً، ومن ثم ستكون له انعكاسات سلبية كبيرة على حالة السلم والأمن في العالم ككل.
يربط الخطاب الغربي السائد حالياً ربطاً عضوياً بين إقدام فنلندا والسويد على طلب الانضمام إلى حلف “الناتو” وما يجري حالياً في الساحة الأوكرانية، فهو خطاب يروّج لمقولة أن هاتين الدولتين لم تكونا ستقدمان على وضع نهاية لحيادهما المعلن منذ سنوات طويلة لولا الاجتياح الروسي لأوكرانيا.
ولكن هذه المقولة تنتمي إلى عالم الدعاية، وتعكس حدة الصراع الأيديولوجي المحتدم حالياً بين الشرق والغرب، أكثر مما تنتمي إلى عالم البحث عن الحقائق المجردة، فالحياد المعلن لكلٍّ من السويد وفنلندا لم يمنعهما من المشاركة في التدريبات العسكرية لحلف الناتو منذ سنوات، ومن عقد أوثق الروابط مع الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي في مختلف المجالات.
ولم يعد خافياً عن أحد أنَّ الهدف الرئيسي من سياسة التوسع والتمدد شرقاً، وهي السياسة التي انتهجها حلف الناتو فور سقوط الاتحاد السوفياتي وانهياره، والتي ما تزال مستمرة حتى الآن، لم يكن تطويق روسيا ومحاصرتها ومنعها من التطلع إلى استرداد النفوذ السوفياتي السابق في نظام عالمي ثنائي القطبية فحسب، إنما تمكين الولايات المتحدة من مواصلة هيمنتها المنفردة على النظام العالمي أيضاً.
وقد شكّل العام 1997 نقطة تحول كبرى في تعميق النهج التوسعي لحلف الناتو. خلاله، انضمت إلى الحلف 14 دولة جديدة، بعضهما أعضاء سابقون في الاتحاد السوفياتي أو يدورون في فلكه، وبعضها يقع على حدود روسيا الغربية مباشرة، وهي: إستونيا، لاتفيا، ليتوانيا، بولندا، جمهورية التشيك، سلوفاكيا، المجر، رومانيا، سلوفاكيا، كروانيا، الجبل الأسود، ألبانيا، مقدونيا الشمالية، وبلغاريا.
ومن الواضح تماماً لأي متابع للسياسة الدولية أن الشهية التوسعية لحلف الناتو ظلَّت مفتوحة وراغبة في التهام المزيد من دول أوروبا الشرقية، وخصوصاً دول الجوار المباشر لروسيا، وأنَّ جورجيا وأوكرانيا دخلتا في السنوات الأخيرة في مرمى النيران الناتوية، وهو ما يفسر، ولو جزئياً، رد فعل روسيا تجاه الأزمات التي اندلعت في هاتين الدولتين في العامين 2008 و2014، ثم تدخّلها الأكثر عنفاً في الأزمة الأوكرانية الحالية التي وصلت إلى ذروتها بقرار روسيا استخدام القوة المسلحة ضد أوكرانيا ابتداء من 24 شباط/فبراير الماضي.
في سياق كهذا، يصعب التسليم، من دون مناقشة، بمقولة أن الحرب الروسية على أوكرانيا هي وحدها السبب في دفع السويد وفنلندا إلى طلب الانضمام إلى حلف الناتو، كما يصعب التسليم بأن خطوة تصعيدية كهذه يمكن أن تسهم في تحقيق السلم والأمن لأي من الأطراف المتصارعة.
ولو أن حلف الناتو كان قد ألقى بثقله، لحمل الأطراف المعنية على تنفيذ اتفاقية مينسك المبرمة منذ عدة أعوام، أو استجاب للضمانات الأمنية التي طلبتها روسيا في أعقاب تصاعد الأزمة الأخيرة في أوكرانيا، ولأمكنه قطعاً تجنب وقوع الغزو العسكري، وربما أمكنه أيضاً التوصل إلى صيغة للأمن في أوروبا لا تضمن حياد شمال أوروبا فحسب، إنما شرقها أيضاً!
بعبارة أخرى، يمكن القول إن حسن النيات كان كفيلاً بتحويل شمال أوروبا وشرقها معاً إلى منطقة عازلة أمنياً بين روسيا وحلف الأطلنطي، وإلى منطقة للتواصل وبناء الجسور بين الشرق والغرب، لكن من أين يأتي حسن النيات في الوقت الذي يرى الغرب روسيا دولة معادية، ويسعى لتحويل أوروبا الشرقية إلى رأس حربة موجهة إلى صدرها؟
إن انضمام فنلندا والسويد إلى حلف الناتو، إن تم، سيكون خطوة في الاتجاه الخاطئ، لأنه، ببساطة، يعكس إصراراً من جانب الولايات المتحدة وحلفائها على التصعيد في مواجهة روسيا، ويشكّل حلقة جديدة في سلسلة المحاولات المتواصلة من جانب الغرب لاحتوائها ومحاصرتها، ولأنها خطوة ستثير بالضرورة ردود أفعال مضادة تعبر عن إصرار روسيا على رفض الحصار المضروب حولها ومقاومته بكلِّ الوسائل والطرق الممكنة، ولو أدّت هذه المحاولات إلى زعزعة الاستقرار العالمي وتعريض السلم والأمن الدوليين لمخاطر كبيرة.
بقي أن نشير إلى أن روسيا أوشكت حالياً على إحكام سيطرتها على شرق أوكرانيا كله، شماله وجنوبه، بما في ذلك ميناء ماريوبل الاستراتيجي، وهي الآن على وشك إحكام سيطرتها على ميناء أوديسا، ما سيمكنها من فرض العزلة البحرية الكاملة على أوكرانيا.
وانضمام فنلندا والسويد إلى حلف الناتو سيضع العالم كله أمام مفترق طرق؛ فإما التفاوض من أجل التوصل إلى صيغة جديدة للأمن في أوروبا، كمرحلة أولى يتعين بالضرورة أن تعقبها مرحلة تفاوض تالية بحثاً عن صيغة جديدة للأمن الجماعي تفضي إلى إصلاح جذري للأمم المتحدة في الوقت نفسه، وإما مواصلة العناد القائم حالياً، إلى أن يصبح العالم كله على شفا حرب عالمية لن تنتهي إلا بفناء الجميع، فأي طريق سيختار قادة العالم؟