ضمانة مستقبل لبنان التي أسقطت العصر الإسرائيلي
موقع قناة الميادين-
نور الدين إسكندر:
تحولت المقاومة اللبنانية إلى عامل القوة الأبرز لدى لبنان، وإلى قوة ردع أساسية، وتنامت لتشكّل التهديد الأكبر الذي تخشاه “إسرائيل”.
مع حلول الخامس والعشرين من أيار/مايو من هذا العام، يكمل لبنان 22 عاماً من سنوات تحرير أراضيه من الاحتلال الإسرائيلي (باستثناء مزارع شبعا وتلال كفرشوبا). 22 عاماً تلت 22 عاماً أخرى هي سنوات الاحتلال الذي اجتاح لبنان في العام 1978، واستمر إلى العام 2000، رافضاً تنفيذ قرار مجلس الأمن رقم 425 الذي صدر عقب اجتياح 1978.
هذه التواريخ قد تبدو جافةً وخرساء، لكن اللبنانيين يحفظونها عن ظهر قلب. يسجلونها في وجدانهم، ويستعيدون تفاصيلها وأحداث المراحل المختلفة التي أخذتهم من تاريخٍ إلى آخر. بين هذه التواريخ المتباعدة، جرت قصص استثنائية من كتاب لبنان الاستثنائي بتركيبته واجتماعه وسياسته، بل بمعانيه كوطن قيل فيه إنه يمثل رسالةً للعالم أكثر مما يمثل وحدةً سياسيةً تتشابه مع غيرها من الدول.
عذاباتٌ وتغريبات حملت اللبنانيين إلى العالم، تارةً مكرهين، وتارةً أخرى متوثبين نحو صنع الحياة في أصقاع الأرض، وهي مهنةٌ اعتنقوها منذ زمن طويل، حتى تمرسوا في أدائها وعيشها. وعلى سيرة التمرّس في صنع الحياة، فإن الاحتلال الإسرائيلي عانى في لبنان الأمرين من براعة اللبنانيين في هذه الصنعة التي حملت لهم المجد الذي تم تأريخ بعضه في 25 أيار/مايو 2000.
صناعة خيار المقاومة
يحفظ مجتمع المناضلين حول العالم للمقاومة اللبنانية ميزةً لم تُسجّل عند غيرها من المقاومات، وهي أنها وُلدت قبل نشوء الاحتلال نفسه، فالمقاومة اللبنانية تأسست على مراحل مختلفة في سياق نسقٍ متصاعدٍ على مستوى الفاعلية والتنظيم والقدرة على الضرب والدفاع، فامتزجت بدايةً ضمن تشكيلات عربية وفلسطينية في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية، ومشت في شرايين المقاومة الفلسطينية، فكانت شريكاً في رفدها بالعديد والأفكار والدماء منذ اتفاق القاهرة في العام 1969، ثم تحولت لتشكّل شخصيتها كأفواج مقاومة وطنية لبنانية منذ أوائل السبعينيات من القرن الماضي، الأمر الذي لم يكن مجرد إعلان نيات لمقاتلة “إسرائيل”، فتحول إلى مواجهة عسكرية بطولية لمحاولات “إسرائيل” الدخول إلى تلال شلعبون والطيبة ورب ثلاثين في العام 1977.
وفي المسار نفسه، كانت القوى الوطنية اللبنانية المنتمية إلى أحزاب اليسار والسوريين القوميين الاجتماعيين وفصائل المقاومة ذات التوجهات القومية العربية والإسلامية تنتظم ضمن تشكيلات عسكرية مقاومة، وتشتبك مع الاحتلال الذي اجتاح لبنان في العام 1978.
ومع توسع الاحتلال وشنّه حرباً هستيرية على لبنان ودخوله بيروت في العام 1982، شهدت المقاومة تحولاتٍ دراماتيكية في تشكيلاتها وقدراتها وطبيعة عملها، أدت إلى انطلاق مرحلة جديدة من العمل المقاوم، فتأسست في إثر ذلك المقاومة الإسلامية.
لقد تصاعد نسق العمل المقاوم بعد العام 1982 بصورةٍ متسارعة أسست للانتصارات الكبرى التي سجلتها المقاومة على العدو الإسرائيلي، بدءاً من تحرير بيروت، ومروراً بتحرير الجبل وصيدا، وصولاً إلى ما عرف بالشريط الحدودي الذي استمر حتى العام 2000؛ التاريخ الذي تحول معه لبنان إلى مساحة انتصار مستمرة حتى اليوم في وجه “إسرائيل” والجبهة المرعبة لجنود الاحتلال وقادته.
لقد تمكنت المقاومة بتشكيلاتها المختلفة من فرض إسقاط “اتفاق السلام” بين لبنان و”إسرائيل”، والذي فرضه الاحتلال بعد اجتياح 1982، وشكلت هذه المحطة تحولاً هائلاً في الحياة السياسية اللبنانية التي بدا لوهلةٍ أنها ستسير وفق رغبات الاحتلال، لتحول لبنان إلى دولة تطبيعٍ لا مكان فيها لخيارٍ وطنيٍ سيادي.
ومع سقوط الاتفاقية، ودخول القوى الوطنية إلى الحياة السياسية، وتصاعد وتيرة العمليات العسكرية ضد الاحتلال في الجنوب، بدأت ملامح الانتصارات الكبرى ترتسم في طالع الوطن الصغير الذي لم يكن يحتوي قدراتٍ معتبرة عند حساب موازين القوى مقارنةً بقوة الاحتلال وحلفائه في ذلك الوقت.
وبالرجوع إلى ذلك المناخ الثوري الزاخر بالعطاء، تستعاد صور المقاومين الأوائل الذين كثفوا عملياتهم الاستشهادية الرائدة في حفر الشروخ الأولى في صورة “الجيش” الإسرائيلي وأسطورة مناعته من التقهقر والهزيمة.
شكّلت الثمانينيات زخماً ثورياً متفجراً زعزع بسرعةٍ قدرات الاحتلال على الصمود. ويمكن القول إن السنوات الفاصلة عن التحرير في العام 2000 كانت بمعظمها سنوات مكابرةٍ إسرائيلية سمتُها الأساس حالةٌ من الإنكار ورفض تصديق الحقيقة التي كانت تؤكد نفسها يوماً بعد يوم، وشهيداً وراء شهيد، وعمليةً تلو عمليةٍ.
صار العالم مع نهاية الثمانينيات وتوالي التسعينيات سنةً بعد أخرى يتنبه إلى حجم ما يحدث في جنوب لبنان. كانت رايات المقاومة تُزرع فوق مواقع الاحتلال بوتيرةٍ شبه يومية، على وقع مؤثرات صوتية حية قوامها رصاص وقذائف ثلل من حفاة المدن، المسلوبي القرى، الذين صنعوا من إيمانهم وقود قطار التحرير.
كانت مشاهد العمليات في المواقع واستهداف الأرتال الإسرائيلية تحدث أعراساً في المناطق اللبنانية المحررة. ومع توالي الأعراس، كان اللبنانيون يشعرون بقرب انبلاج الفجر في أية لحظة. وحده الاحتلال كان مصراً على الإنكار، وكان إصراره ينتج موجات هستيرية من الحروب المتقطعة، فشنّ عدوان 1993، ثم 1996، وقبلهما ومعهما وبعدهما هجماتٍ يائسة، في محاولة لتعطيل مسار التاريخ الذي كانت معالمه تتضح مع مرور الوقت.
فرضت المقاومة نفسها بعد عدوان نيسان كقوة مقاومة معترف بها دولياً، وزادت من وتيرة نشاطها لتفرض على الاحتلال الانسحاب في أيار/مايو 2000. لم يتمكّن الاحتلال من ابتلاع هزيمته الكبرى. لقد كان حجم الهزيمة أكبر من قدرته على تصنيع المغالطات وترويج البروباغندا الحربية التي لطالما برع في تسويقها وكسب معاركها.
بدأت “إسرائيل” تتحضر بسرعة لاستعادة هيبتها وقدرتها على إخضاع أعدائها، مستعينةً بتغيرات كبرى شهدتها منطقة الشرق الأوسط، مع إطلاق الولايات المتحدة حربها العالمية على “الإرهاب”، واختيار العراق نقطة ارتكاز لها في المنطقة لمحاصرة سوريا وإيران وحركات المقاومة في فلسطين والمنطقة.
حاولت “إسرائيل” استغلال الوجود الأميركي في المنطقة، فمدّت أخطبوطها الأمني لتغتال قيادات من المقاومة في قلب لبنان، وتوالت الاغتيالات لينفجر لبنان مع اغتيال رئيس وزرائه الأسبق رفيق الحريري، وهو الشخصية البارزة الواقعة على تقاطعات إقليميةٍ ودوليةٍ حساسة، والذي كانت تربطه بالمقاومة علاقات جيدة عبر عنها في أكثر من مناسبة، أبرز محطاتها تبلور خلال عدوان نيسان/أبريل 1996، عندما قاد الموقف الدبلوماسي اللبناني إلى ترجمة تضحيات المقاومة في الميدان إلى اعتراف عالمي بها كقوة مقاومة مشروعة لاحتلال غير مشروع.
حاولت “إسرائيل” تفجير علاقات المقاومة مع بقية اللبنانيين، فسارعت بعد سنة ونصف السنة من اغتيال الحريري إلى شنّ حرب شعواء على لبنان، أعلنت خلالها أهدافها بالقضاء على حزب الله، وتدمير سلاح المقاومة، وإيصال قواتها إلى نهر الليطاني في عمق الجنوب اللبناني، لتفرض منطقةً أمنيةً تعيد من خلالها الزمن إلى ما قبل العام 2000.
لكنَّ المفاجآت كانت قد بدأت للتو. لقد كان التحول كبيراً جداً إلى درجة أنَّ مفاعليه لم تنتهِ حتى اليوم، إذ تولّد مسار جديد بعد انتصار المقاومة في تلك الحرب، ومنعها العدو من تحقيق أهدافه المعلنة، وتمكنها من ضرب عمق مدنه ومستوطناته والتهديد بتوسيع رقعة وقوة ضرباتها، الأمر الذي أدت حسابات احتمالاته إلى ولادة معادلة ردع جديدة بين لبنان والكيان الإسرائيلي، قوامها من الجانب اللبناني قدرة المقاومة على الرد في أية نقطة داخل فلسطين المحتلة على أي عملٍ عدائي يمكن أن يقوم به “جيش” العدو أو طائراته أو أجهزته الأمنية.
لقد أدت النتائج المباشرة وغير المباشرة لانتصار تموز 2006 إلى صمود حالة الأمن في جنوب لبنان لأطول فترة متواصلة منذ تأسيس الكيان الإسرائيلي في العام 1948، فالحدود اللبنانية الفلسطينية كانت منذ ذلك التاريخ حدوداً متوترة، إذ تدفقت إليها أفواج اللاجئين الفلسطينيين الذين لاحقهم الاحتلال بعد أن سرق بيوتهم وأراضيهم، وهم بدورهم أسسوا لعملهم المقاوم انطلاقاً من أماكن لجوئهم في دول الجوار، ومنها لبنان، الذي أصبح بفعل اتفاقية القاهرة في العام 1969 مساحة عمل مقاوم لمنظمة التحرير الفلسطيني، ثم توالت اعتداءات “إسرائيل” على الجنوب اللبناني، لتتبع ذلك باحتلالٍ لأكثر من عقدين.
وبناء عليه، إنّ السنوات الـ16 التي مرت منذ انتصار تموز 2006 هي السلسلة الأطول من هدوء الأمن في جنوب لبنان، والمرة الأولى التي يتمكَّن فيها لبنان من حماية أراضيه من الاعتداءات الإسرائيلية بصورةٍ تامة، والأمر من دون شكٍ يعود في أول أسبابه إلى قدرة الردع التي وفرتها المقاومة له.
حربٌ أخرى هجينة
على الرغم من هدوء الجبهة الجنوبية، لم تتوقف “إسرائيل” عن محاولاتها لضرب لبنان ومقاومته، فبصماتها في تفجير الساحة السورية وأعمالها الحربية في الداخل السوري، ودعمها مجموعاتٍ متطرفة خلال الأزمة السورية، هدفت بصورةٍ أساسية إلى ضرب المقاومة في لبنان من جهة، وإخراج سوريا من محور المقاومة عبر دعم المجموعات الإرهابية في محاولة إسقاط النظام من جهةٍ ثانية.
لقد تحوّل الهدف الإسرائيلي، مدعوماً بالموقف الأميركي، إلى محاولة كسر العقدة الأساس في خط المقاومة الممتد من طهران إلى فلسطين، والذي تشكل سوريا نقطة وصل لا غنى عنها فيه. تدخّلت المقاومة في سوريا هذه المرة، وتمكنت بعد سنوات من القتال الشرس من القضاء على مشروع كسر سوريا وإخراجها من محور المقاومة والانقضاض على المقاومة في لبنان وفلسطين.
وعلى الرغم من التضحيات الكبيرة التي بذلتها في هذه المعركة، فقد كان وقع الانتصار فيها يغير تصنيفها عند القوى الدولية من قوة مقاومة محلية محدودة الأثر إلى قوة إقليمية لا يمكن إغفال تأثيراتها عند إتمام الحسابات الكبرى في المنطقة برمتها.
واليوم، مع تراجع قدرة “إسرائيل” على الردع، وتراكم قوة المقاومة في المقابل، تواجه الأخيرة محاولات حثيثة لحصارها، ولكن بأساليب جديدة هذه المرة. إنها حرب جديدة هجينة تجمع بين الاستهداف الأمني والحصار الاقتصادي والعقوبات المالية والتصنيف في لوائح الإرهاب ومحاولات العزل السياسي والوصم الاجتماعي داخل بيئة المقاومة ومجتمعها، إذ تشكل الاستحقاقات السياسية اللبنانية محطات معلنة لدى الإدارة الأميركية وحلفائها لضرب المقاومة وعزلها عن المجتمع اللبناني والاستفراد بمكوناتها الواحد تلو الآخر، تمهيداً لإظهار مقاتليها كمجموعاتٍ خارجة عن القانون، تقف على طرف نقيض مع الدولة ومؤسساتها وإرادة حكومتها، الأمر الذي لا تخفيه تصريحات المسؤولين الأميركيين (آخرها تصريحان ديفيد هيل وديفيد شينكر حول الأهداف الأميركية من الانتخابات اللبنانية الأخيرة ومدى القدرة على حصار المقاومة)، لكن على الرغم من ذلك، تخرح المقاومة منتصرةً محمية بمجموع أصوات أغلبية الشعب اللبناني، الأمر الذي يعمّق معضلة أعدائها، ويزيد عجزهم عن مواجهتها.
لقد تحولت المقاومة اللبنانية إلى عامل القوة الأبرز لدى لبنان، وإلى قوة الردع الأساس له، وتنامت لتكون التهديد الأكبر الذي يخشاه العدو الإسرائيلي، ليس على فرصه في كسب الحروب، كما كان في السابق، بل على وجود كيانه.
ولا شك في أن آلاف الشهداء، ويمكن القول عشرات الآلاف منهم، عند استرجاع العقود الماضية من عمل المقاومة في لبنان بمختلف تلويناتها، صنعوا بدمائهم صورة لبنان المنتصر، وهم الذين يحمون اليوم مستقبله وثرواته، بعد أن كانت السياسة اللبنانية ترسم على وقع هدير دبابات شارون في شوارع بيروت. لقد أسقطت المقاومة العصر الإسرائيلي، وفتحت عصر الانتصارات، وهي اليوم تمثّل ضمانة مستقبل لبنان الزاهر.