صورة الإقتصاد العالمي قاتمة.. البنك الدولي يشهد إنتكاسات مأساوية
موقع العهد الإخباري-
د. علي دربج*:
كل شيء في المجرة التي نعيش عليها، يبدو أنه ليس بخير. ففي الوقت الذي يكافح فيه الإقتصاد العالمي لاستعادة عافيته، لا تزال عودة ظهور فيروس كورونا وسلالاته المستجدة (كالمتحور)، تهدد بعرقلة زخم الانتعاش.
ما نشهده اليوم، هو اللاعدالة بكافة تفاصليها، وليس كما هو ظاهر منها بشكل علني، كالفوارق الاقتصادية بين الدول الغنية ونظيراتها الفقيرة، واصحاب المليارات، وآخرين لا يجدون قوت يومهم (وقد يكون هؤلاء من أبناء وطنهم أو جلدتهم)، بل امتدت أيضًا إلى حق أساسي من حقوق الانسان ــ الذي نصّت عليه اتفاقيات حقوق الانسان ــ ألا وهو الرعاية الصحية وحصول جميع سكان العالم على اللقاحات بالتساوي، وبالتحديد لقاحات COVID-19.
مخطئ من يظن أن اللقاحات متوفرة للجميع كما تتطلع منظمة الصحة العالمية، فحقيقة الأمر أن التكافؤ في الحصول على اللقاحات والعلاج، أصبحا ظاهرة مخزية. صحيح أن الحقن المعززة متاحة في بعض الدول الأكثر ثراءً، لكن ما يجهله كثر أن 96 بالمائة، من مواطني البلدان المنخفضة الدخل، لا يزالون غير محصنين من الوباء.
مضاعفات “كورونا” لم تقتصر على الانسان فقط، بل طالت وبشكل خاص اقتصاديات الدول. الفقر والجوع والديون التي لا يمكن السيطرة عليها في جميع أنحاء العالم، جميعها آخذة في الازدياد. كما ان العمالة انخفضت خصوصًا بالنسبة للنساء، الأمر الذي أدى إلى تراجع المكاسب التي تحققت في السنوات الأخيرة.
وبعيدًا عن التنظير، لنذهب الى المرجع الصالح في هذا الإطار، أي صندوق النقد الدولي، لنعرف ماذا يقول عن وضع الاقتصاد العالمي، وما هو تشخيصه للمستقبل.
في أحدث تقرير له (الشهر الحالي) عن آفاق الاقتصاد العالمي، كشف الصندوق أن “معدل النمو الإجمالي سيبقى قريبًا من 6 بالمائة هذا العام”، وهو مستوى مرتفع تاريخيًا بعد الركود، لكنه أشار الى أن “التوسع يعكس تباينًا كبيرًا في حظوظ البلدان الغنية والفقيرة”.
كتبت جيتا جوبيناث كبيرة الاقتصاديين في الصندوق في “التقرير”: “لقد أوضحت التطورات الأخيرة أننا جميعًا في هذا معًا، وأن الوباء لم ينته في أي مكان”.
الآن لنطلع على الواقع الاقتصادي الدولي.
الصورة تبدو قاتمة في الولايات المتحدة وأوروبا والاقتصادات المتقدمة الأخرى، إذ تسببت المصانع التي تعثرت بسبب القيود المرتبطة بكورونا، وتكدس البضائع في الموانئ الرئيسية في جميع أنحاء العالم، بنقص الإمدادات.
كما أن نقص العمال في العديد من الصناعات، ساهم في قلة الانتاج. ذكرت وزارة العمل الأميركية في 13 تشرين الاول الجاري، أن 4.3 مليون عامل، استقالوا من وظائفهم في آب الماضي، للعمل في اماكن اخرى أو البحث عن وظائف جديدة.
اكثر من ذلك، دفع ضعف الاستهلاك في الولايات المتحدة، والانخفاض الكبير في مخزون السلع، صندوق النقد، إلى تقليص توقعاته للنمو إلى 6 بالمائة، بعدما كان تقديره في تموز الماضي 7 المائة. في حين تعرض الإنتاج الصناعي في المانيا، لضربة بسبب صعوبة العثور على السلع الأساسية، وأدت إجراءات الإغلاق خلال الصيف إلى إضعاف النمو في اليابان.
التضخم – حتى لو كان من المحتمل أن يكون مؤقتًا – الآخذ في الازدياد، بات هاجسًا يقلق الجميع، وقد تسبب بارتفاع أسعار المواد الغذائية والأدوية والنفط وكذلك السيارات والشاحنات. ليس هذا فحسب، فالخوف من التضخم أيضًا، حدّ من قدرة الحكومات على تحفيز الاقتصاد إذا تفاقم التباطؤ، وهو ما انعكس سلبًا عليها، حيث إأن التدفق غير المعتاد للدعم الشعبي (اي المساعدات) في الولايات المتحدة وأوروبا، يشهد تراجعًا ملحوظًا. وتعليقًا على ذلك قالت جوبيناث: “بشكل عام، زادت المخاطر على الآفاق الاقتصادية، وأصبحت المقايضات السياسية أكثر تعقيدًا”.
امام هذا الواقع، خفض صندوق النقد الدولي (المفارقة ان مديره التنفيذي، يزور لبنان حاليا لمناقشة خطة التعافي الاقتصادية!) توقعاته للنمو العالمي لعام 2021، إلى 5.9 بالمائة، بعد أن كانت تقديراته في تموز الماضي 6 بالمائة. أما فيما يتعلق بالعام 2022، فمن المتوقع ان تبلغ التقديرات 4.9 في المائة.
للوقوف على ما يجري، لندقق بما شرحه جريجوري داكو، كبير الاقتصاديين الأميركيين في أكسفورد إيكونوميكس (شركة رائدة في مجال التنبؤ العالمي والتحليل الكمي)، الذي قال “المفتاح لفهم الاقتصاد العالمي هو أن التعافي في البلدان المختلفة غير متزامن”، وأضاف: “كل اقتصاد يعاني أو يستفيد من عوامل خاصة به”.
أوضح داكو إنه “بالنسبة لدول مثل الصين وفيتنام وكوريا الجنوبية، التي تمتلك اقتصاداتها قطاعات تصنيعية كبيرة، فإن التضخم الذي يضربها يكون أكثر ضررًا، مما يرفع تكاليف المواد الخام التي تحتاجها خلال عملية الإنتاج”.
انطلاقًا من هذه المعطيات أعلاه، حذر صندوق النقد الدولي من “أنه إذا استمر فيروس كورونا – أو متغيراته – في الانتشار والازدياد، في جميع أنحاء العالم، فقد يقل الإنتاج العالمي المقدر بمقدار 5.3 تريليون دولار على مدى السنوات الخمس المقبلة”.
أولى العلامات جاءت من قطاع الطاقة. ينبئ الارتفاع الكبير في أسعارها في جميع أنحاء العالم، بظهور المزيد من المصاعب لأنه يعيق الانتعاش. الأسبوع الماضي، وصلت أسعار النفط إلى أعلى مستوى لها منذ سبع سنوات في الولايات المتحدة. ومع اقتراب فصل الشتاء، يشعر الأوروبيون بالقلق من ارتفاع تكاليف التدفئة التي تعتبر من المقومات الأساسية للحياة في هذه القارة، بسبب انخفاض درجات الحرارة. وفي مناطق أخرى من العالم، زاد النقص في الطاقة بشكل أكبر، مما تسبب في انقطاع التيار الكهربائي في بعض الأماكن، مما شل حركة النقل، وأدى لإغلاق المصانع، وهدد الإمدادات الغذائية.
الصين كانت بدورها في طليعة الدولة المتضررة، إذ يتم تقنين الكهرباء في العديد من المقاطعات وتعمل العديد من الشركات بأقل من نصف طاقتها، مما يساهم في حدوث تباطؤ كبير بالفعل في النمو. والأمر كذلك يسري على الهند، التي انخفضت احتياطيات الفحم لديها إلى مستويات خطيرة.
صحيح أن منتجي النفط في الشرق الأوسط وأماكن أخرى قد استفادوا مؤخرًا من ارتفاع الأسعار. لكن العديد من الدول في المنطقة وشمال إفريقيا لا تزال تحاول إنعاش اقتصاداتها التي ضربها الوباء.
وفقًا لتقارير محدثة مؤخرًا للبنك الدولي، فإن 13 دولة من أصل 16 دولة في تلك المنطقة سيكون لديها مستويات معيشية أقل هذا العام، مما كانت عليه قبل الوباء، ويرجع ذلك في جزء كبير منه إلى “ضعف التمويل، وعدم التوازن وسوء الاستعداد للنظم الصحية”.
العديد من البلدان كانت مثقلة بالديون حتى قبل الوباء، لدرجة أن الحكومات اضطرت إلى الحد من الإنفاق على الرعاية الصحية لسداد القروض للمقرضين الأجانب.
في أمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي مثلًا، هناك مخاوف من ضياع عقد ثان من النمو مثل ذلك الذي حدث بعد عام 2010، فيما في جنوب إفريقيا، فإن أكثر من ثلث السكان عاطلون عن العمل.
أما في منطقة شرق آسيا والمحيط الهادئ، فقد حذر تحديث للبنك الدولي من أن “كوفيد -19 يهدد بخلق مزيج من النمو البطيء وزيادة عدم المساواة لأول مرة في هذا القرن”.
وعلى خط مواز، خسرت الشركات في إندونيسيا ومنغوليا والفلبين في المتوسط 40 بالمائة أو أكثر من مبيعاتها الشهرية المعتادة. ومن المتوقع أن يكون إنتاج تايلاند والعديد من اقتصادات جزر المحيط الهادئ أقل في عام 2023 مما كان عليه قبل الوباء.
على المقلب الاخر، بعض الاقتصادات النامية تعمل بشكل أفضل من العام الماضي، ويرجع ذلك جزئيًا إلى الزيادة في أسعار السلع مثل النفط والمعادن التي تنتجها. إذ ارتفعت توقعات النمو في هذه الاقتصاديات، بشكل طفيف إلى 6.4 بالمائة، في عام 2021، مقارنة بـ 6.3 بالمائة المقدرة في تموز الفائت.
قال كبير الاقتصاديين في شركة “نورثرن ترست” (للخدمات المالية ومقرها في شيكاغو في الولايات المتحدة): “كان الانتعاش غير منتظم بشكل لا يصدق، وهذه مشكلة للجميع. البلدان النامية ضرورية للوظيفة الاقتصادية العالمية”.
إن عدم اليقين يهيمن على التوقعات. حذر صندوق النقد الدولي من أن القرارات السياسية غير المنتظمة – مثل تأخير الكونجرس في رفع سقف الديون – يمكن أن تزيد من انتكاسة الانتعاش. لكن الخطر الأكبر هو ظهور نوع أكثر عدوى وفتكا من فيروس كورونا. وتبعا لذلك، حثت جوبيناث في صندوق النقد “مصنعي اللقاحات على دعم التوسع في إنتاج اللقاح في البلدان النامية.
في وقت سابق من هذا العام، وافق صندوق النقد الدولي على ما قيمته 650 مليار دولار من احتياطيات العملة الطارئة التي تم توزيعها على البلدان في جميع أنحاء العالم. في تقريره الأخير، جدد الصندوق مرة اخرى دعوة الدول الغنية للمساعدة في ضمان استخدام هذه الأموال لصالح البلدان الفقيرة التي كانت تكافح أكثر من غيرها من تداعيات الفيروس.
وليس بعيدا عن ذلك، قال ديفيد مالباس، رئيس البنك الدولي “اننا نشهد ما أسميه الانتكاسات المأساوية في التنمية عبر العديد من الأبعاد. إن التقدم المحرز في الحد من الفقر المدقع قد تأثر لسنوات وبالنسبة لبعض الدول، لعقد من الزمان”.
*باحث ومحاضر جامعي