صراع بين التعدديين والأحاديين والضحية سوريا
صحيفة الخليج الإماراتية ـ
رغيد الصلح:
يعرّف علماء في العلاقات الدولية القوة العظمى بأنها تلك التي تستطيع أن تهزم أعداءها على الصعيد الدولي مجتمعين . ويعرّف هؤلاء القوى الإقليمية بأنها تلك التي تستطيع أن تهزم أعداءها وخصومها دفعة واحدة على المستوى الإقليمي، ويعرفون القوى الوطنية بأنها تلك التي تتفوق على سائر منافسيها ودفعة واحدة على الصعيد الوطني . إذا طبق هذا التعريف بدقة، فمن هو الأكثر جدارة بحمل لقب القوة العظمى خلال العشرينات؟ ومن هو الأجدر بالحفاظ عليه خلال القرن الراهن؟ الجواب الشائع والمنتشر هو أنه الولايات المتحدة الأمريكية هي القوة العظمى .
الولايات المتحدة هي الدولة – الاستثنائية- والأمة التي – لا يستغى عنها – فما من دولة تمكنت مثل الولايات المتحدة من الانتصار على النظم السلطانية والقيصرية وعلى النازية وعلى الشيوعية في ثلاث حروب عالمية متتالية . وما من دولة تفوقت على أعدائها في شتى أنواع الحروب (الساخنة والباردة، العالمية والإقليمية) كما فعلت الولايات المتحدة . وما من بلد تمكن حتى عام 2009 من حيازة اقتصاد فاق حجمه ضعفي حجم اقتصاد البلد الذي يليه مثل الولايات المتحدة . وما من أمة تنفق على دفاعها الوطني مبلغاً يفوق مجموع ما تنفقه الدول الأربع عشرة التي تأتي من بعدها في هذا المضمار، مثل الأمة الأمريكية . وما من دولة تملك من الطاقات العسكرية، ما يمكنها من التحرك في سائر مناطق العالم كما تفعل الولايات المتحدة .
هذا صحيح، ولكن الولايات المتحدة لم تدخل أي حرب من هذه الحروب وحدها، بل دخلتها جنباً إلى جنب مع قوى عالمية أخرى لا تقل عن الولايات المتحدة من حيث أحجامها العسكرية والاقتصادية والبشرية . إذا كان هذا التعريف في محله، فإن بريطانيا هي التي تستحق تجديد لقب القوة العظمى، لأنها تحملت عبء مواجهة الهتلرية والقارة بأسرها لأكثر من عام خلال الحرب العالمية الثانية . ولكن ما من بريطاني عاقل يقول لك إن بريطانيا اليوم أو أي بلد في العالم قادر على الاضطلاع بهذا الدور اليوم . إن البعض يقول الولايات المتحدة تستحق لقب القوة العظمى لأنها تمكنت من إنقاذ حلفائها الأوروبيين من هزيمة محققة خلال الحربين العالميتين الأولى والثانية . هذه النظرة تقلب الحقائق رأساً على عقب . فالحلفاء الأوروبيون هم الذين دفعوا فاتورة الحرب نيابة عن الولايات المتحدة بعد أن تلكأت في دخولها بسبب النزعة الانعزالية التي كانت منتشرة بين الأمريكيين خلال أول عامين من الحرب . بتعبير آخر، ليس من العظمة في شيء أن تدير الدولة ظهرها لحلفائها الطبيعيين عندما تقتضي مبادئ التضامن الدولي والحكمة السياسية أن تقوم بنجدتهم .
يقول البعض إن الاتحاد السوفييتي هو الذي استحق لقب القوة العظمى عندما وصل إلى ذروة قوته في منتصف الأربعينات . عندها اكتسح الجيش الأحمر القوات الألمانية ولعب الدور الأول في تقويض النظام النازي في ألمانيا . لم يأت ذلك النصر بسهولة، إذ اضطر السوفييت أن يدفعوا ضريبة الدم الغالية بعد أن سقط لهم ما يقارب 27 مليون ضحية خلال الحرب، وعندما دمرت المئات من البلدات والمدن الروسية بعد أن طبقت استراتيجية الأرض المحروقة في الحرب .
هذا صحيح أيضاً، ولكن الاتحاد السوفييتي لم يتمكن وحده من إلحاق الهزيمة بالقوى الدولية الأخرى خلال تلك المرحلة . بالعكس كان الاتحاد السوفييتي يمثل ركناً من أركان تحالف قوي ضم الولايات المتحدة وبريطانيا . وتصل تقارير ودراسات تاريخية ودولية عديدة ومهمة إلى أنه لولا المعونات الجزيلة التي تدفقت على الاتحاد السوفييتي من حلفائه لما تمكن وقتها من الصمود في وجه عدو واحد من أعدائه التاريخيين، أي ألمانيا النازية وحليفيها الفاشي في إيطاليا والإمبراطوري في اليابان .
إذا أردنا الاقتراب بدقة أكبر من تحديد الدولة أكثر استحقاقاً للقب القوة العظمى، لقلنا إنها كانت بالفعل الدولة السوفييتية في مرحلة السبعينات، لأنها كانت تواجه حرباً باردة في الغرب والشرق، وعندما تعاونت الولايات المتحدة والصين ضد موسكو وحلفائها في آسيا، ولأن الحرب وصلت إلى ذروتها في حرب فيتنام عندما تمكن الفيتناميون بمساعدة الاتحاد السوفييتي من إلحاق الهزيمة بالقوات الأمريكية وحلفائها . لقد احتفظت موسكو بهذا اللقب لعدد محدود من السنوات، ولكنها اضطرت هي الأخرى إلى التخلي عنه . لقد خسرت موسكو تلك الحرب ليس لعطل أساس في الدولة السوفييتية، ولكن لأنها كانت حرباً مستحيلة للوصول إلى هدف مضمر غير قابل للتحقيق . كلفت تلك الحرب الدولة السوفييتية الروسية أكثر من نصف سكانها وناتجها المحلي وأرضها، كما كلفتها أيضاً قسماً كبيراً من قواتها المسلحة وخسارتها مكانتها الدولية .
تبدو الأمة السورية اليوم وكأنها تجديد للحرب الباردة، حيث كانت النتيجة المتوقعة لهذه الحرب هي ولادة نظام عالمي تسيطر عليه قوة واحدة . اليوم نجد أنفسنا أمام حرب مختلفة الأهداف . إنها ليست بين دولتين أو قوتين تتطلع كل واحدة منها إلى السيطرة على النظام الدولي . إنها بين تعدديين يرغبون في قيام نظام دولي تعددي الطابع، وبين أحاديين أو في أحسن الحالات ثنائيين يريدون حصر مصير العالم كله في أيد قليلة ولمصلحة مجموعات بشرية محدودة العدد أنانية النزعة . التعدديون مثلهم مثل الأحاديين، ليسوا محصورين في معسكر من معسكرات السياسة الدولية وحصونها وقلاعها – كما تقول لغة الحرب الباردة . الأحاديون موزعون على سائر الدول المعنية بالصراع حول سوريا . الصراع بين التعدديين والأحاديين يبدو إلى حد بعيد صراع بين الذين يحاولون إنجاح مساعي مؤتمر جنيف للسلام في سوريا، وبين من يعارضون المؤتمر . الفريق الأخير يريد العودة بالسياسة الدولية إلى عصر الحرب الباردة . إحياء هذه الحرب تفيد صناع الحروب، كافة أشكال الحروب والعنف، ويدفع ثمنها في سوريا أولئك الذين يؤكدون أنه الطريق إلى إنهاء الحرب الذي يمر عبر جنيف .