صبرا وشاتيلا: فضائح الصمت وعار الكلام
موقع العهد الإخباري ـ
زينب عقيل:
“في تاريخ المجازر، يتكلم الموت أولًا، ثم يتكلم القتيل، ثم يتكلم القاتل”. أنها عملياتٌ تتصف عادة بالسرية، إلا عندما يقرر مرتكبوها استخدامها في الدعاية والحرب النفسية . الواقع أن مجزرة صبرا وشاتيلا، تخطت في وقائعها القدرة على استيعابها في ذلك الوقت؛ على الرغم من أنها جاءت في إطار الحرب النفسية. حتى إن الجهود السياسية لتشويشها، وممارسات إخفاء معالم الموت، بدت أكثر فضحًا.
بعد 43 ساعة من القتل والخطف والذبح الجماعي بالأسلحة الصامتة، بدأ القتلة بجرف الجثث ودفنها. وُضِعت جثث أخرى في سيارات الشحن ورُميت في أماكن خارج المخيم. بحسب أحدى الشهادات، كان هنالك ضحايا أحياء أُلقي بهم في البحر بالقرب من الناعمة والدامور، مع أكياس ثقيلة كي يغرقوا في الأعماق، ويكون من المستحيل اكتشاف جثثهم.
في أول شتاء يمر على شاتيلا بعد أيلول سبتمر 1982، كان مستغربًا أن تغمر مياه الأمطار الطرقات بدلًا من أن تستوعبها المجارير الكبيرة التي أعدت حديثًا. لكن ما إن فتحها المتعهدون الدنماركيون حتى تبين أنها مسدودة بالجثث. واكتُشِفت لاحقًا جثث أخرى في مجارير منطقة بئر حسن، على دفعات طيلة ذلك الشتاء.
المجزرة التي أنارت سماءها القنابل المضيئة على طول ليلتين، كانت صامتة. حتى إن شوارع بيروت المجاورة لم تلحظ أن ثمة وحوشًا تنهش في ذلك القفص الذي شكلته القوات الاسرائيلية بقيادة أرييل شارون. بعد إحكام المنافذ، أُدخلت إليه مجموعات من مجرمي الحرب اللبنانية.
مراسل جريدة واشنطن بوست لورين جنكينز يتحدث عن مشهدٍ لعائلةٍ كانت صُرعت بالرصاص قرب باب الدار، فيقول في حديث إذاعي: “بدا واضحًا أن الرجل كان يتقدم ليرد على طرق البوابة، وقد أردي حيث وقف بالضبط، بينما المرأة التي جندلها الرصاص بقربه كانت تحمل الصحون، أطفال بالحفاضات سقطوا بقربها ورؤوسهم مثقوبة بالرصاص… أجساد مفخخة وُضعت قنابل تحتها بهدف قتل من يهرع لانتشالها..” مراسل جريدة الديلي تليغراف كتب في اليوم التالي لانتهاء المجزرة: “كان هناك لوحات موت في كل مكان“.
المصورة الفوتوغرافية الأميركية مايا شون تقول وهي تعرض الصور المهولة: “لقد رُبطت أذرع الضحايا وأقدامهم بحبال قبل أن يجروا على الأرض، وكان الرجال يساقون إلى ما وراء الزوايا بالسكاكين والفؤوس“.
الإسرائيليون بالتعاون مع عملائهم الذين سيطروا على أجهزة الدولة، لاحقوا هؤلاء الصحافيين، وأتلفوا جزءًا كبيرًا من أفلامهم، وأخرجوهم من البلاد.
صبرا وشاتيلا : كي لا ننسى
إلى ذلك تلقّت البعثة الديبلوماسية اللبنانية إلى الأمم المتحدة الأوامرَ بأن ترفض كل أنواع لجان التحقيق الدولية. من جهتها “إسرائيل” رفضت التحقيق أيضًا. أجمع قادتها أن المجزرة كانت شأنًا عربيًا لا علاقة للاسرائيليين فيه. رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق مناحيم بيغن قال مستنكرًا: “ماذا هناك للتحقيق؟ غوييم (غير اليهود) يقتلون غوييم، ونحن ينبغي شنقنا!” من جهته وزير الداخلية يوسف بورغ قال:” مسيحيون قتلوا مسلمين أين هي مسؤولية اليهود؟“
الروائي يتسهار سميلانسكي انبرى يرد عليهم ساخرًا: ” أفلتنا الأسود الجائعة في الحلبة، فافترست الناس، إذًا الأسود هي المذنبة. من كان يمكنه أن يتصور أنها ستفترس الناس؟“
إلا أن المعاهدات والقوانين الدولية أجمعت على إدانة السلطات المحتلة. إذ اعتبرت “إسرائيل” “دولة” تحتلّ أراضي الغير، وبالتالي “ترث” الواجبات المتعلقة بحماية السكان المحليين. وذلك بناءًا على ما ورد في القانون 49 من اتفاقية لاهاي عام 1907، واتفاقية جنيف عام 1949، والبروتوكول الملحق بها عام 1977.
الواقع أن هذه الإدانة هي الأكثر هزليةً في العصر الحديث، فمن هو الذي يتوقع من الاسرائليين حماية الفلسطينيين؟ خاصة في الوقت الذي أصبح فيه قتل الفلسطينيين “لا يزعج أحدًا” كما عبر الكاتب الإسرائيلي يؤيل ماركوس. وأثبَت هزليّتها أن أيّ محاكمة لم تحصل.
والحقيقة الأخرى أن محاكمة المجتمع الدولي لجرائم الحرب الاسرائيلية تأتي في إطار “الأساطير الحديثة” المتعلقة بالعدالة الدولية. بل إن المحاكم الدولية اليوم لا تنشأ إلا لتحقيق مصالح الراعي الرسمي لـ “إسرائيل” أي الولايات االمتحدة الأميركية. و”المحكمة الدولية لاغتيال الرئيس اللبناني الأسبق رفيق الحريري” نموذجًا.
قبل 34 سنة، ربما كان سؤال تلك المرأة المفجوعة الشهيرةعلى الوسائل الإعلامية وهي تنادي: “أين العرب؟”، يحتمل في طرحه أملًا بنخوةٍ عربية هنا أو إجراءات سياسية وديبلوماسية فعّالة هناك. إلا أنّ الواقع اليوم أثبت أن النخوة العربية منذ أيام النكبة والنكسة في تخدير متزايد، يشتدّ بتصاعد النفوذ السعودي في المنطقة. وأنّ أي استنجاد بالعرب، خاصة ضدّ العدو الاسرائيلي، يندرج في خانة السذاجة السياسة، بل إنها الأسطورة الحديثة الأكثر تداولًا!
منذ تلك المجزرة يتمرغ العرب في فضائح الصمت، وحين يتذكرون فضيحتهم يمارسون عار الكلام من خلال الاستنجاد بالقاتل ليقتص من نفسه لهم، فيطالبون بالعدالة الدولية، في حين أن دولة العدو ظلت تلاحق رموز النازية خطفاً وقتلاً أينما وجدوا وأينما كانوا من الأرجنتين وحتى القاهرة، ونحن لا زلنا صامتين على سبيل الفضيحة وإن تكلمنا فعلى سبيل العار.