“سيناريو” مُخيف دفع “حزب الله” إلى التحرّك ولو بكلفة عالية
لا يختلف إثنان أنّ المجموعات المسلّحة المُوزّعة على بُقع وعرة وغير مُتواصلة في جرود القلمون السورية إمتداداً إلى جرود عرسال اللبنانيّة، والتي هي بقايا الميليشيات التي خسرت معركتي القصير والقلمون، لا تُشكّل أيّ ثقل إستراتيجي في الحرب داخل سوريا. لكن قدرتها على تنفيذ “سيناريو” مُخيف، لا بل مُرعب، دفع “حزب الله” إلى التحرّك عسكرياً ليس في جرود السلسلة الشرقيّة من جبال لبنان فحسب، بل في كامل منطقة البقاع الشمالي، فما هو هذا “السيناريو”؟
بداية، لا بد من التذكير أنّه بعد أن تمكّن الجيش السوري و”حزب الله” وغيره من القوّات غير النظامية التي تعاونه، من بسط السيطرة على بلدات وقرى كل من منطقتي القصير أوّلاً، ثم القلمون ثانياً، فرّ عدد كبير من مقاتلي المعارضة السورية إلى مناطق جرديّة وعرة بين لبنان وسوريا. وبعد فترة زمنيّة إكتفى خلالها هؤلاء بالإختباء وبإرسال بعض السيارات المفخّخة إلى لبنان، أعادوا تنظيم صفوفهم وتجميع قواهم، مُستفيدين من مساعدات لوجستية يتمّ تهريبها لهم بوسائل مختلفة تحت ستار المساعدات الإنسانية والطبّية، وكذلك من بيئة سكّانية حاضنة لهم في بعض المناطق القريبة، خاصة في القلمون. وعلى الرغم من أنّ واقع المُسلّحين المذكورين لا يُشكّل أيّ خطر فعلي على الجبهات القتالية في الداخل السوري، ولا يُمكنه إعادة عقارب الساعة إلى ما قبل سقوط كل من القصير والقلمون، إلا أنّ قدرتهم على الإيذاء كبيرة. وهم نفّذوا خلال الأسابيع القليلة الماضية أكثر من كمين مسلّح، وشنّوا هجمات متفرّقة ومحدودة على أكثر من حاجز ونقطة مراقبة في الداخل السوري، قبل أن ينسحبوا ويختبئوا في المغاور والأنفاق الطبيعية الموجودة بكثافة في المناطق الوعرة المنتشرين فيها. لكن في الأيّام القليلة الماضية، حاولت مجموعات من المسلّحين تُقدّر ببضع مئات التسلّل والتقدّم في إتجاه مواقع حماية ومراقبة متقدّمة تقع في مقابل قرى وبلدات حدودية في الداخل اللبناني. والهدف غير المُعلن طبعاً، هو محاولة إلحاق الأذى بأكبر عدد ممكن من المدنيّين قبل الإنسحاب والفرار مجدّداً.
وبالتالي، لا يوجد أيّ هدف عسكري لمحاولات التسلّل التي يُخطّط لها المسلّحون، لا على المستوى الإستراتيجي ولا التكتيكي، لكن فقط “سيناريو” مخيف يتمثّل بإرتكاب مجازر بحق عدد من المدنيّين، وربما خطف بعضهم، لإثارة الرعب في نفوس كل سكّان المناطق الحدودية في البقاع، ولتوجيه ضربة معنويّة عميقة لقيادة “حزب الله” التي برّرت كل تدخّلها الباهظ الثمن في النزاع السوري، بحماية لبنان وأهله، وبمنع المسلّحين من إرتكاب مجازر كتلك التي ينفّذونها في العراق أو في سوريا. وهذا السيناريو المرعب دفع “حزب الله”، ومن دون أي تردّد، إلى تحريك أعداد كبيرة من مقاتليه المزوّدين بأسلحة ثقيلة، بشكل علني وفي وضح النهار، في عدد من البلدات البقاعية القريبة من الحدود، ومنها على سبيل المثال لا الحصر اللبوة والعين، وذلك في خطوة غير مسبوقة. والهدف توجيه رسالة طمأنة إلى الأهالي بأنّ “الحزب” سيسهر على حمايتهم، ورسالة تحذير إلى المسلّحين بأنّ “الحزب” سيكون بالمرصاد لأي محاولة تسلّل من قبلهم إلى الداخل اللبناني. وترافق ذلك، مع قيام مجموعات مقاتلة من “الحزب”، وبعد الحصول على معلومات عن مخابئ المسلّحين بفعل الجهد الإستخباري والحركة الجويّة لطائرات من دون طيّار تابعة للحزب، بشنّ هجمات محدودة من حيث الإتساع الجغرافي لكن وقائيّة وإستباقية الطابع، وذلك لإبعاد خطر مقاتلي المعارضة السورية عن القرى والبلدات الحدودية في البقاع الشمالي بالتحديد. ويُدرك “الحزب” أنّ هذا النوع من العمليّات مُكلف من الناحية البشريّة في صفوفه، نتيجة صعوبة المنطقة الممتدّة من جرود القلمون وصولاً حتى جرود عرسال، وطبيعتها الوعرة التي تسمح بنصب الكمائن لأيّ قوى مهاجمة، لكنّه يعتبر هذه “التضحية” ضروريّة لقطع الطريق على أيّ إحتمال أو فرصة لمسلّحي المعارضة السورية بارتكاب أيّ مجزرة بحقّ المدنيّين، لأنّ من شأن حصول هكذا فِعل أن يُشكّل مصيبة ميدانية ومعنويّة لا يمكن التكهّن بردّات فعل أهالي المنطقة المسلّحين عليها، ولا بالإرتدادات المذهبيّة التي يمكن أن تُسبّبها في الداخل اللبناني، خصوصًا في ظلّ حساسية منطقة عرسال ضمن محيطها.
وفي الختام، الأكيد أنّ القضاء على المسلّحين المنتشرين في جزء من جرود سلسلة جبال لبنان الشرقيّة، لا يمكن أن يتم بين ليلة وضحاها، خاصة وأنّ عددهم يُقدّر بين 3000 و5000 مقاتل، تبعاً للمصادر المختلفة. لكن على الأقلّ، وفي ظلّ غارات الطيران السوري الدورية، وهجمات مقاتلي “حزب الله” المتقطّعة، وإجراءات الجيش اللبناني في المنطقة، يُمكن إبعاد خطر “السيناريو” الدموي الذي يُخطّطون له والذي لا قُدرة للوضع اللبناني الدقيق على تحمّله. من هنا، يُمكن فهم تحركات “حزب الله” الإستعراضيّة والقتالية الميدانية الأخيرة، ويمكن تفسير عدد الجنازات المرتفعة لمقاتليه في الأيام الأخيرة.
موقع النشرة الإخباري – ناجي س. البستاني