سياسة العصا والجزرة وخيارات تركيا الموضوعية
موقع العهد الإخباري-
يونس عودة:
جاءت عملية التفجير في شارع الاستقلال، الأكثر اكتظاظًا في اسطنبول، ضمن سياق سياسي عنيف وفي ضوء عودة تركيا الأردوغانية إلى لعب دور متعاظم في الإقليم وعلى المستوى الدولي، وأيضًا استعادة الرئيس رجب طيب اردوغان نسبة مرموقة من الشعبية التي خسرها جراء الانقسامات في الحزب والأزمة الاقتصادية والتورط إلى حدود كبيرة في الأزمة السورية وكذلك قبل الانتخابات الرئاسية التركية بسبعة أشهر. كما أن توقيت الضربة في ذروة الموسم السياحي يتزامن مع الاختلافات بين تركيا والولايات المتحدة بشكل خاص، وحلف الأطلسي بشكل عام، تجاه العديد من القضايا الإقليمية والدولية رغم عضوية تركيا الوازنة عسكريًا في الحلف العدواني عالميًا.
لقد أبرزت العملية الإرهابية التي نتج عنها مقتل 6 أشخاص وإصابة أكثر من 80 ردود فعل صبت جميعها من خلال الإدانة الواسعة في صالح أنقرة، لا سيّما أنه لا يمكن الجزم بمن يقف خلف الهجوم قبل استكمال التحقيق وإعلان رواية متكاملة. إلا أن تركيا اعتبرت التفجير رسالة مع اعلان رفضها على أعلى المستويات تلقي التعزية من الولايات المتحدة، لا بل قال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إن أولئك الذين يدعمون “وحدات حماية الشعب الكردية” في الشمال السوري، بحجة محاربة “داعش”، هم شركاء في كل قطرة دم تراق.
بلا شك أن السرعة التي تحرّكت من خلالها أجهزة الأمن التركية، والقبض على أداة التنفيذ المباشرة (أحلام البشير، حاملة الجنسية السورية) والعناصر المساعدة في العملية، مع الاستناد الى خلاصة التحقيقات التي أقرت خلالها البشير أنها نفذت الهجوم بتعليمات من حزب العمال الكردستاني، وبأنها تدربت في مدرسة استخبارات الحزب المصنف إرهابيًا في تركيا، بمدينة كوباني (عين العرب) السورية، حيث ألقى الجيش الأمريكي محاضرات هناك. وقالت إنها تدربت هناك كضابطة مخابرات خاصة قبل حوالي عام، وأنها دخلت قبل 4 أشهر إلى تركيا بطريقة غير شرعية عبر عفرين مع رجل على أنه زوجها.
من الواضح أن من خطّط لتفجير اسطنبول، وليس من نفذ، مع نفي حزب العمال ان يكون وراء التفجير، اختار المكان والزمان بدقة متناهية، فاستهدف الشارع الأكثر اكتظاظًا في كل تركيا وأحد معالم اسطنبول السياحية الأهم الذي يرتاده يوميًّا مئات الآلاف بين أتراك وسياح؛ كما اختار يوم الإجازة، في وقت ذروة الحركة البشرية، عصرًا، ليكون الهجوم دمويًّا وباصداء واسعة.
إن رفض قبول تعازي الأمريكيين واتهامهم بأنهم “قتلة وشركاء في كل قطرة دم” يعتبر تحديًا جريئًا لحليف أظهر أنه مستعد لاراقة دم حليفه اذا لم ينصع لرغابته، وأن اكتشاف أنقرة حقيقة الأميركيين أكثر من مرة (وكانت تخفض جناحيها نتيجة التوازنات الداخلية والعلاقات الدولية) سيكون حافزًا هذه المرّة، لا بل واجبًا، لاعادة النظر في استراتيجية التعامل مع العقل المتهور والدموي ومنع إعطاء فرصة أخرى للانقلاب كما حصل عام 2016 الذي كاد أن ينجح لولا ايران وروسيا الدولتين اللتين أخطرتا أردوغان بما يحاك ضده، وقد تبين له أن الأميركيين هم الشياطين.
إن الواقع الموضوعي يفرض على تركيا التخلص من سياسة العصا والجزرة التي تتبعها واشنطن مع دولة لديها ثاني أكبر جيش في الحلف الأطلسي، والتقارب بالمقابل أكثر مع ايران الجارة والتي تتعرض لارهاب أوسع من جانب الجهات نفسها التي استهدفت تركيا، كما يفرض عليها التقدم بخطوات أوسع باتجاه الدولة السورية التي تعاني من الجهات نفسها، أي الأميركيين والفصائل ذات الرعاية الأميركية والشركاء في سرقة الثروات السورية من نفط وغاز وغيرهما في الشمال السوري، ما سيؤدي حتمًا إلى الحيلولة دون حدوث هجمات أخرى في المستقبل، حيث إن مرور الزمن واقتراب موعد الانتخابات أكثر يزيدان المخاطر المتعلقة بهجمات هدفها التأثير على الانتخابات. كما أن تطويق المخاطر المحدقة بتركيا وخروجها من الشمال السوري لا يمكن حصوله دون التعاون مع دمشق بأي حال، وليس عبر عملية تركية أشبه بالمغامرة غير المحسوبة.
لقد تلقى أردوغان في الفترة الأخيرة رسائل قوية من حلفائه الأطلسيين في ظل الصراع مع اليونان في بحر ايجه وطفو سيرة الحرب بين البلدين على السطح من جديد، فالولايات المتحدة وفرنسا حذرتا أردوغان بشدة من أنه في حال محاولته، سيواجه مقاومة جدية للغاية مع تقديم عون غير مسبوق لليونان.
كما تلقى أردوغان أيضًا إشارة سوداء لرفضه دخول السويد وفنلندا إلى الناتو لا سيما أنه متمسك بشروط تسليم الناشطين الأكراد ضد تركيا في البلدين، وهذا الأمر لا يزال يغيظ واشنطن المستعجلة لنشر صواريخها في البلدين بمواجهة روسيا، فيما روسيا منحت تركيا أردوغان مساحة استراتيجية للتحرك سواء في عملية توريد الحبوب أو في أن تكون تركيا المحطة الرئيسية في إعادة توريد الغاز إلى العالم ولا سيما أوروبا.
إن تركيا اليوم أمام مفصل تاريخي وهي تدرك أن الانعاطفة الكبرى ستكسر ظهرها، لكن لا بد من توسيع دائرة الالتفاف لتخرج من دون جروح قاتلة لا سيّما أنها على أبواب الانتخابات العامة والرئاسية، ولا يجوز أن تكتفي بوعود أميركية ليست الأولى من نوعها (طائرات اف 35 الموعودة منذ سنوات) كجزرة بعد العصا.