“سليماني” في ميزان فلسطين
موقع العهد الإخباري-
أحمد فؤاد:
يحلو للكثير من المؤرخين أو دارسي التاريخ، أو حتى المهتمين، تبني نظرية الفيلسوف الإسكتلندي “توماس كارلايل” في تفسيره ومحاولة فهمه، وهي نظرية البطل في التاريخ، والتي تقول إن تاريخ الإنسان ما هو إلا تأريخ للرجال العظماء الذين مرّوا هنا وتركوا بصماتهم على العالم، هؤلاء الرجال العظماء كانوا صانعين للنموذج والقدوة، وبمعنى أشمل، فإن كل ما أنجزه الإنسان وابتكره يمثل النتيجة المادية والمنتج العملي لمبادرات الرجال العظماء، وبالتالي فإن روايتنا للتاريخ هي في الواقع سِير بطولة وتفرد هؤلاء الرجال واختصار لحياتهم وتحدياتهم.
ومنذ أن طرح “كارلايل” نظريته في 1840، كانت هي الوجهة الغالبة والمعتمدة لتفسير التاريخ وقراءته، حتى وضع عليها المؤرخ الأشهر في القرن الماضي “أرنولد توينبي” بصمته عليها، في موسوعة دراسة التاريخ، والذي رد التطور الإنساني إلى البطل والصفوة المبدعة، والتي تستطيع قيادة المجتمعات وتقديم النموذج لها، وعبر المحاكاة الآلية في مجتمع يملك الأسباب والشروط للنمو والتغير، فإن السير وراء الصفوة المبدعة هي حركة تقدمية تؤدي إلى محاكاة الطليعة الخلاقة.
والقراءة الواعية للمتغيرات التي طرأت على المنطقة العربية، في العراق وسوريا ولبنان، والانقلاب المذهل في معادلة الصراع العربي الصهيوني، منذ أن وضع عليها الجنرال قاسم سليماني بصماته، يدرك أن هذا الرجل قد استطاع كسر الدائرة الجهنمية التي أحاطت بالمنطقة فيما يشبه حصارًا أميركيًا كان كاملًا شاملًا عليها، وفيها، وحطم قيودًا ثقيلة كانت تغل اليد العربية، وتشل فعلها وقدرتها، حتى على الصمود والاستمرار في وجه المخططات والمؤامرات العديدة المتتالية.
وبعد سنوات ثلاث من ارتقاء الشهيد قاسم سليماني، فإنه يمكن في ضوء فهم حيوية دوره، بل واستمراره بالوتيرة والزخم ذاته، أن ندرك في أي جانب يمكن أن يصنف الجنرال، وبتجرد فإن الرجل كان ينتمي إلى فئة القادة والملهمين لأممهم وشعوبهم، وترك بصمة عميقة الإيغال في المنطقة وبلدانها، وعكس إرادته ورؤيته فعلًا مستمرًا بهيًّا على صفحة الشرق الأوسط بالكامل.
قبل أن يظهر دور كبير للجنرال سليماني في المنطقة، وتحديدًا مع مشروع جورج بوش الابن للشرق الأوسط الجديد، كانت الولايات المتحدة فاعلًا أوحد كلي الهيمنة والقدرة على المنطقة والعالم، لم يكن زمن الخروج الصيني قد حل، وكانت روسيا – بوتين لا تزال تحاول لملمة جراح التفكك السوفياتي المدوي، وكانت الأنظمة العربية ساقطة في امتحان الإرادة أمام القوة الأميركية الجبارة، ومن لم يقدم فروض الولاء والطاعة مستسلمًا، كانت واشنطن قادرة على إخضاعه بالعنف.
هذه هي بداية الحكاية فقط، حرب تموز/ يوليو 2006، والتي كسرت أوضاعًا قائمة فصّلت على مقاس الكيان، وكانت عاصفة الدمار مقدمة لمخاض الشرق الأوسط الجديد، لكن حزب الله وصموده الأسطوري كتب النهاية التي كسرت المخطط وحولته من واقع مفروض إلى سراب طوته السنوات.
واستمر الفعل البطولي في وجه قوى الاستكبار العالمي، رغم الشهادة التي تاقت نفس الجنرال إليها، وسقط بسرعة سؤال أهل الخذلان والتسليم، بحجج واهية حملوها وهي أن عالمًا عربيًا بهذا الاتساع الجغرافي والامتداد، وأيضًا بهذه الإمكانيات، يتساقط ويهوي أمام الكيان ومشغله، وعادت الصفوة المؤمنة إلى دورها الجديد في قيادة قطار الفعل العربي المقاوم، بحيث إنها ورغم فداحة الخسارة وقلة الناصر، قد استمرت محافظة على العهد الإيماني للقضية.
والناظر الفاحص لمعادلات المنطقة، عقب مرور 3 سنوات على جريمة اغتيال الجنرال سليماني، لا بد له أن يلاحظ تغيرًا هائلًا في دفق الأحداث وتحركها، وصولًا إلى كسر لعنة التفوق الصهيوني واحتكاره الفعل الأوحد في المنطقة، وفي الأراضي العربية بفلسطين، والأهم أن الأراضي المحتلة 1948 قد دخلت هي الأخرى للمعادلة، وفرضت وجودًا أصبح من المستحيل تجاوزه أو إنكاره، وتلك واحدة فقط من مآثر الشهيد العديدة.
فجأة، طفت المخيمات الفلسطينية على سطح الأحداث والفعل الموجه القادر، متخلّية عن دورها -المرسوم صهيونيًا- أن تكون لازمة تستدعي الأحزان والدموع، حائط مبكى باختصار، نفضت عنها غبار سنوات الاحتلال، وصارت أول التهديدات على الكيان وعلى خاصرته الرخوة، وكشفت في معركة “سيف القدس” مدى ضعف واهتراء بنية الكيان وهزت ثقته بسلاحه، وأذلت جيشه وحطمت، بإرادة حديدية، كل نظريات أمنه، وضربت جذور الشك في جدوى بقائه.
أرادها العدو حربًا نفسية على الفلسطيني والعربي، عبر نشر ثقافة الهزيمة والاستسلام، باستخدام أقصى ما يمكنه من العنف الدموي، عبر القتل والاعتقال والتشريد وصولًا إلى إعدامات ميدانية، نفذت وأذيعت على الهواء مباشرة، فإذا بتدبيره يرتد عليه، وإذا باليأس الفلسطيني من حل أو طوق نجاة، عبر الأنظمة الرسمية أو الاتفاقيات، يتحول إلى مشروع جديد للثورة والتحرر، انطلاقًا من الحقيقة الموضوعية الأولى للصراع، وهي أنه صراع صفري، صراع خام من أجل البقاء، بالمعنى الحرفي والمجرد للبقاء.
لم يكن غريبًا في سياق انتفاضة الفلسطيني النفسية على العدو الصهيوني أن تتحول جنين – كمثال واحد – إلى أسطورة، وأن تترادف في الوعي العام والوجدان العربي إلى رمزية للقدرة الإنسانية المتنامية والإرادة غير القابلة للكسر، وأن تكتب بمداد من أنهار الدم الزكي أن الروح العربية وقدراتها الخلاقة تستطيع عبور أي ظرف، وتجاوز كل الحدود.
قامت جنين بما هو مطلوب منها بالضبط، في إطار نضال فلسطيني أشمل وأعم، استطاعت أن تكسر الحواجز وأن تفتح الأبواب، وأن تعيد ضبط موازين القوة في الصراع مع العدو الصهيوني، بما يتيح لجهد آخر في مكان جديد أن يؤدي دوره، بالتوازي والتكامل بين الكل، ليحقق النضال أهدافه بتصميم وعزم، وأول الأهداف المحققة على الأرض كان نزع غرور القوة عن العدو، وكشف مدى هشاشته وضعفه.
إذا كانت فلسطين هي البوصلة والميزان والهدف، وقبل كل شيء قضية الصراع المستمر بين الحق كله والباطل كله، فإن حرب تموز/ يوليو 2006 كانت أخطر ما تعرضت له الأمة العربية، وكان قادتنا النبلاء سماحة السيد حسن نصر الله والشهيد القائد عماد مغنية والجنرال سليماني، ومن ثم، تبقى الكتابة عن أبطال الأمة وأبطالنا ضرورة تحتمها الثقة في النصر، وشرطًا أوليًا من شروط الإيمان والإخلاص.