سلسلة “سوابق” كرّسها عون… فهل تتحوّل لـ”أعراف”؟
موقع النشرة الإخبارية ـ
حسين عاصي:
أخيراً، وبعد انتظارٍ دام سنتين وخمسة أشهر، تصاعد “الدخان الأبيض” من قصر بعبدا، معلناً انتهاء مرحلة الفراغ “القاتل”، وتربّع العماد ميشال عون على سُدّة رئاسة الجمهورية، في عرسٍ ديمقراطي اشتاق له اللبنانيون كثيراً.
وإذا كان “فخامة العماد” حصد “الجائزة الكبرى” بامتياز، فإنّه عرف كيف “يلعبها”، كما يقول كثيرون، هو الذي تمسّك بترشيحه حتى الرمق الأخير، ونجح بجرّ الآخرين، بتنوّع ميولهم وانتماءاتهم السياسية، إلى ملعبه في نهاية المطاف، ولو بعد عناءٍ طويل.
ولكنّ الطريق إلى “القصر” لم تكن معبّدة أمام “الجنرال”، وهو الذي سجّل على هامش تجاوزه لـ”ألغامها” و”أشواكها” سلسلة “سوابق”، قد لا يكون من صالح المدافعين عنها بشراسةٍ اليوم أن تتحوّل لـ”أعراف” في المستقبل غير البعيد…
رئيسٌ قوي!
في البداية، لا بدّ من الإشارة إلى أنّها قد تكون من المرّات النادرة التي يصل فيها رئيسٌ قوي إلى رئاسة الجمهورية في لبنان، بعد أن درج العرف أن يأتي الرئيس الماروني من خارج “نادي الأقوياء”، بل من خارج الأحزاب الفاعلة، خصوصًا في ضوء ظاهرة ما يُعرَف بـ”الرئيس التوافقي” أو “الرمادي”، الذي يفتقد إلى اللون والطعم بفعل مسعاه لإرضاء الجميع دفعةً واحدةً، من دون أن يكون له الموقف الحازم المطلوب، الذي يمكّنه من الضرب بيدٍ من حديد.
وإذا كانت نماذج مثل هذا الرئيس “الحيادي” أكثر من أن تُعَدّ وتُحصى في تاريخ لبنان الحديث، ولا سيما بعد توقيع وثيقة الوفاق الوطني، أو ما عُرف باتفاق الطائف، فإنّ أحداً لا ينكر أنّ العماد ميشال عون شكّل الاستثناء الأكبر، وهو الذي يشهد القاصي والداني بأنّه “الأقوى” في طائفته على الصعيد الشعبي والجماهيري، وهو ما يؤكد عليه حتى خصومه الذين حاولوا التصدّي لانتخابه، والذين اعتبروا أنّ كونه “الأقوى” ليس كافياً، مستندين إلى تجارب تاريخية كان “الأقوياء” فيها عرّابي انتخاب من يفوقونه “قوة”.
ولعلّ ما يميّز العماد عون في هذا السياق أنّه يملك حيثية شعبية وتمثيلية قلّ نظيرها، وهو رئيس ثاني أكبر كتلة نيابية في المجلس النيابي من حيث العدد على الصعيد الوطني، بعد كتلة المستقبل، فضلاً عن كونه رئيس الكتلة المسيحية الأكبر، من دون أن ننسى سيرته الذاتية الحافلة والغنية، والتي جعلت لاسمه وقعًا أكبر على الأصدقاء والخصوم، على حدّ سواء…
اللبننة أولاً…
وفي حين يشكّل انتخاب العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية دفعًا كبيرًا لـ”الموارنة الأقوياء”، الذين لا شكّ سترتفع أسهمهم في أيّ استحقاقٍ رئاسي قادم، بعدما تمّت مساواتهم بـ”أقوياء” الطوائف الأخرى الذين درجت العادة على أن يحلّوا “أوتوماتيكيًا” في المناصب الأرفع المحسوبة عليهم، فإنّ طبيعة الاستحقاق الرئاسي الذي أوصل عون إلى سُدّة الرئاسة، ولا سيما لجهة نكهته اللبنانية، لا تقلّ أبداً أهمية عن ذلك، لا في الشكل ولا في المضمون.
وفي هذا السياق، يمكن القول أنّها أيضاً من المرّات النادرة التي تكون فيها “اللبننة” السمة الأبرز للاستحقاق، ولو تمّ الحديث عن موافقة أو مباركة دولية إقليمية على التسوية، بعد أن اعتاد اللبنانيون أن يهبط اسم الرئيس عليهم من الخارج بين ليلةٍ وضُحاها، ليتمّ “تعيينه” بكلّ بساطة، بما يقارب الإجماع في أسوأ الحالات. وعلى الرغم من إصرار المعترضين على انتخاب عون على اعتبار هذا التحليل منافياً للحقيقة، والحديث عن اتفاقات خارجية أفضت لانتخاب عون، فإنّ مجرّد قدرتهم على “عدم ركوب الموجة” خلافاً للعادة يدحض هذه الأقاويل بشكلٍ أو بآخر.
ولعلّ مقارنة بسيطة بين مجريات جلسة انتخاب عون وجلسات انتخاب الرؤساء المتعاقبين السابقين والتمديد لهم كافية للوصول إلى هذه الخلاصة، خصوصاً أنّ انتخاب “الجنرال”، رغم أنّه حصل بموجب تسوية سياسية، تطلّب دورتين انتخابيتين، بعد “فشله” في الحصول على غالبية الثلثين في الدورة الأولى، وهو ما لم يحصل مثلاً عند انتخاب الرئيس السابق ميشال سليمان وفقاً لاتفاق الدوحة، ولا حتى عند التمديد للرئيس الأسبق العماد إميل لحود، رغم ما يُحكى عن معارضةٍ شديدةٍ له. وعلى الرغم من أنّ بعض وقائع جلسة انتخاب عون بدت أشبه بـ”المهزلة”، في ضوء الحركات الاستعراضية التي ذهب البعض لحدّ وصفها بـ”الولدنات”، والتي أدّت لإعادة الدورة الثانية لثلاث مرّات متتالية، إلا أنّ مجرّد حصولها أيضاً أظهر وجود هامش حريةٍ لدى النواب قلّ نظيره في الاستحقاقات السابقة.
بين البدعة والديمقراطية…
ولكن، في مقابل هذه “السوابق الإيجابية” التي لا يفترض أن يعترض أحد على تكرارها نظرياً، يرى كثيرون أنّ تحقيق العماد عون للانتصار، كما حصل، يشرّع كلّ الأساليب التي اعتمدها في طريقه نحو “القصر”، والتي تثير الكثير من الجدل، على غرار تشريع مقاطعة أيّ مرشحٍ طامحٍ بالرئاسة لجلسات الانتخاب إذا لم يضمن فوزه فيها، واعتماد منطق “أنا أو لا أحد” بعدما أثبت نجاعته، وبالتالي تشريع الفراغ ولو دام إلى أبد الآبدين.
وإذا كان الكثيرون بدأوا، انطلاقاً من النقطتين السابقتين، يرجّحون مسبقاً “منافسة” بين رئيس حزب “القوات اللبنانية” سمير جعجع ورئيس تيار “المردة” سليمان فرنجية على “خلافة” عون بعد انتهاء ولايته، فإنّ أحداً لن يستطيع منع أيّ منهما على ممارسة ما أصبح “حقاً” بمقاطعة جلسات انتخاب الرئيس إذا لم تكن مضمونة لنفسه. وهنا، يسأل البعض عمّا سيكون عليه موقف “حزب الله”، على سبيل المثال، وهو المدافع اليوم عن هذا الحق، فيما لو أراد جعجع “استثماره” للوصول إلى الرئاسة، وساعده على ذلك “حلفاؤه”، علمًا أنّ سؤالاً أكبر يُطرَح عن مآل الاستحقاق الرئاسي الحالي فيما لو اعتمد جعجع إزاءه مقاربة “أنا أو لا أحد”، وسانده فيها “حليفه” رئيس تيار “المستقبل” سعد الحريري.
وعلى الرغم من أنّ “العونيّين” يتسلّحون بمنطق أنّ ما ينطبق على عون لا ينطبق بالضرورة على غيره، وأنّ النضال الذي خاضوه كان لإنقاذ الجمهورية ككلّ وليس من أجل شخص، فإنّ هذا الجدل يعيد إلى الواجهة من جديد النقاش القديم الجديد عن الفارق بين البدعة والديمقراطية، خصوصًا بعدما تبيّن أنّ مقاربة الدستور لملف انتخابات الرئاسة تبقى قاصرة، بغياب أي آلية واضحة لملء الفراغ في حال حدوثه، وهو ما يرى كثيرون أنّه يفترض أن يشكّل “اولوية أولويات” العهد الجديد، علمًا أنّ خطاب القسم الذي خرج به العماد عون أعطى سلسلة إشارات إيجابية على هذا الصعيد.
معادلات جديدة!
لا شكّ أنّ الاستحقاق الرئاسي لهذا العام كان مختلفاً بشدّة عن كلّ ما سبقه من استحقاقات، سواء لناحية الجدل الدستوري والقانوني الذي رافقه، أو لجهة الانقلابات السياسية التي أحدثها ولا سيما في التحالفات، من دون أن ننسى السوابق التي كرّسها.
وإذا كان “العهد” بدءاً من اليوم “تحت الاختبار”، الذي يبقى الحكم عليه رهن السياسات التي ستُعتمَد، فإنّ الأكيد أنّ معادلاتٍ جديدةٍ قد ترسّخت، وولّى معها زمن ما سبق، بحيث يمكن الجزم أنّ ما بعد هذا “العهد” لا يمكن أن يشبه ما قبله لألف سببٍ وسبب…