زيارة الوزير جوده لطهران، دلالات وخفايا
صحيفة المنار الصادرة في فلسطين المحتلة عام 1948 ـ
سمير الفزاع:
وصل وزير الخارجية الأردني ناصر جودة إلى طهران مساء الجمعة 6/3/2015 بعد قطيعة دامت لسنوات طوال، لإجراء محادثات مع نظيره الإيراني محمد جواد ظريف والرئيس حسن روحاني. وقال روحاني خلال استقباله جودة في طهران السبت 7/3، الإرهاب خطر ومشكلة تواجه الجميع وهذا الواقع لا يمكن كتمانه وأن طهران حذرت منذ البداية من مخاطر توسيع نطاق الإرهاب. من جهته أكد جودة على ضرورة إيجاد الحلول لمشاكل المنطقة عبر الحوار، مشيرا إلى أن الأردن يدعم موقف إيران حول إيجاد حل للموضوع النووي عبر الحوار. ودعا جودة الجامعة العربية إلى البدء بحوار عربي-إيراني لحل أزمات المنطقة على غرار ما تقوم به الجامعة من حوارات مع مختلف الدول في العالم. وخلال لقائه نظيره الايراني ظريف في طهران يوم السبت، اعرب جودة عن سروره لزيارته الى طهران ووصف مشاوراته مع المسؤولين الايرانيين في الظروف الراهنة للمنطقة بانها مهمة جدا، قائلاً إن ايران دولة مهمة في المنطقة ونحن نعتقد باننا يمكننا تبادل الاراء والافكار ووجهات النظر معها حول مختلف القضايا ومنها الاقليمية. واعتبر وزير الخارجية الاردني، الارهاب والتطرف، بانهما يمثلان المشكلة الاساسية في المنطقة، وهي مشكلة لا تعرف شيعة او سنة. * دلالات وخلفيات هذه الزيارة: 1- حاولت بعض الأنظمة العربية وتركيا والكيان الصهيوني… غزو سورية بجنود أمريكا ودباباتها، ليأتي هم خلفها ويقتاتوا على ما تبقى لهم من المائدة، لكن هؤلاء لم يلتفتوا بشكل كاف إلى الجذر النظري المركزي لما يجري في المنطقة!. لنذكرهم: في تشرين الثاني 2010 اجتمعت في “لشبونه” لجنة “الحكماء الإثنا عشر” المكلفة من قبل النيتو لدراسة تحديات القرن، برئاسة “مادلين أولبرايت” وزيرة سابقة للخارجيّة الأمريكيّة، وعضوية برنارد لويس وفوكوياما وهتنغتون… وقالت في تقريرها لرؤساء وقادة دول “النيتو”: “إننا نواجه تهديدات غير محددة، ليست لها حدود سياسية وجغرافية… كيف نواجهها؟ حيث لن نستطيع تكوين حلف مشابه لحلف بغداد ويستلزم طريقة مختلفة تسمى “الباب المفتوح”، ومعناها أنه سوف تنشأ أحداث لم نستطيع أن نتنبأ بها، ولكن من واجبنا أن نتحسب لها، وليس لدينا قوات كافية لمواجهتها معاً، الحلف تكون له مسؤولية موجهة لجنوب المتوسط بالدرجة الأولى، ويتحرك موضعيّاً حيث يجب على دول الحلف بقدر المستطاع…”. لم يلتفتوا مثلاً لعبارات من وزن “ليس لدينا قوات كافية لمواجهتها معاً” و”التحرك موضعيّاً حيث يجب على دول الحلف بقدر المستطاع”… عبارات تنضح بالعجز الذاتي، ومخططات يعتمد نجاحها بالدرجة الأولى على جهل أعدائهم وضعفهم. 2- وكأن بعض الحكومات العربية لا تفهم منطق التاريخ ولا مصير الإمبراطوريات مهما توسعت وتجبرت… وخصوصاً تلك التي تستخدم القوة وفائضها بإسراف كي تملأ فراغ القوة الناعمة والمشروع الحضاري لفرض إرادتها السياسية والإقتصادية ونموذجها الثقافي… إنهم يعتقدون أن أمريكا لن تمر بهذا السياق. جون كيري وزير الخارجية الأمريكي الذي طار إلى الرياض يوم الخميس الماضي، والتقى وزراء الخارجية الخليجيين في قاعدة عسكرية. زف الخبر الصادم، وأبلغهم ان الاتفاق بات ينتظر الرتوش الأخيرة، وأنه جاء إليهم ليبغلهم به أولا، ثم لطمأنتهم بأن أمريكا لن تتخلى عنهم، وأن هذا الاتفاق لن يكون على حسابهم!. 3- الكثير من الحكومات العربية لا تستطيع التمييز بين ما تقوله واشنطن وتكتبه نخبها لتعبر عن واقع أمريكي جديد، وما تروجه من أكاذيب ومواقف إعلامية لذر الرماد في العيون. يكفي أن نتذكر هنا ما قاله روبرت غيتس في كتابه، “الواجب..ذكريات وزير دفاع”، وتحديدا في الفصل الخامس منه “ما بعد العراق:عالم معقد”، حيث تحدث عن لقائه الأول كوزير دفاع مع الملك السعودي عبد الله بن عبد العزيز وكانت برفقته وزيرة الخارجية الأمريكية آنذاك كوندوليزا رايس، في صيف عام 2007. يقول غيتس ان “هذا اللقاء مع الملك السعودي شكّل أحد أهم لقاءاته مع مسؤولين وقادة طوال عمله السياسي، وكان الوحيد الذي فقد فيه تحكمه باعصابه. والسبب ان الملك عبدالله طالبه كوزير دفاع لأمريكا، بأن تشن واشنطن هجوما عسكريًا شاملاً على أهداف عسكرية في ايران وليس فقط على الأهداف الايرانية التي تحوم الشكوك حول كونها مصانع للتسلح النووي. وهدد الملك السعودي، خلال هذا اللقاء، بانه اذا لم تشنّ أمريكا هذا الهجوم العسكري فان السعودية ستتخذ الأجراءات من جانبها وباستقلال عن القرار الأمريكي، للدفاع عن مصالحها، كما رآها العاهل السعودي”. ورأى غيتس ان الملك السعودي “كان يطلب من أمريكا ان ترسل شبابها الى الحرب مع ايران لحماية الموقف السعودي والسياسات السعودية في الخليج الفارسي والمنطقة، وكأن الأمريكيين مرتهنون لهذه المواقف من دون جدل”. وحسب غيتس، وصف العاهل السعودي أمريكا في اللقاء بأنها “تحولت الى دولة ضعيفة بنظر حكومات المنطقة العربية”. وأشار غيتس الى انه “غضب أزاء مواقف الملك السعودي في هذا الشأن، وردّ بقوله انه طالما لم تشن ايران حربا على أمريكا أو حلفائها فاذا قرر رئيس الجمهورية الأمريكي شن حرب عليها فانه سيتم اقصاؤه من منصبه، خصوصاً بعد تورطه في العراق عام 2003، وان الاستخدام العسكري للقوات الأمريكية سيتم فقط لدى التعدّي على أمريكا وشعبها ومصالحها”. 4- قبل أيام معدودة من زيارة وزير الخارجية الأردني إلى طهران، خرج علينا بعض الكتاب الأردنيين ومنهم وزير إعلام سابق، بخطاب صهيوني وداعشي وهابي خالص، يدعو إلى الكف عن محاربة داعش والتوجه إلى محاربة إيران… والبعض الآخر صار يرى في الواقع المضطرب في المنطقة فرصة لتوسع الأردن على حساب جنوبيّ سورية والعراق. مثل هذا الكلام الخطير لا معنى له إلا “التشويش” على هذه الزيارة ونتائجها، وإسماع طهران صوت ولغة تختلف عن الرسالة الملكية التي كان يحملها “جوده”. لا يمكن تفسير هذا التناقض في الخطاب إلا بأن هناك “نخب” سياسية وإعلامية تتبع أطراف إقليمية ودولية –السعودية وقطر…- وتتحرك وفق أجندات خارجية غالباً ما تكون على حساب الأردن وعلاقاته مع محيطه العربي، وتحشره في خندق متآمر مهزوم باتت هزيمته تهدد الإستقرار الداخلي لمعظم أعضائه العرب والإقليميين. 5- عندما حمل أردوغان “رأس” جده سلمان شاه وفرّ به ليلاً إلى تركيا، آملاً دفنه في مرقد جديد للمرة الثالثة على بعد 180م داخل الأراض السورية، بعد أن حاول الراحل حافظ الأسد “إغراقه” تحت مياه بحيرة سد الثورة قبل عقود… أدرك بعض العرب ومنهم الأردن، أن الطرف التركي الأكثر قرباً وقوة و”إنغماسا” وعدوانية في الحرب على سورية بات يراجع حساباته بشكل عميق جداً، وكأن المنطقة تتهيأ لمرحلة تاريخية مختلفة تماماً عما سبقها. 6- إستقالة مدير المخابرات التركية السابق “حقان فيدان” الذي مثّل “المركز العصبي” لداعش والجماعات الإرهابية في سورية والعراق، والدلائل الخطيرة لهذه الإستقالة، حيث إستقال ورئيس جمهوريته “أردوغان” خارج البلاد، وعندما حاول منع هذه الإستقالة قبلها مباشرة رئيس وزرائه “أوغلو”، ما يؤكد بداية إنهيار جديّ تعصف بأحد أهم جبهات العدوان على سورية؛ بل وفي تشكيلة العدالة والتنمية الحاكمة، اردوغان-اوغلو-فيدان. 7- قبل إسبوع تقريباً، دعى رئيس المفوضية الأوروبية، جان كلود يونكر، إلى تأسيس “جيش موحد” في أوروبا، وقال يونكر لصحيفة “فيلت أم زونتاغ” الألمانية:”لا يعني امتلاك جيش أوروبي أن يتم استخدامه على الفور، وإنما يمكن من خلال جيش موحد للأوروبيين إعطاء انطباع لروسيا أننا جادون في الدفاع عن قيم الاتحاد الأوروبي”. بصرف النظر عن صدق إدعاء يونكر هذا إلا أن هذه الدعوة التي أيدتها زعمة أوروبا القوية “ميركل” يؤشر إلى عدة أمور أساسية منها: * أن واشنطن لم تعد قادرة –وفي الحد الأدنى لن تكون قادرة قريباً- على ضمان أمن أوروبا. * لم تعد أوروبا قادرة على تحمل حالة الإذلال الدائم الذي تمارسه بحق الدول الأوروبا منفردة ومجتمعة، وهو ما إشتكى منه وزير الدفاع الفرنسي الأسبق، وهو ما عبر عنه “يونكر” مواربة عندما قال لذات الصحيفة: يمكن أن يساعد مثل هذا الجيش في تشكيل سياسة أمنية وخارجية موحدة ورؤية مشتركة لمسؤولية أوروبا في العالم. * أن حلف النيتو الذي تتحكم به واشنطن دخل طور التفكك وإن على مهل. * واشنطن باتت تفقد موقعها في الإدارة المنفردة لشؤون العالم، ويجب أن تستعد أوروبا لهذا التحول الإستراتيجي الهام، وهذا أكثر ما يرعب بعض العرب. من هنا يمكن فهم هذا التزامن في طرح ذات الموضوع “قوة عسكرية مشتركة” وخلفيات الدعوة المصرية لإنشاء قوة مماثلة سيتم عرض مشروعها على “القمة العربية” القادمة نهاية الشهر الجاري. 8- في هذه المنطقة كيان تمتع برعاية “فائقة” طوال عقود مضت، ومنذ أن نشأ كسرطان يفتك بجسد هذه الأمة، ويُنهك قواها، ويقتات على روحها… كيان صنيع وهجين في يقوم بدور وظيفيّ يستمد منه قوته و”شرعيته”. وقد كان مفيداً جداً طوال عقود لخالقيه “بريطانيا وفرنسا”، ولمن ورث خالقيه “والمقصود هنا أمريكا تحديداً” ، وأثبت قدرة هائلة على تنفيذ – أو المساعدة في – تنفيذ السياسات الغربية على إختلافها، سياسية أمنية عسكرية… وكانت عصاه الغليظة القادرة على الضرب إينما أرادت ووقتما أرادت وبمقدار ما تريد. ضربت في مصر وسورية والعراق وتونس والسودان… فكان القوة الإقليميّة الأكبر، والجغرافيا الأكثر أمناً. واليوم يعاني هذا الكيان مشاكل عميقة جداً تتعلق بمعادلة الدور والوظيفة – أي أن يضرب إينما أراد ووقتما يريد وبمقدار ما يريد– . قد يقول أحدهم ولكنها قصفت في سوريا وغزة، فأرد: صحيح، وإن في هذه الضربات إنتهاك للسيادة والكرامة الوطنيّة… ولكن، هل أُنشأ هذا الكيان ليوجه الضربات الجويّة؟ هل هو قادر اليوم على شنّ أي عدوان على لبنان أو سورية أو غزة؟. لنتذكر هنا قالته هيلاري كلنتون في 22/3/2010 وأمام “الأيباك” في مؤتمره السنوي: “إن إستمرار النزاع والواقع الحالي لا يخدم مصالح الولايات المتحدة، ولا يمكن أن يبقى مستداماً لجميع الأطراف، خصوصاً في ظل ديناميكيات الديموغرافيا والإيديولوجيا والتكنولوجيا، بل يعدُ بمزيد من العنف ويهدد إسرائيل كدولة يهودية ديموقراطية”. كما يعاني ذات الكيان من مشاكل تعصف في حضنه “الأخير” أمريكا التي يتداعى إقتصادها، وتتآكل قدراتها العسكريّة، ويتراجع “مجالها الحيوي” أمام خصومها الذين يزدادون كلّ يوماً قوة في حين تزداد هي ضعفاً. لذلك ، نلاحظ اليوم إرهاصات إنزياح إستراتيجي في مركز القوة الإقليمي من كيان العدو الصهيوني لصالح جبهة المقاومة. 9- ختاماً، كان لضربات الجيش العربي السوري وحلفائه في جبهتي الجنوب والشمال، بالرسائل التي بعثها، والخطوط الحمر التي حطمها، والخطط التي أسقطها… وقع الصدمة على واشنطن، التي باتت تتحدث عن “الصبر الإستراتيجي” بعد أن كانت لا تتقن إلا “الصدمة والترويع”… فكيف بحلفائها وأصدقائها؟!.