زمن كسر الحصار
موقع العهد الإخباري-
أحمد فؤاد:
“السيف يصدأ إن ألقيت به في الماء المالح”. الحكيم الصيني لاو تسو.
للطريقة الأميركية في التعامل الإعلامي مع الحوادث قدرة فائقة على قلب الصور وتعديلها، بما يتماشى مع ما تريد أن توصله إلى ذهن ووعي المتلقي، ولديها كذلك حاسة قوية للغاية لاصطياد المواقف والمتحدثين والأزمات، لتنسج شبكتها الشيطانية حول ما تريده أن ينتشر، أو أن تتركه ينطفئ مع الأيام ويذبل، ومن ثم يختفي ذكره تمامًا.
اجتهدت الأبواق الإعلامية التابعة للولايات المتحدة، خلال الشهور الماضية، في إمداد المتلقي العربي بالكثير والكثير جدًا من الأكاذيب، طوال الوقت، وحول كل شيء يمكن التوقف عنده، بداية من تعريف الشعب العربي في كل قطر، ثم علاقة هذه الأقطار العربية ببعضها بعضًا وبغيرها، نهاية بتعريف النجاح والفشل، ثم الوطنية والخيانة، ثم قررت أن تأخذ دور رسم العلاقة المثالية بين المواطن ودولته المفترضة.
وكان في القلب تمامًا من السعي الأميركي المحموم إلغاء – أو تبسيط – انتصار المقاومة اللبنانية وحزب الله في كسر الحصار المضروب على لبنان، والوفاء بوعد سيد المقاومة بإحضار المازوت إلى لبنان في لحظة أزمة عاصفة، ومع عجز حكومي مصنوع، وتواطؤ دولي بشع في مسايرة العقوبات الأميركية، بالنهاية لا تريد واشنطن مشهد قوافل صهاريج المازوت حاضرًا في بداية عام جديد.
يمكن أن تحضر صور المعاناة، صور الفقر والبطالة، أو مظاهرات الغضب، لكن صورة الحل لا يراد لها أن تظهر، أو أن تكون الإجابة المطروحة اليوم.
ولأن مسار التاريخ يمضي دائمًا إلى الأمام، ولن توجد قوة قادرة على إعادة عقارب الساعة إلى الوراء على الإطلاق، فإن الولايات المتحدة، ومعها كيان الاحتلال، وقد فشلت في وقف محاولة كسر الحصار بقوافل الوقود الإيراني إلى لبنان عبر سوريا، فهي راغبة في تحويل الدافع إلى رادع، وهي تجربة قد مارستها كثيرًا، وللأسف نجحت فيها كثيرًا أيضًا.
وقبل أي حديث عن الأزمة القائمة في لبنان، وفي غيرها من الدول العربية التي تعاني الأمر ذاته، من قلة الموارد من العملة الصعبة (الدولار) مقابل زيادة التزاماتها، مقرونة في كل الأحوال بغياب الكفاءة، يجب أن نضع حدودًا للفارق المذهل بين وصفي الوضع والحالة، فالوضع هو حالة ماهية، تكشف ثوابت الأطراف ومدى قدراتها الحقيقية، والمجال الذي تصل إليه تأثيراتها، بينما تصف الحالة صورة لحظية لموقف الأطراف، مرهونة بالوقت الذي أُخذت فيه، وتشي بظرف قد يكون سريع الزوال، لكنه لا يصلح مشهدًا تتوقف عنده الحركة.
وبالتأكيد فإن حالة الأزمة في لبنان، وغيرها معها، ليست وضعًا دائمًا، ولن تكون أزمتها بابًا لوصم صندوق النقد الدولي بأنه بلد فاشل، إلا لو منحنا الصندوق الحق في تقسيم العالم وفق أهواء موظفيه، وسنكتشف وقتها العجب العجاب.
يقرع مسؤولو صندوق النقد الدولي طبول التهنئة لدول اختارت الفشل وأدمنته بالفعل، دول مهزومة من دون حروب، ساقطة من دون مؤامرات، متراجعة وعاجزة أمام كل تحدياتها. لم ينشر تقرير واحد لصندوق النقد الدولي -على سبيل المثال- خلال آخر عامين دون إشادة بالإصلاح الاقتصادي الذي جرى فرضه وتطبيقه في مصر. ومن يتابع الإعلام المصري الحكومي لا المعارض خلال الأيام الأخيرة سيصدم بأخبار انتحار أو جرائم متنوعة، لأناس لم تترك لهم الحاجة ملجأً إلا الشيطان، في بلد صارت عاصمته سوقًا كبيرة للنخاسة والسمسرة في كل شيء.
تحت وصاية صندوق النقد الدولي، لم تخض القاهرة حروبًا على الإطلاق، حتى ما كان الخط الأحمر الأول والأساس لكل حاكم منذ عهد الفراعنة، نهر النيل، ورغم ذلك فإن الأمور تسير من سيئ إلى أسوأ، موجة بيع تضرب كل الشركات الكبرى الباقية، وديون خارجية وداخلية صارت تزيد بوتيرة أسبوعية ويومية، آخرها لجوء الحكومة إلى اقتراض 3 مليارات دولار من بنوك خليجية، في ظل عصف الأزمة الاقتصادية بفرص اقتراضها من حكومات غربية.
النظام المصري الذي اختار الاقتراض حلًا لأزماته، وتتويجًا لمسيرة بدأها السادات، واستكملها خلفاؤه بغير فتور، خرج في آخر مؤتمراته ليقول إنه لن يمنح المواطن الدعم، لكنه سيوفر له الخدمات، شريطة أن يدفع ثمنها العادل! في كسر لأي عقد اجتماعي بين دولة ومواطنيها، وفي تطبيق فاضح لشروط صندوق النقد الدولي المعروفة.
لا تعليم ولا صحة ولا دعم ولا غذاء ولا سكن ولا خدمات عامة ولا صناعة ولا زراعة ولا نقل. لا كساء أو دواء ولا أجور ولا قطاع عام ولا تدخل في تحديد أرباح القطاع الخاص، ولا تعيينات جديدة ولا حد أدنى أو أقصى للأجور ولا تسعيرة أو حماية للفقراء، بالنهاية: لا مسؤولية على الدولة تجاه مواطنيها من الأصل، ويذوب الفارق بين إدارة دولة وإدارة محل تجاري صغير يبحث صاحبه فقط عن الربح من كل زبون/ مواطن.
هذه هي الدولة غير الفاشلة بمنطق صندوق النقد الدولي، ومن ورائه الولايات المتحدة، بينما الأوصاف جاهزة لمن يرفض الهيمنة، ويسعى لريادة طريق جديد نحو الشرق، ونحو التعاون لا السيطرة، في إطار دور وطني يستكمل مسيرة التحرير العسكري بتحرير الإرادة والاقتصاد من سطوة واشنطن.
والحديث عن العام الماضي ليس تأريخًا لما فات، وبالقطع فإن التاريخ ليس مجال تسجيل الأحداث والأيام فقط، وإلا فالسجلات موجودة ومتاحة، أما العودة إلى التاريخ القريب أو المعاصر فهي عملية مطلوبة بشدة، خاصة ما كان منه يعود ليتمهل ويقرأ ويضيء إلى أوسع ما تقدره الظروف، كشفًا للمواقف والخطوات، وقراءة النتائج، وبالتالي القدرة على إدارة اللحظة المقبلة بأفضل طريقة ممكنة.
وأي قراءة واعية لقرار حزب الله، في عام 2021، بكسر الحصار الأميركي على لبنان، سيضعه دون تحيز في مجال القرارات التاريخية التي تغير المسار، وتخلق واقعًا جديدًا بالكلية، قرار هائل كانت له -ولا تزال- من العواقب ما يصعب على الحصر، خصوصًا وقد ارتبط بتحدي الهيمنة الأميركية في المنطقة، ثم وصل بالموقف إلى تهديد الكيان الصهيوني بشكل واضح لا لبس فيه، وانكفأ الجميع أمام الإرادة الصادقة للمقاومة وجديتها.
كانت الثقة والإرادة كلمتي السر في إنجاز حزب الله، وأرغم كل الأطراف على السير وفق ما وضعه سماحة السيد حسن نصر الله من شروط، باعتبار سفن الوقود أراضيَ لبنانية، وهو المسلك الوحيد المفهوم للكيان ومن معه، فلسفة القوة والقدرة، وبغيرها لا يخشى الكيان أي عواقب لتصرفاته في أي دولة عربية.
إلى العام الجديد تدخل المنطقة كلها، والمقاومة، بشروط جديدة، ليس من بينها التراجع أو الصمت المخزي أمام حصار خانق جرى فرضه فرضًا بقلم أميركي لمصلحة الصهيوني، وبمعادلة صار فيها الفاعل يدًا عربية تحمل السلاح، وترفع راية خالدة “هيهات منا الذلة”، مقدمة إلى انتصارات جديدة وتحرير منتظر.