روسيا والغرب.. صراع بين شبيهين أو نقيضين؟
موقع قناة الميادين-
وليد القططي:
قراءة الصراع بين روسيا والغرب باعتباره صراعاً بين شبيهين، لكونهما فرعين لحضارة واحدة، لا تعني غياب التناقض بينهما.
يروي الباحث في العلاقات الدولية الدكتور باسم خفاجي في كتابه “روسيا ومواجهة الغرب” أنه عندما وصل الرئيس الروسي الأسبق بوريس يلتسين إلى البيت الأبيض في زيارته الأولى لواشنطن بعد انهيار الاتحاد السوفياتي في حزيران/يونيو في العام 1991م، وجد في استقباله على المدخل مستشارة الرئيس الأميركي جورج بوش الأب للشؤون السوفياتية، كوندوليزا رايس، فتردد لحظات في النزول، باعتبار أنَّ البروتوكول يقتضي أنْ يكون نظيره الأميركي في انتظاره.
عندها، طلبت رايس من السائق أنْ يأخذ يلتسين إلى المطار، مُعتبرة أنَّ الزيارة انتهت قبل أنْ تبدأ، فما كان من الرئيس الروسي إلا أنْ ترجّل ونزل من السيارة. كان هذا المشهد إيذاناً ببدء عقدٍ من الإذلال القومي الغربي لروسيا، بزعامة أميركا، بوسائل عسكرية واقتصادية وسياسية وإعلامية.
مشهد البيت الأبيض ببطولة كوندوليزا رايس الذي فتح عقداً من محاولات الغرب لإهانة روسيا قومياً، تغيّر بمشهدٍ آخر في عهد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، كانت حبكته تتمثل بخطابه عشيّة العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، متحدّياً الغرب الأوروبي والأميركي بكل جبروته العسكري والاقتصادي، وواضعاً يده على سبب عداء الغرب لروسيا، وهو مجرد وجود دولة مستقلة خارج سيطرة الغرب ومختلفة عنه، فقال: “ذلك فقط لأننا موجودون، ولمحافظتنا على سيادتنا وتقاليدنا وقيمنا”، موضحاً أنَّ هدف الغرب الأساسي هو وقف تطور روسيا ونهضتها المعاصرة.
واكتمل مشهد الخطاب بمشهد العملية الروسية في أوكرانيا، كجزء من حرب أوسع وحلقة من مسلسل ممتد تاريخياً كان الصراع بين روسيا والغرب مضمونه الأساسي، وكان الاختلاف في طبيعة الصراع مضمون سؤاله المركزي: هل الصراع بين روسيا والغرب هو صراع بين شبيهين في حضارة واحدة أو صراع بين نقيضين في حضارتين مختَلفتين؟
الصراع بين روسيا والغرب يعتبره بعض المفكرين العرب والمسلمين صراعاً بين شبيهين في الحضارة الأوروبية بشقيها الغربي (الأوروبي والأميركي) والشرقي (الروسي)، استناداً إلى أنّهما فرعان للحضارة المسيحية بكنيستها الغربية (الكاثوليكية والبروتستانتية) وكنيستها الشرقية (الأرثوذكسية)، وأنَّ أصولهما الفلسفية والفكرية واحدة منذ الحضارتين اليونانية والرومانية، وصولاً إلى الفكر الليبرالي الرأسمالي والفكر الماركسي الاشتراكي في عهد الصراع بين الكتلتين الغربية والشرقية.
لذلك، هو صراع أشبه بحرب أهلية كُبرى داخل البيت الغربي، كما جاء في قراءة الفيلسوف الإسلامي علي عزت بيجوبيتش للحضارة الغربية بشقيها الرأسمالي والاشتراكي، إذ اعتبرهما حضارة مادية تغفل الجانب الروحي للإنسان.
ينسجم ذلك أيضاً مع قراءة المفكر القومي ميشيل عفلق الذي رفض التبعية للغرب بشقيه الرأسمالي الليبرالي والاشتراكي الشيوعي، وكذلك مع قراءة الإمام الثائر آية الله الخميني، الذي وضع كلاً من الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفياتي في خانة الاستكبار العالمي المُعادي للمستضعفين والمسلمين، وقراءة المفكر الشهيد الشقاقي الذي لم يفرّق بين الغرب الشيوعي والغرب الرأسمالي في محاربتهما للمد الإسلامي.
قراءة الصراع بين روسيا والغرب كصراع بين شبيهين باعتبارهما فرعان لحضارة واحدة لا تعني غياب التناقض بينهما، ولا تلغي القراءة الأُخرى له كصراع بين نقيضين حضاريين منذ عهدي الوثنية والمسيحية، وصولاً إلى عهد الرأسمالية والاشتراكية، ثم النهضة الروسية المُعاصرة في عهد بوتين، وأنَّ أساس هذا التناقض يعود إلى طبيعة الحضارة الغربية الأوروبية بعقيدتها العنصرية عرقياً وثقافياً، والتي تنفي الآخر المختلف عرقياً وثقافياً، ولا تقبل منه سوى الخضوع لها واللحاق بذيلها، نتيجة لهيمنة فكرة تفوّق العرق الأوروبي الأبيض، وأفضلية الحضارة الغربية بأصولها اليونانية والرومانية، وتشرّب عقيدة “شعب الله المختار” بنسختها المسيحية الكاثوليكية والبروتستانتية، وتلبّس روح الاستكبار الاستعمارية التوسعية…
هذا كله دفع الغرب الأوروبي إلى النظرة الاستعلائية تجاه كل الشعوب الأخرى، ولو كانت تشبهه، مثل السلاف الروسي، ما لم تلغِ هويتها الحضارية وتذوب بحضارة الغرب. وقد يكون ذلك ما دفع فرنسا بزعامة نابليون بونابرت إلى غزو روسيا في العام 1812م، ودفع ألمانيا بزعامة أدولف هتلر إلى غزو روسيا في العام 1941م، ودفع أميركا بزعامة الإنجيليين إلى محاولة إخضاع روسيا وإذلالها وهزيمتها بالحرب الباردة، ثم العولمة الأميركية، ثم العقوبات الاقتصادية.
معاداة الغرب الأوروبي والأميركي لروسيا تأتي بسبب رفضها الدخول في بيت الطاعة الغربي كثقافة وحضارة مُلحقة بالغرب، وإصرارها على تميزها واستقلالها وخصوصيتها، وأن يكون لها روايتها الروسية الخاصة، وقوميتها السلافية المتميزة، وكنيستها الأرثوذكية المنفصلة، وثورتها البلشفية المختلفة، ومشروعها القومي المستقبلي، وأن يكون لديها من اتساع الجغرافيا، وامتداد التاريخ، وتعدد الثروات، وعمق الفلسفة، وعالمية الأدب، وخصوصية الفن، ما يؤهلها للاستمرارية وتطوير حضارة تتحدى رواية الغرب الأوروبي الأميركي المعتمدة على فكرة تفوّق الغرب عرقياً وحضارياً، وتُبطل نظرية “نهاية التاريخ والإنسان الأخير” للأميركي فرانسيس فوكوياما، والتي توقف مسار التاريخ الإنساني عند حضارة الرجل الأبيض الغربي بنموذجها الأميركي المادي وفكرها الرأسمالي الليبرالي، والتي يراد لها أن تبتلع كل الحضارات البشرية الأخرى وتسحقها بواسطة العولمة أو الأمركة، بما فيها الحضارات الشبيهة لها، كالحضارة الروسية الأرثوذكسية، أو الحضارات النقيضة، كالحضارة العربية الإسلامية.
الصراع بين روسيا والغرب لا يمكن اعتباره صراعاً بين شبيهين أو نقيضين بشكل كامل. هو صراع له أبعاد حضارية واستعمارية ومصلحية، ولم ينتهِ بانتهاء الحرب الباردة التي كان العرب ولا يزالون وقودها. وسواء كان الصراع بين شبيهين أو نقيضين، فلن تكون نتيجته في كل الأحوال لمصلحة العرب.
صحيح أنَّ نهضة روسيا وغيرها كقوة كُبرى ستحد من عربدة أميركا كزعيمة للغرب الأوروبي، وتكسر روحها الاستعمارية الاستكبارية، وتزيد قوة روسيا وغيرها ونفوذها العالمي وقدرتها على تحقيق مصالحها، ولكنها لن تغير كثيراً في واقع العرب السيئ، فقوة العرب كأمة في تحقيق وحدتهم، وإنجاز نهضتهم، وانتزاع استقلالهم، لن تتحقق إلا بقوتهم الذاتية وإمكانياتهم الخاصة، وقبل كل شيء باستعادة رسالتهم الحضارية للبشرية، وهي رسالة الإسلام كدين وحضارة وثقافة وهوية وروح وثورة.