روسيا والصين في إستراتيجية الأمن القومي الأميركي
موقع قناة الميادين-
حسن نافعة:
الصين، وفقاً لرؤية إدارة بايدن، هي دولة “منافسة” للولايات المتحدة، لأنها تمتلك من وسائل القوة ما يؤهلها للتطلع إلى صدارة النظام الدولي وإزاحة الولايات المتحدة من موقعها المهيمن.
بعد تأخير استمرّ ما يقارب عامين، نشرت إدارة بايدن في 12 تشرين الأول/أكتوبر الماضي رؤيتها حول “إستراتيجية الأمن القومي الأميركي 2022”. ومن المعروف أنَّ الإدارات الأميركية المتعاقبة اعتادت منذ عام 1987، أي منذ إدارة رونالد ريغان، أن تنشر بانتظام ورقة تتضمن رؤيتها الخاصة لهذه الإستراتيجية.
وقد نُشرت هذه الورقة سنوياً منذ ذلك الحين وحتى نهاية إدارة كلينتون عام 2000 مع استثناءات محدودة، لكنها أصبحت منذ عام 2002، أي منذ عهد جورج دبليو بوش الابن، تنشر كلّ 4 سنوات. وقد بلغ مجموع الأوراق التي صدرت حتى الآن حول استراتيجية الأمن القومي الأميركي 18 ورقة.
تقع إستراتيجة 2022 في 48 صفحة، وتحتوي على مقدمة للرئيس بايدن و4 أجزاء وخاتمة. وقد حمل الجزء الأول عنوان “المنافسة على ما هو قادم”، فيما حمل الجزء الثاني عنوان “الاستثمار في قوتنا”، والجزء الثالث عنوان “أولوياتنا العالمية”، وحمل الجزء الرابع والأخير عنوان: “إستراتيجيتنا بحسب كل منطقة”.
وقد وردت الإستراتيجة الأميركيّة تجاه كلٍّ من الصين وروسيا ضمن الجزء الثالث الخاص بالأولويات العالمية، وليس ضمن الجزء الرابع الخاص بالإستراتيجية الأميركية تجاه مناطق العالم المختلفة، وتحت عنوان فرعي مثير هو “التغلب على الصين وكبح جماح روسيا”، ما يعني أنَّ إدارة بايدن ترى أن الصين وروسيا تشكلان تحديين عالميين من طبيعة خاصة، وأن على الولايات المتحدة مواجهة كل منهما بما يناسبه من وسائل.
تقرّ الورقة بأنَّ بين هاتين القوتين العالميتين، أي الصين وروسيا، قواسم مشتركة، باعتبارهما “نظامين استبداديين يسعيان لتغيير قواعد النظام الدولي بما يتناسب مع مصالحهما الخاصة، وينحازان بشكل متزايد إلى بعضهما بعضاً”، لكنهما يطرحان تحديات من طبيعة مختلفة، وبالتالي ينبغي أن تختلف أساليب المواجهة مع كل منهما.
الصين، وفقاً لرؤية إدارة بايدن، هي دولة “منافسة” للولايات المتحدة، لأنها تمتلك من وسائل القوة ما يؤهلها للتطلع إلى صدارة النظام الدولي وإزاحة الولايات المتحدة من موقعها المهيمن، ومن ثم على الولايات المتحدة أن تبلور في مواجهتها إستراتيجية تقوم على “الحفاظ على ميزة تنافسية معها”.
أما روسيا، فهي دولة “معادية”، من وجهة نظر الإدارة الأميركية، لأنها “تقوم باستخدام القوة المسلحة ضد دول حليفة للولايات المتحدة، وتشكل بالتالي تهديداً مباشراً للسلم والأمن العالميين ككل”، ما يفرض على الولايات المتحدة العمل على “تقييدها والحد من خطورتها” بكل الوسائل المتاحة.
تستعرض الورقة أشكال التحدّيات التي تمثلها الصين بالنسبة إلى الولايات المتحدة، وذلك على النحو الآتي:
1- لا تكتفي الصين بامتلاك وسائل القوة التي تمكّنها من إعادة تشكيل النظام الدولي، ولكن لديها النية أيضاً للقيام بذلك، فضلاً عن طموحاتها الخاصّة بخلق مجال نفوذ قوي في المحيطين الهندي والهادئ، وحرصها الشديد على أن تصبح “القوة الرائدة في العالم”.
2- لا تتردّد في استخدام قدراتها التكنولوجية وقوتها الاقتصادية “لإكراه الدول على اتخاذ مواقف معينة، فضلاً عن سعيها الدائم لجعل العالم أكثر اعتماداً عليها مع تقليل اعتمادها عليه”.
3- تعمل على “تحديث جيشها بسرعة كبيرة، ولديها قدرات بحرية متزايدة في منطقة المحيطين الهندي والهادئ”، غير أنَّ الورقة تعترف في الوقت نفسه بأن الصين “دولة مركزية في الاقتصاد العالمي، ولها تأثير كبير في التحديات المشتركة، ولا سيّما ما يتعلق منها بتغير المناخ والصحة العامة العالمية”.
لذا، تقرر أنَّ علاقتها بالولايات المتحدة لا ينبغي أن تكون صراعية أو تنافسية فقط، “لأن البلدين يمكنهما أن يتعايشا بسلام، وأن يساهما معاً في خدمة التقدم البشري”، ومن ثم تقترح إستراتيجية ثلاثية الأبعاد في مواجهة الصين، تقوم على:
1- تعظيم القدرات الذاتية للولايات المتحدة.
2- تقوية شبكة التحالفات الأميركية مع بقية دول العالم.
3- التنافس مع الصين بمسؤولية وثقة.
وبينما تؤكد الورقة أن التنافس مع الصين “سيكون أكثر وضوحاً في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، رغم امتداده ليشمل مناطق أخرى كثيرة”، فإنها تتنبأ بأن السنوات العشر القادمة “ستكون العقد الحاسم في المنافسة التي ستحدد الموقع التنافسي لكلا البلدين لفترة طويلة قادمة”.
ولم تنسَ الورقة بالطبع سرد نوعية القضايا التي سيدور حولها الصراع والتنافس بين الولايات المتحدة والصين في المرحلة القادمة، “بدءاً بالبنية التحتية الرقمية غير الموثوقة، مروراً بقضية الإجبار على العمل في سلاسل التوريد، وانتهاء بالصيد غير القانوني وغير المبلَّغ عنه وغير المتقيد بالقواعد”، مع التأكيد في الوقت نفسه على إصرار الولايات المتحدة على “محاسبة الصين على ما قامت به من انتهاكات وأعمال إبادة جماعية وجرائم ضد الإنسانية في شينجيانغ، وعلى انتهاكاتها حقوق الإنسان في التبت، وقيامها بتفكيك الحكم الذاتي والحريات في هونغ كونغ”.
أما فيما يتعلق بقضية تايوان، فتؤكد الورقة عدم تأييد الولايات المتحدة لاستقلال تايوان واستمرار التزامها سياسة “صين واحدة”، لكنها تؤكد في الوقت نفسه التزامها قانون العلاقات مع تايوان، الذي يفرض عليها “مساعدتها في الدفاع عن نفسها في حال تعرضها لأي هجوم من جانب الصين”.
وإذا انتقلنا الآن إلى ما تتضمَّنه الورقة من رؤية للتحديات التي تمثلها روسيا الاتحادية، ولما يتعين على الولايات المتحدة القيام به في مواجهتها، فسوف نجد أنها تختلف كثيراً، سواء من حيث الشكل أو من حيث المضمون.
من حيث الشكل، تستخدم الورقة لغة حادة في التعامل مع روسيا. أما من حيث المضمون، فإنها تتحدث بوضوح شديد، ليس عن ممارسة الضغط على روسيا أو معاقبتها فحسب، إنما عن إلحاق “هزيمة إستراتيجية” بها أيضاً.
تقول الورقة: “اختارت روسيا اتباع سياسة خارجية إمبريالية بهدف قلب الركائز الأساسية للنظام الدولي، بلغت ذروتها بغزو أوكرانيا وبالتدخل العسكري في سوريا، وهي تقوم بجهود مضنية لزعزعة استقرار جيرانها باستخدام القدرات الاستخباراتية والإلكترونية، وبمحاولات صارخة لتقويض الديمقراطية في دول كثيرة حول العالم، وبتدخل وقح في السياسة الداخلية الأميركية يستهدف زرع الانقسامات بين الشعب الأميركي”.
وتؤكّد الورقة أنَّ الانتهاكات الروسية امتدّت لتشمل الداخل الروسي نفسه “بانتهاك حقوق مواطنيها، وقمع معارضيها، وإغلاق وسائل الإعلام المستقلة”، وتصف النظام الروسي بأنَّه نظام “راكد ولا يستجيب لاحتياجات الشعب”.
بعدها، تؤكّد أنَّ الإدارات الأميركية المتعاقبة “بذلت جهوداً كبيرة لفتح مجالات التعاون مع روسيا والحد من الاحتكاكات معها، لكن بوتين لم يتجاوب مع هذه الجهود، ما يدل الآن على أنه لن يتغير وسيواصل انتهاكاته للمبادئ الأساسية لميثاق الأمم المتحدة”.
لذا، تقرر أن “على الولايات المتحدة عدم الاكتفاء بحشد العالم لدعم الشعب الأوكراني الذي يدافع بشجاعة عن بلاده، إنما محاسبة روسيا أيضاً على ما ارتكبته من فظائع، والعمل على تحويل الحرب على أوكرانيا إلى فشل إستراتيجي لها”.
وبينما تقرر الورقة أنَّ المعالم الكاملة للإستراتيجية التي ستنتهجها الولايات المتحدة في مواجهة روسيا ستتوقف على مسار هذه الحرب، فإنها تحدد في الوقت نفسه ضرورة تضمينها 4 عناصر رئيسية:
1- مواصلة دعم أوكرانيا “في كفاحها من أجل حريتها، ولتمكينها من التعافي اقتصادياً، وتشجيع اندماجها في الاتحاد الأوروبي”.
2- الدفاع “عن كل شبر من أراضي الناتو ومواصلة بناء العلاقة مع الحلفاء والشركاء وتعميقها”، لمنع “روسيا من التسبب بالمزيد من الضرر للأمن والديمقراطية والمؤسسات الأوروبية”.
3- تبنّي إستراتيجية لا تكون قادرة على الردع فحسب، بل أيضاً على “الرد على أي إجراءات روسية من شأنها تهديد المصالح الأميركية الأساسية، بما في ذلك الهجمات التي تستهدف البنية التحتية أو الديمقراطية”.
4- التحسب لاحتمال “لجوء موسكو إلى الأسلحة النووية بعد إنهاك الجيش الروسي التقليدي، وعدم السماح لها أو لغيرها بتحقيق أهدافها من خلال استخدام الأسلحة النووية أو التهديد باستخدامها”.
ولم تنسَ الورقة بالطبع أن تؤكّد “احترام الولايات المتحدة للشعب الروسي وإسهاماته في العلم والثقافة والعلاقات الثنائية البناءة على مدى عقود عديدة”، وأن “هذا الشعب هو الذي سيحدد مستقبل روسيا كقوة كبرى قادرة مرة أخرى على أداء دور بناء في الشؤون الدولية، وأنّها سترحب بمثل هذا المستقبل، وستستمر في الوقت نفسه في صد العدوان الذي ترتكبه الحكومة الروسية”، ما ينطوي على تحريض مباشر للشعب الروسي على إسقاط بوتين.
من هذا الاستعراض الموجز للرؤية الإستراتيجية الأميركية الحالية تجاه كلٍّ من الصين وروسيا، يمكن استخلاص 3 نتائج رئيسية:
النتيجة الأولى: تصميم الولايات المتحدة على الاستمرار في هيمنتها المنفردة على النظام العالمي، وإحكام سيطرتها على المعسكر الغربي، والعمل بكلِّ الوسائل المتاحة، حتى لو اضطرت إلى استخدام السلاح النووي، للحيلولة دون تمكين أي قوة أخرى من تغيير قواعد النظام الحالي.
النتيجة الثانية: حرصها على إلحاق هزيمة إستراتيجية بروسيا من خلال إفشال مخططاتها في أوكرانيا.
النتيجة الثالثة: الحيلولة بكل الوسائل الممكنة دون تمكين الصين من فرض سيادتها على تايوان، من خلال تقديم أقصى دعم سياسي وعسكري ممكن للحكومة التايوانية.
ومع ذلك، نعتقد أنَّ هناك نظاماً دولياً متعدد القطبية قيد التشكل الآن، وأنه قادم لا محالة. وبالتالي، إنَّ مصير الإستراتيجية الأميركية الحالية هو الفشل في نهاية المطاف.