روسيا وإيران .. وزمن قلْب “العقائد” بالإكراه
موقع إنباء الإخباري ـ
حسن شقير:
لعله من الثابت القول بأن أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 أعادت تشكيل وجه العالم من جديد، وأدخلت عليه مفاهيم ونظريات مستجدة في العلاقات والسياسات الدولية بجميع أبعادها، وخصوصاً الأمنية منها، كون اعتبارها نقطة تحوّل مفصلية في مسار الصراع المسلّح التقليدي في العالم، وذلك بأن أصبح الإرهاب عنصراً رئيسياً فيه…
ولعله من المفيد التذكير أيضاً بأن تاريخ الثامن والعشرين من أيلول من العام 2001 لهو تاريخٌ مفصلي في إلزام جميع الدول المنظوية في منظمة الأمم باتخاذ سلسلة من الخطوات المتشعبة على كل من يمارس الإرهاب فرداً كان أو جماعة أو حتى دولة.. وعلى جميع من يُسهّل ويدعم الأعمال الإرهابية في العالم… ليأتي في متن القرار توصية مُلزمة بضرورة تبادل المعلومات الأمنية بين الدول كافة.. وذلك كله كان في متن القرار الأممي الملزم، والصادر في تاريخه، والذي حمل الرقم 1373.
إنطلاقاً من ذلك كله، ظهرت على المسرح العالمي مفاهيم جديدة، لم يعرفها العالم من قبل، وخصوصاً مفهوم “الحرب الإستباقية” والتي جعلتها أمريكا، بعيد ذاك القرار، و استناداً إليه، ركيزةً أساسية في غزواتها العسكرية وهجماتها على الدول، إبتداءً من أفغانستان فالعراق، مروراً بكل تلك الهجمات التي تقوم بها أمريكا في العالم.. والهدف دوماً اجتثاث الإرهاب وفقاً للتعريف الأمريكي له!
من هنا، لم يكن باستطاعة أية دولةٍ من الدول – وبأعمها الأغلب – في العالم في ذلك الحين من جرأة الوقوف بوجه ذاك “النمر الجريح” في أيلوله الأسود .. ومناقشته في مفهوم الإرهاب وتعريفه.. فضلاً عن عوامل امتداداته من عدمها!
منذ ذاك أضحت العلاقات الأمنية بين الدول قائمة على التعاون في محاربة ومكافحة الإرهاب بمفهومه العام وليس التفصيلي الذي تستسيغه كل دولة بحسب فهمها ومصالحها.. فأمريكا وإسرائيل، مثلاً، اعتبرتا أن الإرهاب يتمثل في كل من القاعدة وحزب الله وحماس والفصائل المقاومة بأجمعها.. ناهيك عن الدول التي وضعتها أمريكا على لوائح الإرهاب والدول الداعمة له كسوريا وإيران وكوريا الشمالية، وغيرها من الدول… أما روسيا، فلقد رأت في القاعدة ومتفرعاتها في الشيشان ودول أسيا الوسطى والقوقاز مصدراً أساسياً للإرهاب في العالم… أما إيران ودول محور المقاومة والممانعة.. فلقد اعتبرت أن إسرائيل واحتلالها، وأمريكا وعدوانها على الشعوب، والقاعدة وغيرها من التيارات التكفيرية المسماة إسلامية والمرتبطة بهما بشكل مباشر أو غير مباشر، لهو الإرهاب بعينه.. أما الدول الأوروبية والعربية والإسلامية الأخرى فقد اقتربت وابتعدت عن هذا وذاك بحسب مصالحها وتموضعها السياسي على المسرح العالمي…
لقد وجدت أمريكا، ومن يدور في فلكها من الدول في العالم، في الحرب على الإرهاب ضالتها الرئيسية في تنفيذ أجندتها السياسية، والتي تقوم على السيطرة والتفرّد بالقرار الدولي في العالم.. فمن مشروع “الشرق الأوسط الجديد” الذي بشّر به المحافظون الجدد في عهد بوش ـ الإبن، إلى مشروع “الفوضى الخلّاقة” ومشروع “أقلمة المنطقة” وفقاً لما تضمنته ـ مواربةً ـ إستراتيجية الأمن القومي الأخيرة في عهد أوباما (المنشورة في شباط/ فبراير الماضي).. وإلى غيرها من مشاريع التفتيت والتجزئة للشرق الأوسط، والتي أشعلت في المنطقة ناراً طائفيةً مستعرةً في بعض البلدان، وهي ما تزال تحت الرماد في بلدان أخرى.. وذلك بفعل سياسات ممنهجة، عملت عليها أمريكا ولا تزال حتى اليوم .. الأمر الذي أدى إلى “تدمير فكرة السلام العالمي” على حد ما اعترف به قائد القوات الأميركية في أفغانستان سابقاً “جون بول جونز”، وذلك في معرض تحذيره من السياسة الأميركية المعتمدة لمكافحة الإرهاب!
في خضم هذا التدمير، نشأت داعش وترعرعت وتمددت من العراق فسوريا، وبالعكس، ومن ثم إلى جغرافيات الدول الأخرى، إنطلاقاً من المشرق العربي، فمغربه وشمال أفريقيا، وصولا ً إلى آسيا الوسطى وجنوبها، وصولا ً إلى أوروبا، دون أمريكا لغاية اليوم…
لقد شكل تمدد داعش في العراق وسوريا تحديداً رافعة صهيوأمريكية حقيقة لمشروع حيكت خيوطه بدقة لضرب العناصر الأساسية للدولة بصيغتها الحالية، والتي يُراد لها أن تنحو نحو مزيد من التقزيم والتقوقع ضمن إيديولوجيات جديدة تحاكي في صميمها مشروع الصهيونية الأم في “يهودية الدولة”… الأمر الذي فرض على تحالف إيران وروسيا الجديدة، بالعمل على اجتثاث هذه الرافعة الجديدة، المعيقة لمصالحهما وعقائدهما على حد سواء..
إنطلاقاً من هنا، فلقد ارتكزت داعش في “عقيدتها”، وخلافاً للقاعدة الأم، على عقيدة ترتكز على “التمكين” الجغرافي في أماكن سيطرتها… وذلك في تماهٍ أقرب منه إلى التناغم مع الإستراتيجية الصهيوأمريكية المشار إليها أعلاه، الأمر الذي جعل من “عقيدة” أمريكا وتحالفها -وذلك حتى الأمس القريب – تتبنى استراتيجية مرتكزةٍ على “تقليم أظافر” الإرهاب، بدلا ً من اقتلاعها
هذا التناغم العقيدي ما بين الثلاثي (أمريكا وتحالفها – داعش – الكيان الصهيوني)، شكل مأزقاً حقيقياً لـ “عقيدة ” تحالف إيران – روسيا في المنطقة، منذ ما يقرب من السنوات الخمس فيها، وذلك كون هذا التحالف الثنائي، يخوض صراعه في المنطقة – ووفقاً لمصالحه الإستراتيجية أيضاً – على أساس الصراع بين ما ينادي به من تثبيت للدولة القطرية بمفهومها القديم في المنطقة، وذلك في مقابل الصراع المضاد لذاك الثلاثي في إقامة الدويلات فيها..
من هنا، فلقد شكل التدخل الروسي اللاحق، والمتمم لسابقه الإيراني في سوريا، مأزقاً عقيدياً مضاداً لذاك الثالوث المشار إليه أعلاه، وخصوصاً أن هذا التدخل الحاسم في قراره في ضرورة إجتثاث الإرهاب من المنطقة – وذلك جرى لسان بوتين من الساعة الأولى لتوقيع الإتفاق النووي الإيراني مع الخمسة زائد واحد – والذي أعقبه قرع الروس لجرس الإنذار لأمريكا بضرورة التوقف عن الإستثمار بالإرهاب، وذلك كان من خلال المبادرات التكاملية التي أطلقتها روسيا، ومن ثم إقامة الجسر العسكري الجوي المنظور إلى سوريا.. وصولا ً إلى إطلاق السهم المضاد فيها، منذ الثلاثين من أيلول/ سبتمبر الماضي، والذي أردف بمبادرة إيرانية لحل الأزمة السورية ، والتي وُصفت بـ “الجريئة” في حينه ..
لقد فرض هذا وذاك على أمريكا وتحالفها، تغييراً عقيدياً في استثمار الارهاب وتقليم أظافره ، إلى تبني عقيدة جديدة في وراثته، وذلك رغما عنهم ضمن منطق تقاسم التركة بدلا ً من خسارتها بكليتها… وهذا كله قد ظهر في تغيّر الأسلوب واللهجة الغربية في أمر مكافحة الإرهاب، سواء أكان في فيينا أو ما نتج عنها ..
هذا التبدل العقيدي المفروض على أمريكا وتحالفها تجاه مكافحة الإرهاب، فرض ـ وبشكل تلقائي ـ تبدلاً في عقيدة داعش التمكينية في الجغرافيا، إلى إيغالية في ساحات المستثمرين، فكانت تفجيرات تركيا، واعتداءات باريس الأخيرة، خير شاهدٍ على ذلك … ، إنه عودٌ إرهابي على بدء نحو “التقعيد” (أساليب القاعدة الأم)، ولكن بشكلٍ مرغمٍ هذه المرة .
خلاصة القول: لقد فرضت عقيدة تحالف روسيا – إيران في المنطقة تبدلا ً إستراتيجياً عقيديا ً علىى أمريكا وتحالفها من جهة ، وداعش وأخواتها من جهة أخرى.. ولكن بنكهةٍ أوبامية وداعشية هذه المرّة، بعيداً عن البوشية والقاعدية في المرة السابقة..
إنها لمفارقة حقاً، فلقد مكنت أمريكا القاعدة وحاضنتها طالبان من افغانستان… وبالرغم من ذلك كان ١١ أيلول الأمريكي، والذي فرض على أمريكا بالإنتقال من التمكين الموهوم بالتحصين، مباشرة نحو الإيغال، الأمر الذي أضعف القاعدة، وأنبت من رحمها داعش بعقيدة مغايرة… ظنت معها أمريكا وتحالفها بأنها طوق نجاة لهم، وذلك في الأمن والإستراتيجيا والمصالح على حد سواء… ولكن هيهات ، إنه زمن قلْبُ العقائد، ولكن بحد السيف المضاد هذه المرّة… فما كان من ١١ أيلول ، إلا ّأن حضر مجدداً، ولكن من خلال فرنسا في هذه الجولة !
باحث وكاتب سياسي