روسيا تخوض حرب التحرير العالمية ضد الامبريالية
موقع العهد الإخباري-
جورج حداد:
عشية انطلاق ما أسمته القيادة الروسية في البدء “العملية العسكرية الروسية المحدودة” في أوكرانيا، صوّت مجلس الدوما (البرلمان) الروسي بالاجماع على طلب القيادة الروسية استخدام قوات الجيش خارج الحدود الروسية، أي ليس فقط للدفاع عن الأراضي الروسية المعترف بها دوليًا، بل عمليًا ولبدء الهجوم على الأعداء خارج تلك الأراضي.
ومنذ الطلقة الأولى تأكد أن روسيا دخلت في حرب جيواستراتيجية عسكرية وسياسية واقتصادية واعلامية، مفتوحة وشاملة، مع المنظومة الامبريالية العالمية بمجملها وكان الهدف الجيواستراتيجي الأقرب لهذه الحرب هو السيطرة التامة على الساحة الأوكرانية وتحرير أوكرانيا. ولكن الهدف الأبعد هو: القضاء التام والنهائي على منظومة الهيمنة الامبريالية الغربية ــ الأميركية – اليهودية على العالم، المستمرة منذ اكثر من 2150 سنة، أي منذ قيام روما القديمة بتدمير قرطاجة في 146ق.م الى اليوم.
ولا شك ان انتقال روسيا الى الهجوم يحمل في طياته خطر نشوب حرب عالمية نووية مدمرة شاملة.
وهنا يبرز سؤالان وجوديان يتعلقان بمصير المجتمع البشري والكوكب الأرضي وهما:
– هل يوجد حقًا نظام هيمنة امبريالية ــ يهودية على العالم؟
– هل كان من الحتمي المواجهة العسكرية مع الغرب الامبريالي، بدلًا من الاقتصار على المواجهة “الناعمة” والسلمية: الدبلوماسية والقانونية والسياسية والاقتصادية..؟
نحاول فيما يلي مقاربة الجواب عن هذين السؤالين:
* أولًا – هل يوجد هيمنة امبريالية غربية ـ يهودية (صهيونية) على “النظام” العالمي؟
منذ سنوات طويلة يدور الكلام حول ما يسمى “نظرية المؤامرة”، التي يُتهم فيها الانصار المفترضون لهذه “النظرية” بأنهم موهومون ومهووسون بوجود عصابة أو زمرة “اشرار”، دولية، داخل وخارج مؤسسات الدول الامبريالية، تحرك هذه الدول من وراء الستار لتحقيق المطامع والمصالح الامبريالية لتلك العصابة أو الزمرة “الشريرة”.
أي أن هذه التهمة، بصرف النظر عن صحتها أم لا، تضع “الزمرة الامبريالية الشريرة” خارج اطار المؤسسات “الشرعية” للدول الامبريالية، وتفترض أن الدول الامبريالية هي دول مضللة ومخدوعة تقوم بخداعها وتضليلها وتوريطها “الزمرة الامبريالية الدولية الشريرة”.
ولكن هذه النظرة خاطئة تماما من حيث التفريق بين “الزمرة الامبريالية الدولية” والدول الامبريالية ذاتها. ولكنها صحيحة تماما من حيث وجود “الزمرة الامبريالية الدولية”، انما ليس بانفصال عن الدول الامبريالية، بل كجزء لا يتجزأ من تركيبة النظام الامبريالي العالمي، بل الجزء الاهم فيه.
فالواقع انه خلال المسيرة التاريخية الطويلة منذ تحول الامبراطورية الرومانية القديمة الى امبراطورية استعبادية عالمية، تشكلت تدريجيا، على مر المراحل التاريخية واختلافها، شبكة دولية مترابطة، ثابتة ولكن متجددة على الدوام، من المتنفذين والمستفيدين الأكبر من الأنظمة الاستغلالية القائمة، من كل القطاعات الاقتصادية الانتاجية والمالية والتجارية، من السياسيين والعسكريين والاكليروس والإعلام والثقافة. وكانت هذه الشبكة، ولا تزال، تتميز بأنها تتجاوز الاصطفافات والاستقطابات السياسية والدينية والطبقية والقومية والانتماءات الدولوية حتى اثناء الحروب والنزاعات المسلحة. وليس بالصدفة أن ظهور وتشكل وتبلور وتطور هذه الشبكة، عابرة الدول والاديان والاقوام والبلدان، يتزامن ويتلازم مع ظهور النقود (من المعادن الثمينة) وتحولها الى اسٍّ اساسي في جميع “الانظمة الوطنية”، وفي النظام الاقتصادي ــ الاجتماعي ــ السياسي العالمي بمجمله، وبكل تناقضاته. ومنذ البدء كانت النقود (المال، الكنوز، الرأسمال، منذ ما قبل التحول الى النظام الرأسمالي والامبريالي) هي “الرابط الوجودي” و”الهوية الخاصة” الجامعة لتلك الشبكة أو الزمرة أو العصابة، ومصدر قوتها، ووسيلتها الرئيسية للتأثير في مجريات السياسات “الداخلية” و”الوطنية” للدول، والسياسة الدولية برمتها.
وتاريخيًا، فإن الطغمة المالية ــ الاكليروسية العليا، اليهودية، اضطلعت بدور الرابط “العصبي” الاول، والمحرك (الدينامو) التخطيطي والتوجيهي والتمويلي الاول لهذه الشبكة، حتى في أحلك ظروف العنف والاضطهاد الذي تعرضت له الجماهير اليهودية العادية، كما جرى لدى تدمير الروس لمملكة خازاريا اليهودية على سواحل بحر قزوين (بحر الخزر) في القرنين العاشر والحادي عشر، وفي القدس لدى اقتحام الصليبيين لها في نهاية القرن الحادي عشر، وفي الاندلس العربية لدى “الاستعادة” (reconquista) البابوية لها في نهاية القرن الخامس عشر، وبمواجهة النازية عشية وخلال الحرب العالمية الثانية.
وكانت هذه الزمرة ــ المنظومة الاصطفائية “اليهودية” ــ تجد طريقها دائما، مع نقودها وقروضها، لتعشش في “مراكز القرار” القيادية في كل امبراطورية استعبادية ــ استعمارية ظهرت تاريخيا.
واليوم تتوج هذه الزمرة أو العصابة أو الشبكة وجودها بالتماهي مع التركيبة الامبريالية الاميركية – اليهودية.
مما لا شك فيه انه يوجد “كتلة قيادية” أو “مركز قرار” (متجدد ومتحرك) في تركيبة النظام الدولي عامة، والنظام الامبريالي الدولي المعاصر خاصة، يكرس الهيمنة الامبريالية الغربية على العالم، ولهذه الغاية يوجه ويفرض سياسة الدول في مختلف المراحل والظروف والاوضاع، حتى في حالة اختلاف أو تناقض سياسة أي دولة كانت مع ما تقرره تلك “الكتلة القيادية” أو “مركز القرار” الدولي.
وينبغي التأكيد أن هذه “الكتلة القيادية” الدولية كان ولا يزال أساس ومنطلق وهدف وجودها، هو تكريس الهيمنة الامبريالية الغربية على “الشرق”، بمعناه الواسع: أي اوروبا الشرقية وروسيا واسيا وافريقيا واميركا اللاتينية، الذي يمثل القسم الأكبر جغرافيًا، والأغلبية في الكرة الأرضية سكانيًا. علمًا أن مجموع سكان دول أوروبا الغربية والولايات المتحدة الأميركية، مضافًا إليها كندا وأوستراليا وكل يهود العالم (وهو ما نسميه “الغرب”، لا يمثلون سوى أقلية في الوجود البشري على الكرة الارضية.
ولكل من يستصعب فهم هذه النقطة الجوهرية والمفصلية عليه اعادة نظر تحليلية علمية في الخطوط العريضة للمسارات التاريخية للمجتمع الانساني منذ أيام الامبراطورية الرومانية القديمة الى اليوم.
ولعله من المفيد ايراد بعض الأمثلة الكبرى، الاقليمية والعالمية، على هذه المسارات. وهو ما نحاول مقاربته فيما يلي:
ــ1ــ إقليميا: إبان استعار الحرب العالمية الاولى لاعادة تقسيم العالم بين الدول الاستعمارية، تمت (في 1915 – 1916) ما تسمى “مراسلات الحسين – مكماهون”، التي وعدت فيها بريطانيا (باسم محورها العسكري) بالموافقة على اقامة دولة عربية مستقلة موحدة في المشرق العربي (باستثناء المحمية البريطانية في عدن – اليمن)، بقيادة شريف مكة الحسين بن علي وابنائه، مقابل انضمام العرب الى محور بريطانيا وحلفائها، ضد المحور الثاني الذي كانت تقوده المانيا وتشارك فيه السلطنة العثمانية.
وقد وفى الجانب العربي بتعهده في اعلان الشريف الحسين “الثورة العربية الكبرى” في حزيران 1916، والقتال ضد السلطنة العثمانية. وكتجسيد للاتفاق الانكليزي ــ العربي، شارك في قيادة “الثورة العربية” والقتال ضد السلطنة العثمانية، الى جانب الامير فيصل بن الحسين، الدبلوماسي وضابط المخابرات البريطاني توماس لورانس المعروف باسم “لورنس العرب”، والذي اصدر سنة 1926 مذكراته عن تلك المرحلة في كتاب بعنوان “اعمدة الحكمة السبعة” (مترجم الى العربية).
ودخلت القوات العربية بقيادة فيصل بن الحسين الى دمشق، حيث أعلنت الحكومة العربية التي حظيت بتأييد جميع اقاليم المشرق العربي، بما في ذلك مجلس ادارة “متصرفية جبل لبنان” (لبنان الصغير: الماروني ـ الدرزي) ومجلس “ولاية بيروت” العثمانية السابقة (ذات الطابع الغالب: السني). وجرى رفع “العلم العربي” في بعبدا وبيروت.
وفي الفترة ذاتها كانت تجري، بالموازاة مع “مراسلات الحسين ــ مكماهون”، مفاوضات سرية انكليزية – فرنسية لاعادة تقسيم المنطقة العربية بعد “تحريرها” من الاحتلال التركي؛ وهي المفاوضات التي اسفرت عما عرف بـ”اتفاقية سايكس – بيكو”.
وفي تشرين الثاني/ نوفمبر 1917 اي بعد “مراسلات الحسين – مكماهون” بأكثر من سنتين، وبالموازاة مع “اتفاقية سايكس ــ بيكو”، صدر “وعد بلفور” (الانكليزي ايضا) بالموافقة على انشاء “وطن قومي يهودي” في فلسطين، وهو ما توّج في 1948 بخروج الانتداب البريطاني من فلسطين، واقامة الدولة الاغتصابية اليهودية المسماة “اسرائيل”.
كما أن الجيش الفرنسي اقتحم بالقوة الأراضي السورية، وبعد معركة ميسلون غير المتكافئة، في 1920، دخل الجنرال الفرنسي هنري غورو الى دمشق دخول الفاتحين، وأسقط الحكومة العربية، وحل الجيش العربي الذي قاتل الاتراك، وطرد الملك فيصل الاول الذي أبعد الى العراق، حيث نصبه الانجليز ملكا فيه. وبصورة تشبيهية يمكن القول ان “الام الحنون “فرنسا “حملت” بما سمي “لبنان الكبير” في ميسلون، وولدته في “قصر الصنوبر” في ميدان سباق الخيل في بيروت.
كما طرد الشريف الحسين من مكة المكرمة والحجاز، ونفي الى قبرص. وجيء بالامير عبد العزيز بن سعود من الكويت، وتُوّج ملكا على نجد والحجاز باسم “المملكة العربية السعودية”. وأسفر هذا المسار التاريخي عن إخلال بريطانيا بوعودها للعرب، وتقسيم البلدان المشرقية العربية، وإنشاء “الوطن القومي اليهودي” على أرض فلسطين المغتصبة.
الاستنتاج المنطقي من كل هذه المتاهة، أن الدول الامبريالية الغربية (المنتصرة) كانت توجد لديها خيارات متعددة لتجديد الهيمنة الامبريالية الغربية على الشرق العربي، واعادة رسم خريطة المنطقة. وقد طرحت كل الخيارات للتداول والتجربة العملية، الى أن استقر رأي ما يمكن تسميته “الحكومة الامبريالية العالمية العميقة” على قرارات نهائية، هي ما جرى تطبيقه على الارض، وبالاخص انشاء “الوطن القومي اليهودي” على خلفية تقسيم وشرذمة المنطقة العربية كي تكون الكلمة الاولى في مصائر المنطقة مستقبلًا للكيان الصهيوني المصطنع، كقاعدة رئيسية للهيمنة الامبريالية الغربية على الشرق، المندمجة بالمصالح الضيقة للطغمة اليهودية العليا العالمية.
ــ2ــ عالميا: بعد انتهاء “الحرب الباردة” بانتصار الكتلة الغربية، وانهيار “المنظومة السوفياتية” في اوروبا الشرقية في 1989، وانهيار “الاتحاد السوفياتي” ذاته في 1991، بفعل المؤامرات الامبريالية الغربية ــ اليهودية وخيانة البيروقراطية السوفياتية السابقة الفاسدة، الستالينية والنيوستالينية، شرّعت روسيا جميع الأبواب والنوافذ على مصاريعها للانفتاح على الغرب الأوروبي – الأميركي. وبالرغم من ذلك، وبالرغم من أن اوروبا تدين لروسيا بانقاذها من النير النازي في الحرب العالمية الثانية؛ فشلت تماما مساعي روسيا للتقارب والانضمام الى الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو العسكري. وبدلًا من ضم روسيا إلى الأسرة الاوروبية والاطلسية (الناتوية)، والتخلص مرة والى الأبد من وضعية المواجهة والصراع الروسية ــ الغربية منذ أكثر من ألفي سنة، تبين بالملموس أن ما تريده الكتلة الامبريالية الغربية، ليس انضمام روسيا الى اوروبا والانفتاح والتعاون الدولي بينها وبين الغرب، بل الانقضاض على روسيا وتجويع وتشريد شعبها، والاستيلاء على أراضيها الشاسعة متناهية الغنى، واستعمارها ونهبها.
ولهذه الغاية فإن زبيغنيو بريجنسكي مستشار الامن القومي الاميركي سابقا طرح في كتاباته “روشتة” خطة لتطويع روسيا والسيطرة عليها، تقضي بالعمل على تخفيض عدد سكان روسيا الى 50 مليون نسمة فقط، كي يسهل التغلب والسيطرة عليهم. وهذا ما بُدئ بتطبيقه في روسيا في عهد يلتسين في تسعينيات القرن الماضي، من نهب وسلب وتشريد وتجويع.
وهذا ما يؤكد أن كل أضاليل قاموس الديماغوجيا والبروباغندا الأميركية ــ الغربية حول “الديمقراطية” و”الحريات” و”حقوق الانسان” و”حق تقرير المصير للشعوب” ليست سوى اكاذيب الهدف منها تثبيت وتأبيد الهيمنة الامبريالية الغربية ــ اليهودية على جميع شعوب وبلدان العالم.
ويمكن ايراد ما لا يحصى من الامثلة الواقعية التي تدل على وجود “الحكومة العميقة” أو “العصابة الامبريالية العليا” صاحبة القرار في نظام الهيمنة الامبريالية الغربية ــ اليهودية على العالم، ولكننا نكتفي بهذين المثلين، الاقليمي والعالمي.
* ثانيًا ــ هل كان بالامكان أن تتجنب روسيا المواجهة العسكرية مع الامبريالية الغربية؟
لقد سبقت قرار التدخل العسكري الروسي في اوكرانيا في شباط/ فبراير 2022 مقدمات جعلت هذا القرار الزاميًا، وجزءًا من مسار تصادمي متواصل. ونشير في هذا الصدد الى النقاط التالية:
أ – بعد الانقلاب الفاشي في شباط/ فبراير 2014 ضد الرئيس الشرعي السابق فيكتور يانوكوفيتش، بسبب سياسته المتوازنة في العلاقات مع روسيا ومع الاتحاد الاوروبي، تعمد النازيون القدماء – الجدد، بتحريض وتمويل أميركيين وبتأييد ودعم الاتحاد الاوروبي شن حملة وحشية لمطاردة وقتل المواطنين الأوكرانيين الروس والناطقين بالروسية، وحرق بيوتهم. وطبعا لم يكن الاعلام الغربي يعير أي اهتمام لهذه الجرائم، لأن اهتمامه هو بـ”حقوق الانسان”. والروسي (كما هو الوطني اللبناني والفلسطيني والسوري والعربي) لا يدخل تحت مفهوم “الانسان” في الثقافة الامبريالية الغربية – اليهودية.
وفي هذه الحالة كان من الطبيعي ان تنتفض الاقاليم الشرقية في اوكرانيا ذات الاغلبية الروسية والناطقة بالروسية، وتجري استفتاءات الانفصال عن أوكرانيا، وطلب الانضمام الى روسيا.
وكان من الطبيعي، ومن دون أي قرارات من الدولة الروسية، أن مئات الألوف من المتطوعين الروس، وخصوصًا من القوزاق (الذين ينتمون الى اتنية واحدة هم وقوزاق الدونباس في اوكرانيا) أن يتدفقوا إلى شرق أوكرانيا للمشاركة في الدفاع عن أبناء اتنيتهم وقوميتهم الروسية.
ب – وبعد انضمام شبه جزيرة القرم الى روسيا، واستقلال الجمهوريتين الشعبيتين في الدونباس (دونيتسك ولوغانسك)، حشد النازيون الاوكرانيون والجيش الانقلابي قواتهم على حدود الجمهوريتين الشعبيتين، ومنذ شباط/ فبراير 2014 وحتى شباط/ فبراير 2022، مارسوا حرب ابادة حقيقية ضد المدنيين والنساء والاطفال والمسنين في الجمهوريتين، وسقط بنتيجة ذلك مئات الوف القتلى والجرحى، وشُرد الملايين، ولجأ الى روسيا حوالى مليون ونصف المليون لاجئ من تلك المناطق. وصار لزامًا وواجبًا وطنيًا على الدولة الروسية أن تتخذ موقفًا لوقف هذه المجزرة التي تجري.
ت – الأخطر من ذلك كله ما تكشفه الوقائع العمليانية العسكرية التي كانت تجري، حتى ساعة التدخل العسكري الروسي في 24 شباط/ فبراير 2022، في المحيط الملاصق للاراضي الروسية من القوقاز والبلقان والبحر الاسود حتى بحر البلطيق.
لقد كانت جميع القيادات العسكرية والسياسية، الاميركية والناتوية والاتحاد ــ اوروبية، تعلن باستمرار أنه جرى صرف النظر أقله مرحليًا عن امكانية ضم أوكرانيا وجورجيا الى حلف الناتو، وانه لا توجد اية نية للاصطدام العسكري مع روسيا. ولكن بعكس ذلك، فإن الوقائع الملموسة كانت تشي أن كل هذه التصريحات “السلمية التطمينية” لم تكن سوى اضاليل وقنابل دخانية للتمويه، تكذبها الوقائع.
ولم يكن بامكان عيون المراقبة الروسية اليقظة أن لا ترى المجريات التالية:
– منذ اعادة انضمام شبه جزيرة القرم الى روسيا وحتى عشية شباط/ فبراير 2022، تم مضاعفة تعداد الجيش الاوكراني على مرحلتين: في الاولى من 260 الفا الى 400 الف؛ وفي الثانية من 400 الف الى 800 الف؛ وكان يجري العمل لرفع التعداد الى مليون جندي في الاشهر التالية.
– وطبعا كانت تتدفق على حكومة الرئيس الاوكراني اليهودي العميل زيلينسكي الاسلحة والمستلزمات اللوجستية والمساعدات المالية، لتمويل وتسليح وتجهيز هذا الجيش الضخم.
– لم يتوقف لساعة واحدة تدفق سيل الأسلحة الى بولونيا ودول البلطيق الناتوية ورومانيا وبلغاريا وجورجيا ناهيك عن اوكرانيا. ولأجل تسليح “خط بحر البلطيق ــ البحر الاسود” فتحت جميع مستودعات الأسلحة الخاصة بالجيوش الأميركية والناتوية لأجل تسليح وتجهيز وتحضير هذا “الخط العسكري” بمواجهة روسيا.
– تدفق عشرات الوف الخبراء والمستشارين والمدربين العسكريين والجنود المجربين، والاميركيين والناتويين، الى دول “خط المواجهة الشرقي” هذا، للتدريب والتوجيه والقيادة الميدانية لجيوش تلك الدول.
ــ تم انشاء معسكرات خاصة على الاراضي الاميركية يجري فيها تجميع المقاتلين الدواعش المسحوبين من سوريا والعراق وتركيا وغيرها، الى جانب “المتطوعين” من ضباط وجنود الاحتياط في جيش العدو الاسرائيلي، وغيرهم من المرتزقة؛ وتنظيم دمج هذه المجموعات في وحدات قتالية منسقة؛ وارسالها الى معسكرات خاصة في بولونيا، حيث يتم تزويدها بالاسلحة والمعدات المطلوبة، وتسريبها من بولونيا الى الاراضي الاوكرانية، للقتال الى جانب النازيين الجدد والجيش الاوكراني الانقلابي في شرقي اوكرانيا. وقد تحولت بولونيا (الناتويية – الكاثوليكية) الى معسكر تجميع وممر للمرتزقة الدوليين، للقتال ضد الروس في شرقي اوكرانيا.
– تم تزويد القوات الاوكرانية المعادية بمنظومات صواريخ هيمارس HIMARS الاميركية، محدودة المدى، والتي يمكن تحويلها الى منصات إطلاق لصواريخ يصل مداها الى 200 و300 كلم، لضرب أهداف داخل العمق الروسي. وهي قادرة على حمل رؤوس حربية عادية و”غير عادية”.
– تم حشد أكثر من 415 الف جندي ناتوي، منهم حوالى 60 الفا من قوات النخبة الاميركية، في بولونيا وجميع الدول الواقعة على “خط المواجهة الشرقي” مع روسيا من البلطيق وحتى القوقاز.
ــ عادت أميركا لنشر الصواريخ قصيرة ومتوسطة المدى (500-1000 كلم) في الدول القريبة من روسيا، مما يعني امكانية ضرب موسكو ذاتها في 5-6 دقائق.
ــ تم استقدام القطع البحرية الحربية (السفن والغواصات) الاميركية والناتوية، الى بحر البلطيق والبحر الاسود.
ــ تم دفع دولتي فنلندا والسويد الحياديتين والمتاخمتين بحرا وبرا لروسيا، لطلب الانضمام الى حلف الناتو العسكري المعادي لروسيا، كغطاء سياسي مسبق لتبرير استخدام اراضيهما وموانئهما من قبل القوات الناتوية.
ــ واخيرا لا آخرا تم طوال الفترة الماضية وحتى اللحظة، تتويج كل هذه الممارسات المعادية لروسيا، بإجراء كافة اشكال المناورات العسكرية التدريبية، البرية والبحرية والجوية والصاروخية. وكلها تدور حول موضوع واحد هو: محاكاة الهجوم على الاراضي الروسية.
أمام هذه المعطيات كلها، تأكدت القيادة السياسية والعسكرية الروسية أنه يجري التحضير لهجوم اوكراني – ناتوي مشترك واسع النطاق ضد روسيا انطلاقا من الدونباس، وأن الهجوم كان من المفترض أن يبدأ و”ينتهي” قبل حلول شتاء 2022-2023. وقد كان تفجير خطي انابيب الغاز “السيل الشمالي 1 و 2″، في ايلول/ سبتمبر الفائت جزءًا من هذا الهجوم، نفذته الوحدات الخاصة البريطانية، مع استكشاف وتغطية جوية وفضائية اميركية.
أثناء الاحتفالات بعيد النصر على النازية في ايار/ مايو 2022 قال الرئيس بوتين: اننا لن نقع مرة أخرى في خطأ انتظار الضربة الأولى ضدنا من العدو، كما جرى في حزيران 1941. إذا تعرضت روسيا لخطر العدوان مرة أخرى فإن الضربة الاولى ستكون من قبلنا وليس من قبل العدو.
ان الاصطدام بين روسيا والناتو كان قادما لا محالة، ولو لم تسبق ضربة روسيا للناتو، لسبقت ضربة الناتو لروسيا.
وخلاصة القول: إن “العملية العسكرية المحدودة” التي بدأتها روسيا في شرقي أوكرانيا في نهاية شباط/ فبراير 2022، ما هي سوى “الضربة الاولى” التدشينية في حرب وقائية أو استباقية، يمكن وصفها بأنها بداية الحرب العالمية الجديدة بين روسيا والمعسكر الامبريالي الغربي بمجمله.
لقد أوقعت العملية العسكرية الروسية المتواصلة في اوكرانيا البلبلة والارتباك في المعسكر الاميركي – الناتوي المعادي، وانتزعت منه زمام المبادرة، وهي ستحافظ على هذه الميزة الستراتيجية و”تطورها” بمفاجآت جديدة غير متوقعة دائمًا.
ولم يعد بامكان روسيا التراجع ومهادنة المعسكر الامبريالي الغربي، لأن أي تراجع يعني تسليم المبادرة من جديد للمعسكر المعادي.
واذا كان خط الصدام الاولي يقع حاليا في اوكرانيا ومحيطها، فإن الساحة الكاملة للحرب ستشمل كل حلف الناتو، بدءا بالدول الناتوية والموالية للناتو من البلطيق الى القوقاز، كمرحلة اولى (ما بعد اوكرانيا)، ثم جميع البلدان الناتوية الاوروبية كمرحلة ثانية، وأخيرًا جميع القواعد والاساطيل الحربية الاميركية في العالم، وانتهاء بالبيت الابيض والبنتاغون في واشنطن.
ومع بدء “العملية العسكرية المحدودة” أعلن الرئيس بوتين، بوصفه القائد الاعلى للقوات المسلحة الروسية، الاستنفار الاقصى للقوات النووية الروسية.
والآن تدخل روسيا في المعركة بجميع الأسلحة، بدءا من فرسان القوزاق بالنياشين على صدورهم والسيوف التقليدية في قبضاتهم، وليس انتهاء بالغواصات النووية العملاقة “النائمة” في اعماق جميع بحار ومحيطات العالم تنتظر ليلا ونهارا كلمة “إطلاق” كي تطلق الصورايخ النووية المرعبة حاملة الجحيم الى جميع مواقع جميع الاعداء.
لقد كسرت روسيا مرة والى الأبد هيبة الامبريالية الغربية ــ الاميركية ــ اليهودية. والقيادة الوطنية الروسية تدرك تماما انه لم يعد من الممكن ضمان الامن القومي لروسيا، وسلامة واستقلال وحرية وتقدم الشعب الروسي، الا بتحرير العالم بأسره من الهيمنة الامبريالية الغربية ــ اليهودية.
هذه ليست المهمة التاريخية للشعب الروسي وحده بل هي مهمة جميع شعوب العالم الطامحة الى التحرر من الهيمنة الالفية للامبريالية الغربية ــ اليهودية.