رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه…
صحيفة الوفاق الإيرانية-
مصطفى محسن اللواتي:
كان ادوارد شيفرنادزه وزير خارجية الاتحاد السوفييتي في عهد غورباتشوف والوفد المرافق له ينتظرون في غرفة صغيرة قدومه، وفي يد شيفرنادزه رسالة جوابية مهمة من رئيسه غورباتشوف..
الرسالة كانت جوابا على رسالة عميقة جدا، رسالة لم تكتب بلغة الرسائل الرسمية الجافة، ولا بلغة الدبلوماسية المجاملة او المنافقة، بل رسالة شفقة وعطف، رسالة مشاعر نبيلة تريد الخير لامة كاملة…
كانت الرسالة التي ارسلت لغورباتشوف تقول في بعض فقراتها:
“فإن القضية الأولى التي ستكون يقينا سببا لنجاحكم هي أن تعيدوا النظر في سياسة أسلافكم المتمحورة حول محاربة الله واستئصال الدين من المجتمع.
فهذه السياسة بلا شك هي التي أنزلت أكبر وأهم ضربة على جسد الشعب السوفياتي، واعلموا أن التعامل مع القضايا العالمية لا يمكن أن يكتسب الصبغة الواقعية إلا من خلال هذا الطريق”.
وفي فقرة أخرى تقول:
“إنكم إذا أردتم أن تحصروا جهودكم لحل العقد المستعصية في الإقتصاد الاشتراكي والشيوعية في هذه المرحلة باللجوء إلى مركز الرأسمالية الغربية، فاعلموا أن نتيجة ذلك لن تنحصر في العجز عن معالجة شيء من آلام شعبكم، بل ستتجاوز ذلك إلى إيجاد حالة تستلزم مجيء من يعالج آثار أخطائكم، لأن العالم الغربي مبتلٍ أيضاً بنفس ما ابتليت به الماركسية اليوم”.
وبينما الوفد ومن معه ينتظرون بترقب، في غرفة بسيطة متواضعة، خلعوا احذيتهم قبل ان يدخلوها، في بروتوكول لم تتعوده دبلوماسية القوى العظمى، دخل الشخص المنتظَر، واستمع لشيفرنازده وللمترجم وهما يقرآن رسالة غورباتشوف، وحينما انتهيا كان الجميع ينتظر رد فعل دبلوماسي، واذا به بلا مقدمات يعرب عن اسفه ان السيد غورباتشوف لم يُبدِ الاهتمام اللازم بالموضوع الرئيسي الذي تمحورت حوله الرسالة.
وقام وخرج حتى قبل ان يكمل المترجم ترجمة كلامه.
هذه القصة رواها حجة الاسلام محمد حسن رحيميان والذي تولى عدة مناصب منها عضويته لمجلس صيانة الدستور في الجمهورية الاسلامية الايرانية.
هذه القصة تعطي صورة عن مناقبية الامام الخميني رحمه الله، وعن قوة شخصيته التي كان يتحلى بها، وعن غيرته على حُرَم الله.
ونحن نحتفي بالذكرى ال ٣٣ لوفاته رحمه الله، فإننا نستذكر الاية(١١١) الاخيرة من سورة يوسف: “لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب، ما كان حديثا يُفترى، ولكن تصديق الذي بين يديه، وتفصيل كل شيء، وهدىً ورحمةً لقوم يؤمنون”.
هذه الآية توضح اهمية استذكار مناسبات ومواقف وقصص الماضين:
– فهي عبرة لكل ذي عقل، وهو اهم هدف يمكن إستلاله من استعادة هذه المناسبات.
– ولا بد لهذه الاستعادة للماضي من الفحص الدقيق والجيد بحيث لا تبخس الماضين اشياءهم، ولا تدخلهم في مبالغات تخرجهم من روعة كونهم اناسا مثلنا، فالافتراء في الافراط والتفريط مرفوض.
– وهذه القصص يمكن جعلها حجة وتوثيقا تاريخيا على واقع الفكر وواقع المعيشة في تلك الفترات.
– وتفاصيلها فيها من الاستفادة العملية الكثير والكثير، من معرفة السنن التي تقوم وتسقط بها الحضارات، واسباب النهوض وغيرها.
– وتظل هذه القدوات والقصص في النتيجة اشعاع هداية، وطريق رحمة حين الاقتداء بها.
شخصية الامام الخميني لم تكن شخصية عادية، فهذا الرجل حقق معادلة صعبة حينما استطاع ان يبرز الاسلام كقوة في وسط معسكرين كانا يعتبران قطبا العالم.
واستطاع ان يؤسس لصحوة اسلامية قوية وكبيرة من خلال ثورة اسلامية اسقطت اقوى حليف لاميركا واسرائيل في المنطقة.
ولا اريد الخوض في فكر الامام الخميني الفقهي والعرفاني والسياسي في هذه العجالة، ولكن ما يخص واقعنا الحالي لا بد من الاشارة لامرين قام بهما كانا دليلا على ذكاء غير عادي من هذا الرجل، لحفظ واقعنا الاسلامي الذي يعاني تشظيا وتشتتا كبيرا:
– تأسيسه لاسبوع الوحدة في مناسبة مولد النبي الاكرم (ص) والتي يحتفل بها المسلمون الشيعة يوم ١٧ ربيع الاول، فيما يحتفل بها بقية المسلمين يوم ١٢ ربيع الاول، فجعل الفترة بين ١٢-١٧ ربيع الاول اسبوعا للوحدة، تقام فيه الفعاليات والندوات والبرامج والمعارض وغيرها بين جميع المسلمين بكافة فرقهم ومذاهبهم، حيث يتلاقون كي تتلاقح الافكار، وتتصافى القلوب، وتنفتح النفوس على بعضهم، ورغم ان الفكرة لا زالت تُحارب، ولم تحقق كثيرا من اهدافها، الا ان وجود مثل هذه المشاريع والمبادرات مهمة في جسد هذه الامة المنكوبة والتي يتلاعب بها المغرضون والاعداء.
– اعلانه رحمه الله الجمعة الأخيرة من شهر رمضان يوما عالميا للقدس، ورغم بطء تحقق اهداف الفكرة الا اننا خلال السنوات الاخيرة شاهدنا وبوضوح ثمرات هذا الاعلان، وكيف تبناه الاحرار والمناضلون من كل المسلمين، فاصبح يوم القدس امرا واقعا يحتفل به العالم الاسلامي، واستطاع ان يغرس في القلوب حب الاقصى، ويسلط الانظار على اهمية القدس، ويجعل القضية الفلسطينية ومعاناة شعبها حية نابضة امام العالم كله.
– أصدر تعليماته بمنع طباعة أية كتب تنال وتسب وتشتم رموز الآخرين، وذلك لخلق اجواء من التصافي والمحبة، ولتجفيف أية منابع قد تثير الغلواء، وتزيد من التوتر، ورغم أن هذه الخطوة أثارت عليه انتقادات عديدة من جهات علمائية ترى فيها انها خطوة “إنبطاحية” وانها ستُنسي الأجيال عقيدتها وتاريخها، إلا أنه رحمه الله ظل ثابتا على رأيه حتى وفاته ايمانا منه على أهمية الوحدة وحاكميتها على كثير من التصرفات التي لا داعي لها.
في كتاب سراح القلوب والذي يروي ذكريات كثير ممن عاشر الامام الخميني وصاحَبَه، يروي فيه امير هوشنگ عسگري ان احد الصحفيين الاميركيين واسمه “مايك والاس” -اجرى لقاء مع الامام الخميني في فترة سابقة- كان يروي لاحد القنوات الاميركية انطباعاته عن لقائه بالامام، فكان يقول: “لابد من الاعتراف بأنه أذكى الساسة الذين رأيتهم وأكثرهم فطنة وذكاءً”
ويضيف: “كان يتمتع بقدرة عجيبة في الهيمنة على محاوريه. وبدلاً من أسأل منه، كان هو الذي يتحكم بأسئلتي”.
ويكمل هذا الصحفي بقوله: “وقد رأيت فيه رجلاً عقائدياً حقاً، وأن الدنيا والبهارج الدنيوية لم تكن تعني شيئاً بالنسبة له”.
واختم هذا المقال بقصة اخيرة يرويها حجة الاسلام فردوسي پور عن هذا الرجل الذي لا زال تأثيره يهز كثيرا من الأركان:
حينما اراد الامام الخميني الرجوع الى ايران بعد سقوط الشاه، تم ابلاغه رحمه الله بالترتيبات التي اعدت لاستقباله من تنظيم استقبال حاشد كبير، وتزيين الشوارع، واعداد مروحية لنقله من المطار الى “بهشت زهراء”، فقال الامام الخميني لمخاطِبه: “اذهب واتصل بايران وقل للسادة: هل كوروش يريد دخول ايران؟
ان طالباً من طلبة العلوم الدينية كان قد خرج من ايران وها هو الآن يريد العودة اليها”…
أليس هذا الشخص مصداق لقوله تعالى:
“تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الارض ولا فسادا”.