رئيس الشاباك السابق ديسكين: لنمنع الآن الانفجار الكبير
“الوضع الحالي يخلق تركيزا خطيرا من أبخرة وقود و”الربيع الفلسطيني” سيوجه ضد إسرائيل * لتجنب الانفجار الخطير يجب خلق الأمل، وبضمن ذلك إطلاق سراح الأسرى ووقف الاستيطان خارج الكتل الاستيطانية”..
الربيع العربي لم يجلب حتى الآن الاستقرار لأي دولة، ولكنه جلب “ديمقراطية للحشود الضخمة وليس للغالبية”، فالشعوب في الشرق الأوسط أدركت فجأة قوتها وقدرتها على إحداث ثورات واستبدال أنظمة حكم. وأدركت هذه الحشود أن كتلة ضخمة من البشر غير راضية سيجد النظام صعوبة في السيطرة عليها، حتى لو لم تكن أغلبية.
وحتى من الناحية السطحية فمن الممكن ملاحظة أن كافة الشروط تتوفر لدينا لكي تستيقظ الحشود الفلسطينية. ففي الضفة الغربية يتصاعد التوتر والإحباط في وسط السكان الذين يشعرون أن أراضيهم تصادر، ويشاهدون البؤر الاستيطانية والمستوطنات تبنى، ويذوتون حقيقة أن الدولة التي يأملون بها تبتعد عنهم. وحتى الاقتصاد لم يعد شيئا يمكن التعزي به. ويتعاظم أيضا الإحساس بالقمع والاضطهاد، وفي المقابل يتصاعد الغضب بسبب الاعتداءات المتواصلة من قبل “مخربي جباية الثمن/ تاج محير”.
وبحسب تجربتي، فإن الأخطر هو الإحساس الذي بدأ يسود الجماهير الفلسطينية بأننه “لا يوجد مستقبل، وإنما يوجد ماض فقط”. والماضي لا يوجد فيه شيء جيد، والمستقبل لم يعد قائما.
تحصل البدائل الاجتماعية العميقة بشكل عام ببطء، وعلى مدار سنوات كثيرة، تحت كاشوف/ رادار أجهزة الاستخبارات والدراسات، والتي تواجه دائما وأبدا مشكلة في التشخيص في الوقت المناسب، وفي إدراك أبعاد استبدال جيل من الشباب الفلسطيني (70% من الفلسطينيين تحت جيل 35 عاما)، وهو جيل يرى ظاهرة “الربيع العربي” في الشرق الأوسط، ويلاحظ ضعف السلطة الفلسطينية، ويعاني من الاقتصاد المخنوق تحت الاحتلال. هذا جيل يضم نسبة عالية من المثقفين خريجي الجامعات، ولكن البطالة في صفوفهم هي الأعلى. فمئات آلاف الشبان المثقفين والذين كبروا تحت الاحتلال الإسرائيلي هم ساخطون وغاضبون ومحبطون وبدون أمل، ويبحثون عن “هدف لتفريغ ذلك، ومن السهل تخمين ماذا يمكن أن يكون هذا الهدف”.
وفي المجتمع الإسرائيلي هناك توترات ليست بسيطة بين الغالبية اليهودية وبين الأقلية العربية التي تتغذى بسهولة مما يحصل بيننا وبين الفلسطينيين. فتجربة الماضي أثبتت أنه في الأحداث الكبرى أظهر العرب المواطنين في إسرائيل تضامنا مع إخوانهم الفلسطينيين، مثل هبة أكتوبر 2000، والمظاهرة الحاشدة خلال عملية “الرصاص المصبوب”، وأحداث أخرى في ساحة الحرم. كل ذلك يجب أخذه بالحسبان.
كل ذلك يشكل “أبخرة وقود” يتصاعد تركيزها إلى مستوى تكفي فيه شرارة صغيرة لإحداث انفجار كبير.
فقدان السيطرة
عندما يكون تركيز أبخرة الوقود مرتفعا، فإن الشرارة الصغيرة قد تكون حادث طرق (كما حصل في الانتفاضة الأولى في كانون الأول/ ديسمبر 1987)، عملية ينفذها مخرب يهودي ضد عرب، تفريق مظاهرة أطفال وشبان يتورط فيها جندي بدون تجربة بإطلاق نار يؤدي إلى مقتل متظاهرين، وحتى إشاعة تنشر.
خروج حشود ضخمة من الفلسطينيين ومن العرب المواطنين في إسرائيل إلى الشوارع هو سيناريو محتمل، وليس مستبعدا. وقد حصل ذلك في الماضي، وحصل في السنوات الأخيرة في تونس وليبيا ومصر وسورية والبحرين وتركيا وإيران. ولذلك يجب أن نفترض أن ذلك قد يحصل عندنا. وطبيعة مثل هذه الأحداث تخرج عن السيطرة. وحتى مروان البرغوثي أحد المبادرين إلى أحداث قادت في نهاية المطاف إلى الانتفاضة الثانية لم يخطط مسبقا أن الخروج إلى الشوارع في أيلول/ سبتمبر 2000 سيتحول إلى انتفاضة تستمر لسنوات مع عمليات انتحارية وآلاف القتلى وعشرات آلاف الجرحى في الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي. فقد خطط لعدة أيام أو أسابيع معدودة من المظاهرات، ولكن تواصل الأحداث والردود عليها، والردود على الردود، أدت إلى فقدان السيطرة والتدهور الخطير إلى موجة إرهاب استمرت قرابة 7 سنوات.
نقطة اللاعودة قريبة جدا
هل يمكن الخروج من المسار ذي الاتجاه الواحد الذي يؤدي إلى مواجهات بدون نهاية لها؟ المطلوب أولا عدة فرضيات أساسية مهمة:
• إستراتيجية “حل الدولتين لشعبين” هي الإستراتيجية التي تقود دولة إسرائيل في سياق الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني، وأنا مؤيد بحماس لهذه الإستراتيجية، ولكني أعتقد أننا قريبون جدا من نقطة اللاعودة التي لا يمكن بعدها تحقيق هذا الحل على الأرض.
• غالبية القضايا الجوهرية في الصراع تتركز في “يهودا والسامرة والقدس” (الضفة الغربية).
• القضايا الأكثر تعقيدا هي تسوية الأراضي وحق العودة وحل قضية القدس، وخاصة الحرم المقدسي والحدود الشرقية – الأغوار.
• انقسام السلطة الفلسطينية بين حركتي فتح في الضفة الغربية، وحركة حماس في قطاع غزة، يعتبر مشكلة مصيرية في المحادثات وفي القدرة على التوصل إلى تسوية نهائية وتامة.
• الخارطة السياسية الائتلافية الحالية في إسرائيل لا تسمح بتطبيق أية تسوية مع الفلسطينيين.
• عدم الثقة بين القادة يصعب التوصل إلى تسوية (مثل التسويات السابقة).
• الأجواء العامة في الطرفين لا تسمح بالتوصل إلى اتفاق يمكن تطبيقه.
• أية تسوية تقتضي حلا لقضية الأمن قابلا للحياة ومستقرا لفترة طويلة.
وفي النهاية يطرح السؤال المرتبط بكل واحدة من النقاط السابقة، وهو ما الذي يجعل الاتفاق فعالا لفترة طويلة؟
المصالح التي تعزز الاتفاق
نظرا لأن كل القضايا على الطاولة ثقيلة الوزن ومرتبطة بالحل، فإن الهدف الأول الذي يجب السعي نحوه هو التعايش الذي يشكل البنية التحتية للتوصل لاحقا إلى السلام “مع الحمامات الطائرة التي تحمل بمنقارها أغصان الزيتون”. هذا التعايش يجب أن يكون مبنيا على أرضية صلبية من المصالح المشتركة لعدد من الدوائر “المعنية”.
وهذه الدوائر المعنية هي الدول التي لها مصلحة مهمة في حل الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني في عصر الربيع العربي والتهديد الإيراني، مثل مصر والأردن والسعودية وإمارات الخليج، بما في ذلك قطر، وتركيا، وبالطبع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وروسيا ودول أخرى. وضمن هذه الدول المعنية هناك عدة دوائر تستطيع تعزيز بعضها البعض، وتثبيت التسوية لفترة زمنية طويلة.
الدائرة الفورية الأولى يجب أن تشمل ذوي المصلحة الأكبر في تثبيت الاتفاق، بحيث يستخلصون منه فائدة أكبر مثل إسرائيل والفلسطينيين والأردن ومصر. إن إدخال الأردن ومصر بشكل معمق إلى المفاوضات في مرحلة مبكرة نسبيا مصيري لنجاح المفاوضات، ولمستقبل الاتفاق الذي يتم التوصل إليه في نهايتها. كما أن تدخل الأردن ومصر بشكل معمق سيوفر لأبي مازن الشرعية العربية المهمة بالنسبة له من أجل اتخاذ قرارات حاسمة.
ومن أجل تحويل هذه الدول إلى شركاء حقيقيين، وذوي مصلحة في الحفاظ على الاتفاق، فإن ذلك يتطلب نسيجا من المصالح المشتركة تنسج بدقة خلال المفاوضات، مثل الأمن والطاقة والمياه والمواصلات والاقتصاد والزراعة. وهذا النسيج يترجم إلى سلسلة من الاتفاقيات البعيدة المدى بين اللاعبين في الدائرة الأولى، بحيث يمكن خلق علاقة تبادلية صحية بين الجميع. وتستطيع إسرائيل، بمخزونات الغاز الإستراتيجية وتكنولوجيا تحلية المياه والتكنولوجيا الزراعية المتطورة، أن تكون لاعبا مركزيا ومؤثرا في كل مجال من المجالات المذكورة.
في الدائرة الثانية يجب أن تكون السعودية وتركيا وإمارات الخليج، التي تستيطع أن تدعم اقتصاديا وسياسيا الحل الذي يتم التوصل إليه وتثبيته. وفي الدائرة الثالثة يجب أن تكون الولايات المتحدة وروسيا وأوروبا وباقي الدول ذات المصلحة الواضحة في حل الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني. يجب أن تخلق محفزات إيجابية، سياسية واقتصادية، لكافة الأطراف المعنية من أجل التوصل إلى تسوية.
إن بناء نسيج المصالح المشتركة لتتحول إلى اتفاقيات إقليمية يضمن بقاء اتفاق السلام المستقبلي، ويضمن التزام كل الأطراف به لفترة زمنية طويلة. وعلاوة على ذلك فإن الالتزام العميق النابع من الشراكة العميقة للأردن ومصر في الاتفاق، مع أرباح واضحة لكل دولة، يضمن أن تحقق مصالحهما مع الدولة الفلسطينية عندما تقام، وبذلك يمكن ضمان التزامها بالاتفاق الموقع عليه لفترة طويلة. وهذا الالتزام يكون مؤسسا على ارتباط كل واحدة من هذه الدول بالدول الأخرى من أجل بقائها واستقرارها كدولة قابلة للحياة من ناحية البنى التحتية والاقتصادية والأمنية، بحيث أن زعزعة الاستقرار سيكون له أبعاد على الدول المجاورة.
ونظرا لأنه قضية الانقسام بين قطاع غزة والضفة الغربية لا يمكن حلها في الزمن المنظور، ونظرا لأن غالبية القضايا المصيرية موجودة في الضفة الغربية، فإن مثل هذا الاتفاق يجب أن يبدأ في الضفة الغربية بسلسلة عمليات ملموسة لبناء الثقة في الفترة القريبة لخلق أجواء تساعد في التوصل إلى حل.
هكذا نخلق الأمل
كيف يمكن تحريك هذه العملية عندما تكون أزمة الثقة بين الطرفين عميقة جدا؟ يجب خلق الأمل. يجب إخراج الجمهور الإسرائيلي والجمهور الفلطسيني من الإحساس بأن هناك ماضيا فقط، والإيمان بأن هناك مستقبلا أيضا. ومجرد وجود الأمل فإنه “يزيت الدواليب” ويساعد في عملية الانتعاش والخروج من الأزمة. ويكون ذلك عن طريق:
أولا: يجب الإيمان بالطريق بكل طاقتنا، وقبل الجميع أولئك الذين انتخبناهم للقيادة والذين يصرحون بأنهم مع حل الدولتين لشعبين؛
ثانيا: من أجل نقل رسالة واضحة بأن قادتنا معنيون بالسلام، يجب إحداث تغيير درامي في الخارطة السياسية الإسرائيلية، بهدف تشكيل ائتلاف جديد يشارك فيه كل الأحزاب التي تدعم اتفاق السلام. فبحسب الخارطة السياسية الائتلافية الحالية لا يمكن قيادة “عملية السلام” في وسط الجمهور الإسرائيلي؛
ثالثا: بناء الثقة الشخصية بين القادة، حيث أن كل العمليات السياسية بيننا وبين العرب قد بنيت على أساس الثقة التي نشأت بين القادة أو مبعوثيهم؛
رابعا: مواصلة إجراء المفاوضات بشكل هادئ وسري قدر الإمكان مع أقل ما يمكن من التسريبات من داخلها إلى حين بلورة الخطوط العريضة؛
خامسا: تغيير الأجواء من خلال توجه وحديث القادة في كل الطرفين مع المجتمع الإسرائيلي ومع المجتمع الفلسطيني؛
سادسا: القيام ببادرات حسنة سخية من أجل تعزيز الأمل والثقة في وسط الجماهير بأن هناك شيئا ما تغير. ويمكن لبادرتين أن تساهما في تعزيز الأمل: الأولى والاهم تجميد الاستيطان بشكل فوري خارج الكتل الاستيطانية الكبرى، والثانية إطلاق سراح الأسرى. ورغم معارضتي الشديدة لإطلاق سراح أسرى نتيجة ابتزاز أو اختطاف جنود أو مواطنين، إلا أنني أؤيد إطلاق سراح الأسرى كبادرة حسنة من الحكومة من أجل الدفع بالعملية السياسية. ومثل هذه البادرة الحسنة، وبسبب حساسيتها في وسط المجتمع الإسرائيلي، يجب القيام بها في التوقيت الأمثل، وبطريقة تتحقق الأهداف منها على النحو الأمثل؛
سابعا: وفي التوقيت الملائم، يجب القيام بخطوات جرئية من قبل القيادة الإسرائيلية، مثل الحضور إلى رام الله أمام هيئة من كبار المسؤولين في منظمة التحرير الفلسطينية أو قادة حركة فتح أو كبار المسؤولين في السلطة الفلسيطنية، أو دعوة أبي مازن للكنيست للتحدث عن السلام؛
ثامنا: (Viability for Land) هذه المعادلة للمفاوضات هدفها إتاحة قيام دولة فلسطينية من جهة، ومن جهة أخرى تقليص تبادل الأراضي. وهذه الأملاك قد تكون مثل: إعطاء مخرج للبحر أو لميناء، شراكة في منشآت تحلية المياه أو توفير المياه، التزام بتوفير الطاقة الكهربائية، والتزود بالغاز، وإقامة مناطق صناعية مشتركة لتطوير الاقتصاد وخلق أماكن عمل.
أعتقد أنه فقط الجمع بين القيادة الشجاعة، والتفكير الإستراتيجي، وتنسيق التطلعات، وخلق الأمل، والتفكير غير التقليدي، والحوار مع الجمهور في كلا الطرفين، من شأنه أن يحدث تحولا يخرجنا من المسار الحالي الذي يقود حتما إلى التفجر القادم.
المصدر: موقع عرب 48