رئاسة الجمهورية وفرص لبنان الضائعة
موقع قناة الميادين-
بثينة علّيق:
مع استمرار الفراغ الرئاسي في لبنان بعد نهاية عهد الجنرال ميشال عون، نشهد موجة جديدة من المكابرة والمعاندة، تتمثّل برفض وصول رئيس يمكنه إعادة الحد الأدنى من مقومات الحياة إلى دولة غارقة في أزماتها.
يبدو أن العقل السياسي اللبناني لا يزال يمتهن بجموده تضييع الفرص وهدر الوقت وتحميل لبنان المزيد من الخسائر المعنوية والمادية، كأن هذا العقل لم يحسن قراءة التجارب القريبة والبعيدة وتقييمها، ويصر على مستوى من العناد والعجب المصطنع يدفعه دوماً إلى التقديرات الخاطئة، وبالتالي تكرار الأخطاء والأداء التخريبي نفسه.
للدلالة على ذلك، وتنشيطاً للذاكرة، لا يمكننا إلا أن نعود إلى تجربة خوض اللبنانيين غمار حرب أهلية دامية كانت في الكثير من مراحلها عبثية. وقد شهدت منذ البدايات طروحات لحلول أسقطتها لغة الدمار والدماء، ليعود المتقاتلون بعد 18 عاماً إلى الحلول ذاتها التي كانت مطروحة بصيغ تكاد تكون متطابقة.
وحده الإمام موسى الصدر امتلك في تلك الفترة نظرة رؤيوية، فوقف في وجه المتقاتلين، داعياً إلى التغيير في الإطار السلمي. وفي الوقت نفسه، رفض بشدة عزل أي فريق لبناني.
بعد الحرب، علّق اللبنانيون اقتصادهم على وعود “الربيع” التسووية، وأغفلوا إمكانية النهوض الذاتي عبر اقتصاد منتج، واعتمدوا على قطاع الخدمات غير الثابت وغير المتلائم مع المتغيرات الاقتصادية في المحيط.
هذا الأداء تكرّر أيضاً بعد تحرير عام 2000، فبدلاً من أن يستفيد اللبنانيون من هذا الإنجاز التاريخي ويحولوه إلى ركيزة لبناء دولة قادرة عادلة، دخلوا في متاهة مواجهة المقاومة التي صنعت تحرير لبنان وقوته، وصولاً إلى وضع لبنان أمام تداعيات القرار 1559 الذي فتح باب الشر أمام إرادات دولية للانتقام من انتصار 25 أيار الذي صُنع بإرادة لبنانية خالصة.
النهج ذاته اعتمده البعض بعد حرب تموز 2006، حين أنكروا انتصار لبنان، ورفضوا قيام حكومة وحدة وطنية تشكل طريقاً للتنمية والإصلاح، ولم يحسنوا الاستفادة من المساعدات الواسعة التي قدمت له عربياً ودولياً.
هؤلاء أنفسهم ربطوا في مرحلة لاحقة مصير لبنان بالحرب على سوريا، وراهنوا على تغيير إستراتيجي ظنوا أنه سيأتي ويضعهم في موقع من يقرر مصير هذا الوطن، إلا أن حسابات الحقل خالفت حصاد البيدر، فلم يكتفوا بإهدار السنين، بل تركوا الاقتصاد الوطني ينهار ويترنح من دون أن يتحلوا بشجاعة وجرأة مد الجسور مع سوريا؛ جار لبنان الوحيد وشريان اقتصاده الحيوي.
اليوم، ومع استمرار الفراغ الرئاسي بعد نهاية عهد الجنرال ميشال عون، نشهد موجة جديدة من المكابرة والمعاندة، تتمثّل برفض وصول رئيس يمكنه إعادة الحد الأدنى من مقومات الحياة إلى دولة غارقة في أزماتها.
يطالعنا البعض بخطاب سياسي ينتمي إلى مرحلة سابقة. يتنكّر هؤلاء لتحولات سياسية إقليمية بدأت تتجاوز الصراع التقليدي الذي ساد خلال العقود الماضية، فالمنطقة، وفق مصادر عديدة ومتنوعة، ذاهبة إلى تفاهم إقليمي واسع بين محوريها.
إنَّ الاتفاق السعودي الإيراني واللقاء السعودي السوري وبداية الحوار الجدي بين السعودية واليمن، كلها مؤشرات واضحة للدلالة على هذه المرحلة الجديدة، والظروف والعناصر التي كانت دافعاً للانقسام العمودي في المنطقة لم تعد موجودة أو على الأقل هي آيلة إلى التلاشي.
كما أن التطورات العالمية المتمثلة بالتوجه نحو عالم متعدد الأقطاب ساهمت في ترسيخ قناعة لدى العديد من دول المنطقة بأن التوازن بين الغرب والشرق هو ضرورة للعبور نحو الاستقرار والتنمية، وشرط لتحقيق المزيد من الهوامش الاستقلالية عن الإرادات الخارجية.
هذه التحولات لا يمكن للبنان أن يكون خارجها أو أن يكون معاكساً لها. وبناء عليه، فإن أي رئيس للجمهورية لا يجسد هذا التوجه ولا يعكسه ستكون حظوظه صفراً. وفي هذا السياق، ترى مصادر مطلعة أن دعم الكثير من القوى المحلية، وعلى رأسهم الثنائي الوطني، لترشيح الوزير سليمان فرنجية للرئاسة، ينطلق من إيمانهم بأنه الشخص المناسب والقريب في هذه المرحلة إلى مقاربة هذا التوجه.
الرجل قادر على التواصل مع الشرق والغرب على حد سواء، وهو مصدر ثقة للطرفين نتيجة وضوح مواقفه، وهو قادر على مد الجسور بين دول الإقليم، لكونه من بيت سياسي ربطته علاقات قوية ومتينة مع سوريا، كما أنه يعد صديقاً لإيران، وليس معادياً للرياض.
أما على مستوى التوازنات المحلية، فالوزير فرنجية الماروني بالصميم والعروبي في التوجه لم يقطع مع أي طرف. وقد بنى علاقة وشراكة قديمة وحديثة مع العديد من القوى السياسية والطائفية. هذه الخصوصيات تجعله أكثر المرشحين الجديين والواقعيين، ويبدو أن فرنسا انطلقت من هذه الوقائع للاهتمام بترشحه وعدم معارضته.
لا شكَّ في أن لبنان اليوم أمام فرصة حقيقية في لحظة التفاهمات الإقليمية والحاجة الدولية إلى الاستقرار، وفي ظل صراعات أقرب إلى الحروب الباردة. كما أن لبنان “النفطي” يحتاج إلى دولة وحكومة قادرتين على الاستفادة من هذه الثروة الواعدة في ظل حاجة عالمية إلى مصادر طاقة متعددة، إلا أن السؤال الذي يُطرح بقوة في ظل هذه الوقائع يتمثل بمدى استعداد العقل السياسي اللبناني للاستفادة من هذه الفرصة، فيذهب إلى تسوية وطنية عنوانها رئيس جمهورية، إضافة إلى حكومة جامعة، ليقودا عملية النهوض، وذلك بالاستفادة من الفرص الثلاث:
– التفاهم الإقليمي.
– الحاجة الدولية إلى الاستقرار.
– الثروة النفطية الواعدة.
وهنا، إما يذهب اللبنانيون إلى هذا الخيار، وإما تضيع الفرصة مجدداً، فيستمر نزيف هذا الوطن بسبب عقول جامدة لا تحسن قراءة الوقائع ولا تقدير الظروف.