ذوبان الثلج وتثبيت مناطق النفوذ الإيراني ـ السعودي
صحيفة الأخبار اللبنانية ـ
هيام القصيفي:
بدأ الاتفاق الايراني ــ الاميركي الوشيك يظهر، تدريجاً، مدى القلق الذي تعيشه دول المنطقة والخليج العربي التي كانت لا تزال مترددة في قراءة الموقف الاميركي واحتمال ذهاب إدارة الرئيس الاميركي باراك أوباما فعلياً الى هذا الاتفاق. يعكس الاعلام العربي والخليجي وسياسيّو هذه الدول، كل يوم، عدم القدرة على التصديق، والاستغراب من ترجمة إدارة أوباما ما كانت تردّده منذ شهور طويلة، بالسعي الى اتفاق جدي مع إيران، ولو كان لرئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو وحلفائها في دول الخليج مواقف معارضة ومتشددة.
ومع كل خطوة جديدة في اتجاه الاتفاق النووي «على إيقاع رقصة الباليه الاميركية ــ الايرانية»، بحسب تعبير سياسي لبناني، يتبين أكثر فأكثر عمق الانقسام الذي تقبل عليه المنطقة، في ظل سعي المحورين الايراني والسعودي ومن معهما «الى تثبيت مناطق نفوذهما».
حتى الآن، لا تبدو المنطقة مقبلة على تغيير في جغرافية الدول ــ الساحات التي يتقاطع فيها المحوران. لكن، في المقابل، هناك محاولات لإحداث تغييرات على مستوى أنظمة الحكم، والتعامل مع وضع الإثنيات وخصوصيات الاقليات والطوائف المتوزعة في هذه الساحات. من هنا يشتد الصراع في هذه المرحلة، تحديداً في سوريا واليمن، وفي العراق بوجه مختلف.
تحاول واشنطن عبثاً اليوم تهدئة مخاوف حلفائها في المنطقة العربية، وفي مقدمهم السعودية، من خلال وزير الخارجية الاميركي جون كيري وحركة ديبلوماسييها، بتقديم كثير من رسائل الطمأنة المتعلقة بالشق النووي وبرفع العقوبات الاقتصادية على طهران. لكن الرياض، التي كانت منشغلة في ترتيب البيت السعودي ــ الداخلي، تسعى بخطوات ثابتة الى توسيع رقعة المحور العربي (والتركي)، وإعلاء شأنه ليحقق التوازن المطلوب مع الطموح الايراني الساعي الى الامتداد من عدن الى المتوسط.
لا شك في أن الارتباك والقلق شغلا السعودية لبضعة أشهر، فلم ترسم استراتيجية واضحة لمواجهة ما يعدّ بين طهران وواشنطن وجنيف. وبحسب مطّلعين لبنانيين، فإن الرياض كانت لا تزال ترصد آفاق هذه الحركة الدولية، لتبني على الشيء مقتضاه.
راهن معارضو الاتفاق على «انقلاب» جمهوري على أوباما لإطاحة أي اتفاق، وراهنوا على معارضة إيرانية متشددة من داخل النظام الايراني. لكن مع جلاء الصورة الدولية من واشنطن الى أوروبا وإيران، صار العالم العربي أمام واقع جديد يحتاج الى مراجعة استراتيجية المواجهة. عدة المواجهة الاولى كانت في إعادة وصل ما كان مقطوعاً مع الإخوان المسلمين في بقع انتشارهم في المنطقة، وتعويمهم «كحالة اجتماعية وسياسية وأمنية»، في وجه التنظيمات الاصولية وإيران في وقت واحد. ومن ثم جاءت خطوة التفتيش عن الرئيس اليمني عبد ربه منصور هادي وإعادته الى عدن، وتسليط الضوء عليه مجدداً، وتحريك الشارع اليمني الموالي له ضد سيطرة الحوثيين على الحكم في صنعاء. وإذا كان العراق حتى الآن قد بقي بعيداً نسبياً عن تحوله إلى أحد التقاطعات الحادة بين المحورين لتداخل العوامل الاميركية والدولية والاقليمية فيه، تبقى سوريا إحدى أقسى حلقات المواجهة بين المحورين، منذ أن اندلعت الحرب فيها. لكنها اليوم تحتل حيّزاً أكبر، وخصوصاً بعد دخول إيران على خط القتال المباشر والعلني، بعد رعايتها السياسية والامنية للنظام السوري.
من هنا يتحول السعي الى تثبيت مناطق النفوذ بين الطرفين مواجهة دامية، تأخذ أشكالاً متعددة. حصة لبنان منها، حتى الآن، ستاتيكو أمني مشروط بتطورين إقليمي ومحلي. يرصد المتابعون في لبنان توقيع الاتفاق الاميركي ــ الايراني، في النصف الاخير من الشهر الجاري، كأحد المواعيد المفصلية التي على أساسها يمكن تتبع التأثيرات الاقليمية على لبنان، من آذار فصاعداً، لأن المنطقة مقبلة على أنماط جديدة من المواجهات مختلفة المعايير عمّا كانت عليه الحال حتى اليوم. وموعد توقيع الاتفاق سيؤشر إما الى تطبيع تقاسم النفوذ «حبياً» أو الذهاب الى مواجهات أكثر دموية، في مناطق التقاطعات التي يشكل لبنان ساحة أساسية بقيت حتى الآن، في الحد الادنى الأمني، مضبوطة. لكن السؤال ما هي حصة لبنان من المتغيرات الاقليمية، ولا سيما أن المواعيد المضروبة تتزامن مع اقتراب انتهاء فصل الشتاء؟
والمفارقة أنه كما كان لبنان راهن مع بداية الشتاء على ما اصطلح حينها على تسميته «الجنرال شتاء» لإبعاد كأس «داعش» و»النصرة» عن لبنان وشلّ تمدّدهما نحو الداخل، فإنه اليوم ضائع بين القلق أو التعويل على ذوبان الثلج على المرتفعات البقاعية.
والمشكلة أن يصبح الثلج أحد الرهانات التي ترسم على أساسها الاستراتيجيات الداخلية، وخصوصاً في ضوء خريطة جغرافية كبيرة تبنى على تقاسم النفوذ بين المحورين المذكورين. وقد يكون ذلك سبباً في توجس الطرفين المعنيين بحرب الجرود وفي شكل جدي، في تأخير المعركة انتظاراً لاستجلاء الوضع الاقليمي، لأنه لن يكون سهلاً تجاوز تبعات تداعيات معركة الحدود السورية ــ اللبنانية. فلبنان لن يبقى حينها بمعزل عن التقاطعات الاقليمية التي ستضعه مجدداً على خريطة أي مواجهة دموية كبرى بين المحورين، تسقط من جرائها الخطوط الحمر التي رسمت لتحييده حتى الآن.