دولة المصارف أو الجمهورية التجارية
موقع قناة الميادين-
موفق محادين:
يستعرض كتاب “دولة المصارف” تاريخ لبنان المالي، ويلخص تاريخه السياسي، من خلال الظروف التي رافقت تأسيس المصرف المركزي وكشفت الأبعاد المحجوبة لكل ما يشهده لبنان.
على الرغم من عنوانه “دولة المصارف. تاريخ لبنان المالي”، فإن هذا الكتاب يلخص أيضاً التاريخ السياسي اللبناني من خلال الظروف التي رافقت تأسيس المصرف المركزي، وكشفت الأبعاد المحجوبة لكل ما شهده ويشهده لبنان، كما أظهرت أن التباينات والخلافات السورية–اللبنانية أسبق بكثير مما تشيّعه الأوساط الانعزالية عن الظواهر الخارجية (الناصرية، ثم الحركة السياسية الفلسطينية، ثم حزب الله)، وتعود جذورها إلى ما يشبه الصراع بين جناحين من البرجوازية السنية، البيروتية والدمشقية، إضافة إلى تحالفاتهما المحلية والخارجية الأخرى.
وسيكون حسناً بالتأكيد لو أن قطاعاً واسعاً من اللبنانيين اطّلع عليه، وصار بإمكانه إضفاء مقاربة جديدة في مقابل التضليل الإعلامي اليومي.
الكتاب من تأليف هشام صفي الدين، أستاذ تاريخ الشرق الأوسط الحديث في جامعة كينغز كوليدج، لندن، وهو موضوع باللغة الإنكليزية، وعرّبه فكتور سحاب، الذي يعدّ باحثاً متنوع الاهتمامات من التاريخ إلى الاجتماع السياسي والموسيقى. وقد صدر الكتاب عام 2021 عن مركز دراسات الوحدة العربية.
نعرف من الفصل الأول، أنه تحت الحكم الفرنسي، أعيد تشكيل المقر الإقليمي للمصرف السلطاني العثماني في بيروت، باسم جديد هو “بنك سوريا ولبنان”، وكان من وظائفه إصدار عملة ورقية باسم الليرة السورية، بعد أن كان أعيان الشام والحكومة العربية الفيصلية (يقصد التي أنشأها المؤتمر السوري العام)، قد أشرفوا على إصدار أول عملة عربية بعد الاندحار العثماني، وهي الدينار العربي.
بعد توطيد الانتداب (الاستعمار الفرنسي) احتلاله سوريا، قسمها 4 دويلات، إضافة إلى لبنان الكبير، تحت صيغة مشتركة من النظام النقدي بإدارة بنك سوريا ولبنان الذي كُلف رئاسته رينيه بوسون.
وعندما طرح تجديد امتياز هذا البنك، حظي بموافقة أصدقاء فرنسا في “لبنان الكبير” في مقابل إصدار أول طبعة من “الليرة اللبنانية”. كان أشدّ المتحمسين لهذه الخطوة ميشال شيحا وهنري فرعون (حاكم مصرف لبنان لاحقاً)، أما الجانب السوري، وبخاصة رجل الأعمال الدمشقي، خالد العظم فقد رفض التجديد، وأسس السوريون مصرفاً مركزياً سورياً مستقلاً، ووصف الشيشكلي هذا الإجراء بالاستقلال الحقيقي.
أيضاً، وبعكس لبنان واستمراراً لنفوذ “بنك سوريا ولبنان” الفرنسي عملياً، فضّل السوريون نظام شركات المساهَمة في الصناعة والزراعة، مثل لطفي الحفار وشكري القوتلي (رئيس للجمهورية لاحقاً) وكان يعرف بـملك المشمش (المعلبات الغذائية) ص 44.
لبنانياً، في أثناء مرحلة التكوين، تحوّلت بيروت إلى مقصد للتدفقات المالية بفضل البترودولار (يقصد تدفقات الدولار الناتجة من النفط، لا اتفاقية البترودولار التي وقعتها أميركا مع السعودية بعد حرب تشرين)، وبفضل الأموال الهاربة أيضاً من التأميمات في مصر وسوريا والعراق، وصار لبنان “جمهورية تجارية”.
كانت هذه الجمهورية مزيجاً من حصص أميركية وفرنسية وخليجية واستثمارات للمغتربين، وكان من الصعب الحديث عن “مصارف محلية”، ومن ذلك مصارف مثل أنترا وصبّاغ وبلوم “بنك لبنان والمهجر” الذي كان مزيج شراكة من بيروت إلى جده، وصار رئيسه المقرّب إلى السعودية، حسين العويني رئيساً للحكومة، بما يذكّر بالحريري وغيره.
إلى ذلك، يتوقف الكتاب عند عدد من الظواهر المالية السياسية التي ساهمت في هذه البداية ومنها:
1- ظاهرة ميشال شيحا التي ربطت بين فكرة الكيانية اللبنانية الضاربة في القدم والمنافس (الاستراتيجي) للظاهرة الصهيونية من جهة، والاقتصاد الحر تماماً من جهة أخرى، وكان شيحا نفسه، إضافة إلى دوره الصحافي، مصرفياً معروفاً.
2- ظاهرة الأخوين ريمون وبيار إده، وهما ابنا رئيس الجمهورية 1936 (المقرب إلى الفرنسيين) إميل اده، الذي كان متزوجاً من لودي سرسق، وهي العائلة الإقطاعية التي ورد اسمها ضمن العائلات البيروتية المتهمة ببيع أراضيها في مرج ابن عامر في فلسطين. وإضافة إلى انتخاب بيار وريمون في البرلمان في مطلع خمسينيات القرن الماضي، فقد شغلا مواقع مهمة في النظام المصرفي والمالي، بيار كوزير للمال في حكومات شمعون، وريمون كمهندس للسرية المصرفية عام 1956، ومؤسس لجمعية المصارف 1959.
3- اللافت فيما يخص جمعية المصارف، أن من بين المشاركين فيها ممثلين عن فرع “بيروت لبنك تشايس مانهاتن”، وعن “بنك أوف أميركا”، و”بنك سيتي بنك أو نيويورك”.
4- اتساع المصارف وعددها من 9 عام 1945 إلى 85 مصرفاً عام 1962. وقد أعاد الكتاب أسباب ذلك إلى العوامل التالية:
– تدفقات من مناطق النفط الخليجية.
– سقوط ميناء حيفا بيد الاحتلال الصهيوني وهجرة البرجوازية الفلسطينية.
– الرساميل الهاربة من التأميمات.
5- انقلاب في الخريطة الاجتماعية والنيابية، تمثل في زيادة عدد التجار والصيارفة ورجال الأعمال في البرلمان في مقابل انخفاض عدد الملاكين العقاريين بين عامي 1943 و1964 من 46 نائباً إلى 23 نائباً.
الشهابية والتصدع الأول لدولة المصارف
بعد عقد تقريباً على مرحلة “عدم التدخل” الحكومي في الاقتصاد وسيطرة أفكار ورجال “بنك سوريا ولبنان” والشيحاوية على عهدي بشارة وشمعون، دخل لبنان أولى أزماته البنيوية على شكل حرب أهلية أنهت عهد شمعون وعجّلت المغادرة المبكرة للرجل القوي على رأس “بنك سوريا ولبنان” رينيه بوسون، ووفاة شيحا 1954.
وعجّلت الحرب أيضاً النتائج الاجتماعية والطبقية على الجمهور العريض من اللبنانيين، وخصوصاً خارج العاصمة ومناخاتها إضافة إلى المؤشرات القوية التي دعمت الجنرال فؤاد شهاب، قائد الجيش ومهندس المكتب الثاني.
وبحسب الكتاب، فإن شخصية الجنرال كانت جزءاً من التحولات نفسها، فمن دون أن يحس أسس الاقتصاد الحر، وخصوصاً في القطاع المصرفي، إلا أنه أرسى أسساً جديدة لما يمكن تسميته الدولة فعلاً، وكان من مظاهر ذلك سلسلة من الإصلاحات خارج العاصمة جعلت خصومه يسمونها مجازاً “اشتراكية الفاتيكان”.
من هذه الإصلاحات، مشاريع طرق ومستشفيات ومدارس وقنوات ري وشبكات طاقة كهربائية وصندوق للضمان الاجتماعي ومديريات للشؤون الاجتماعية (لا يتطرق الكتاب إلى أن الأميركيين في هذه الفترة من الحرب الباردة، في مواجهة عبد الناصر وحركة التحرر العربية، شجّعوا على توسيع القطاع العام ومؤسساته في إطار رأسمالية الدولة وخيارات التبعية السياسية في غير بلد، وبينها الأردن).
ولم يكتفِ الجنرال شهاب بالإجراءات الاقتصادية المذكورة، بل واجه عائلات وأوساط بيروت المالية والتجارية بأحلاف انتقائية خارج العاصمة، مثل رشيد كرامي من طرابلس، الذي كلفه تأليف الحكومة، وكمال جنبلاط في الشوف، وصبري حماده وآل دندش في الهرمل، وفتح قناة على الجميل في المتن.
واعتمد الجنرال على مجموعة من المستشارين الفرنسيين وآخرين ممن يسميهم الكتاب “الإصلاحيين من الجامعة الأميركية” في مقابل ضابطَين فرنسيين متقاعدين هما: جان لاي والكاهن العسكري جوزف لوبريه. وكان الجنرال يؤسس فريقه اللبناني مثل إلياس سركيس (مدير مكتبه) الذي صار حاكماً للمصرف المركزي، ثم رئيساً للجمهورية، وممن عملوا معه سليم الحص الذي تولى رئاسة لجنة الرقابة على المصارف ثم رئاسة الحكومة 1977.
دولة المصارف
بدأ البنك ممارسة أعماله في نيسان/أبريل 1964. ووفقاً لقانون النقد والتسليف، صدرت مراسيم سحب الأرصدة من المصارف الخاصة التي كان الإيداع فيها لامتياز بنك سوريا ولبنان، وعلى الرغم مما رأى فيه البعض امتداداً لبنك سوريا ولبنان، فقد بدأ كهيئة مالية مستقلة بإشراف الدولة، مع وضع قانوني خاص، وامتيازات قضائية في تحصيل الديون بالتنسيق مع محاكم بيروت فقط.
وكان ملاحظاً حصر اقتراض الدولة في مجالات الضرورة القصوى، وكانت أدوات المصرف للتأثير في التنمية الاقتصادية محافظةً جداً.
ومن الملحوظات الأخرى:
1- أن الدولة التي تعين حاكم المصرف لا تقيله إلا في حالات محددة، مثل المرض الموهن أو الاستغلال الخطر لسلطاته.
2- دور المصارف المقرِّر في الوساطة مع النظام المالي الدولي ومؤسساته. وقد ظل المصرف منذ تأسيسه مجالاً للصراع بين تيارات عديدة، أبرزها في السنوات التالية لتأسيسه مجموعة من بنك سوريا ولبنان، مثل هنري فرعون، والمجموعة المناهضة لها مثل رشيد كرامي، والمجموعة القديمة القريبة من المصالح البريطانية حينذاك وممثلها بحسب الكتاب، يوسف بيدس، صاحب بنك أنترا قبيل إفلاسه عام 1966.
3- بوادر تصدع المصرف مع نهاية عهد شهاب، فمع أنَّ هذا العهد هو الذي كسر سياسة عدم التدخل الحكومي في السياسات الاقتصادية والمالية، إلا أن فترته الأخيرة تزامنت وإفلاس أكثر من بنك، منها البنك العقاري، وصولاً إلى إفلاس بنك أنترا في عهد الشهابي الآخر شارل الحلو.
كذلك، بدأت هجرة رؤوس الأموال العربية من لبنان إلى الكويت ومصر ومناطق أخرى، فهبطت موجودات المصارف اللبنانية من 18% إلى 20%.
وستمر سنوات أخرى قبل أن تشارك دولة المصرف في قطف ثمار الانقلاب الكبير في الشرق العربي، الذي أعقب وفاة عبد الناصر وسيطرة الساداتية وثقافتها وتعميمها لمصلحة المصارف والبيوتات المالية في كل مكان، ولا سيما لبنان.
وبالتوازي مع ارتفاع معدلات الفقر، كانت الودائع المصرفية في كل المنطقة تحقق قفزات كبيرة في لبنان، حين حقق نمو هذه الودائع نسبة مذهلة بلغت 240%.
الحرب الأهلية تكشف الفقاعة المالية
كان القطاع المالي أكثر القطاعات تكيّفاً مع الحرب الأهلية في كل محطاتها، وصارت المعارك تعبيراً عن نزاع الرأسماليين وشركائهم، وأفضى الهبوط المستمر في قيمة الليرة إلى دولرة الاقتصاد، وصار المصرف نفسه برئاسة إدمون نعيم بؤرة تجاذبات سياسية للصراعات المذكورة، وجرى تصنيف لبنان ضمن الدول الفاشلة.
مع اتفاقية الطائف والحريري وسياساته الليبرالية الجديدة، تحوّلت الفقاعة المالية إلى فقاعة عقارية، وتضاعف الدين العام وتوسعت الهوة الطبقية بين الأوليغاركية الغنية الفاسدة والطبقة الوسطى، التي أصبحت تحت خط الفقر، وبدا أن استعانة الحريري برياض سلامة، حاكماً للمصرف من ميريل لنش 1993، جزء من هذه المناخات، حتى إن مؤسسة مسؤولةً عن كل الرسملة المعولمة والإفقار والتجويع وتردي الوضع الصحي والتعليمي في العالم كله بسبب إملاءاتها، ومنها رفع الدعم عن الخدمات الصحية والتعليمية والسلع والاحتياجات الأساسية مثل صندوق النقد الدولي، لاحظت أن 43% من مجموع القطاع المصرفي يخضع للمساهمين من النخب السياسية التي رافقت تأسيس الدولة، ما جعل هذه المؤسسة تحذر من انزلاق لبنان إلى عدم الاستقرار النقدي والإفلاس السيادي، من دون أن تعترف بأنها شريك في هذا الانزلاق الذي يعود أساساً إلى سياسة عدم التدخل الحكومية، وتوحش الليبرالية الاقتصادية ومن ثم تعبيراتها السياسية.
حالة بنك أنترا
توفي مؤسس وصاحب بنك أنترا، يوسف بيدس، في سويسرا في تشرين الثاني/نوفمبر عام 1967 بعد عام من توقيفه هناك على يد الإنتربول. وكان إعلان إفلاس هذا البنك عام 1966 التحدي الأول للنظام المالي ودولة المصرف في لبنان، وقيل في إفلاسه وأسبابه الكثير، خصوصاً بسبب فلسطينية بيدس، التي جعلت البعض يربط صعوده بالناصرية في القاهرة، فماذا عن هذه التجربة وظروفها بحسب كتاب “دولة المصارف”؟
1- بدأ يوسف بيدس سيرته المصرفية في فلسطين قبل الاحتلال الصهيوني، وذلك في بنك باركليز الإنجليزي، ثم في البنك العربي فرع القدس.
بعد الاحتلال وانتقاله إلى بيروت، أنشأ مؤسسة “أنتر ناشونال ترايدرز” بمشاركة فلسطينيين آخرين، وحمية اللبناني الضابط السابق في الشرطة، منير أبو فاضل. ومع توسّع أعماله، تعاون مع الشركة الأميركية بكتل ومؤسسات أميركية أخرى كانت مهتمة بوكالة غوث اللاجئين واستقرارهم في بلدان اللجوء قبل أن يؤسس بنك أنترا عام 1951 ويؤسس له فروعاً في بلدان عديدة، من بينها الأردن وقطر والبحرين وبريطانيا.
وقد امتلك أسهماً في شركة طيران الشرق الأوسط اللبناني، وإحدى شركات مرفأ بيروت، وكازينو لبنان، وفندق فينيسيا، وشركة الأسمنت، وشركة فرنسية لبناء السفن.
2- ظهرت أزمة البنك عام 1966 بسحب أموال كبيرة منه، معظمها كويتي وسعودي، ورافقتها حملة تحريض واسعة شارك فيها البطريرك بولص المعوشي، جرى فيها اتهام بيدس بالتعاون مع جمال عبد الناصر.
بيد أن الأكثر تأثيراً وتوثيقاً، بحسب الكتاب هو أولاً، اهتمام بيدس بدور الذهب في النظام المالي والنقدي، وثانياً، اهتمامه بفكرة “البترو دينار” وفق رواية محسن دلول، وهما موضوعان غير مرحب بهما من قبل الأوساط الأميركية، ما يفسر قول رئيس الجمهورية آنذاك، شارل الحلو: “كان اختيارنا هو الامتناع عن دعم أنترا”.
في المقابل، يقدم الكتاب رواية تتناقض وما سبق حين يذكر أنَّ ولاء بيدس كان للربح، لا لفلسطين، أسوة بآخرين من البرجوازية الفلسطينية مثال حبيب صباغ، فقد كان بيدس على علاقة قوية بأوساط روكفلر وعالم المال الأميركي، وكان على اتصال دائم بالسفارة الأميركية، على غرار سامي شقير، وكان يزود السفارة بتقارير مالية دورية عن عالم المال في بيروت.