دور روسي جديد يبشر بنهاية القطب الأوحد

موقع العهد الإخباري ـ
سركيس ابو زيد:

أثار التواجد العسكري الروسي المباشر مؤخراً في سوريا، ردود أفعال سياسية صادرة عن الأطراف المنغمسة في الأزمة السورية خاصة وأزمات الشرق الأوسط عامة، واتخذت بعض هذه التصريحات طابعاً دينياً بغية إذكاء الفتنة الدينية رداً على إعلان الكنيسة الأرثوذكسية الروسية أن حرب بلادها ضد الإرهاب في سوريا هي حرب مقدسة.

حاولت القوى المعادية للدور الروسي في سوريا إعطاء طابع ديني لحملتها متجاهلة ان معظم الدول العربية تابعة للولايات المتحدة الأميركية وهي دولة مسيحية كما ان عددا كبيرا من الدول الإسلامية لها مصالح واتفاقيات مع روسيا منها السعودية ومصر وتركيا وغيرها. وهي اذ تغيب علاقة المصالح والتوازنات تشن حملة تحريض ديني ضد روسيا لانها لا توافق على دور موسكو في سوريا.

syria-russia-flags

وكي نفهم ما وراء هذه الحملات علينا أولاً أن نلقي بعض الضوء على تاريخ العلاقات الروسية – الإسلامية عبر الصراعات الطويلة في القرون الماضية بين جماعات من  المسلمين والدولة الروسية على تقاسم السلطة والنفوذ في المنطقة الأوراسية.

تتسم روسيا بازدواجية الجغرافيا والهوية. فهي ليست دولة أوروبية بقدر ما هي آسيوية، ولا هي دولة مسيحية بقدر ما هي مسيحية – إسلامية، بدليل عضويتها كمراقب في منظمة التعاون الإسلامي ووجود 20 % من سكانها من المسلمين، وتحاذي دولاً إسلامية على امتداد حدودها الجنوبية والشرقية.

روسيا تقسم العالم الى دوائر: تبدأ الدائرة الأولى بدول الجوار التي تسميها دول”الفضاء الروسي”، كازاخستان وقرغيزيا وأذربيجان، حيث تتدخل فيها بشكل مباشر لمواجهة صعود تيارات وحركات أصولية وفرض حكومات موالية تتبنى ايديولوجيات معادية للاسلام بكل صوره. والدائرة الثانية تضم الشرق الأوسط وخاصة الدول العربية كافة، وتتم فيها المواجهة بواسطة الأنظمة المحلية.

التاريخ الروسي حافل بجولات صراع بين حكومات روسيا وجماعات من الاسلام.

فمنذ القرن الثالث عشر يتمحور التاريخ الروسي حول الصراع مع شعوب مسلمة، وخاصة شعوب القوقاز التي سكنت المنطقة وأقامت سبع دول فيها، قبل أن يصلها الروس السلافيون من البلقان ويقيموا فيها دولة عاصمتها كييف. دفعت الجزية لدولة التتار في شبه جزيرة القرم، ثم تعرضت لغزو المغول فتحطمت، ثم عادت للنهوض على يد إيفان الرهيب اعتباراً من عام 1230، على حساب التتار والقوقازيين. وفي العام 1552 تمكن الروس من التوسع والقضاء على التتار والمغول. ومع تعاظم قوتهم وتراجع قوة العثمانيين في القرن التاسع عشر ضعفت مقاومة مسلمي القوقاز وتوسعت حدود روسيا جنوباً وشرقاً حتى بلغت أوجها في نهاية القرن.

في ستينيات القرن الماضي تراجعت حدة المواجهة بين الروس وجماعات من الإسلام وظهرت سياسة موسكو الخارجية كحليفة للدول العربية والإسلامية. بيد أن هذه الهدنة لم تعمر، إذ سرعان ما انطوت بغزو أفغانستان، وظهر أن الغزو جزء من استراتيجية تتوخى التوسع جنوباً في اتجاه منابع النفط ترجمتها سياسة هجومية بدأت في أفغانستان وامتدت الى اليمن الجنوبي واثيوبيا والقرن الأفريقي، فتلاشت صورة الاتحاد السوفياتي كدولة تقدمية تدعم تحرر الشعوب، وحلت محلها صورة الإمبراطورية الاستعمارية المعادية للإسلام وذات الأطماع.

وقبل أن يعلن رسمياً تفكيك الاتحاد السوفياتي 1991، وسقوط الشيوعية كانت جمهوريات القوقاز الإسلامية تعلن الاستقلال، إلا أن موسكو التي أذعنت لانفصال الجمهوريات لم تكن مستعدة لمنح هذا الحق لجمهوريات القوقاز رغم قبول الرئيس يلتسين التكتيكي به، بحجة أنه يهدد بقاء روسيا كدولة عظمى، إذ أن 70% من ثرواتها النفطية الهائلة موجودة في القوقاز، فضلاً عن أن انفصالها يهدد بقاء الاتحاد الروسي وينذر بتكرار نهاية الاتحاد السوفياتي.

وقدرت آخر إحصاءات سكانية أجرتها وكالة رويترز للأنباء أن المسلمين في روسيا يشكلون زهاء 14% من إجمالي السكان، وتعتبر الجمهوريات ذات الغالبية المسلمة التي يمكن لأهلها ان يطمحوا يوما ما بالاستقلال التام عن روسيا هي الجمهوريات الواقعة على أطراف روسيا الاتحادية أي الجمهوريات التي لها حدود مع الخارج. ويدين قرابة 94% من مسلمي روسيا بالمذهب السني بما في ذلك الصوفي، و 5% بالمذهب الشيعي ونحو 1% بالأحمدية. ورغم ازدياد عدد المنظمات الدولية المطالبة باحترام حرية المعتقد ونص الأمم المتحدة الذي يضمن ذلك الحق، يبلغ عدد المساجد في إجمالي روسيا نحو 8000 مسجد يتركز معظمها في الجمهوريات ذات الغالبية المسلمة.

ففي موسكو لا يوجد سوى أربعة مساجد من ضمنها طبعاً المسجد الذي أعيد بناؤه مؤخراً وافتتحه بوتين بحضور الرئيس التركي رجب طيب اردوغان والرئيس الفلسطيني محمود عباس. وقد فسرت نظرية اجتماعية سياسية هذه الظاهرة غير الطبيعية:”إن روسيا استبدلت الأرثوذكسية بالشيوعية لتكون العامل الجامع الجديد بين الروس في الجمهوريات المتعددة التي يتألف منها الاتحاد. وأن موسكو تحولت من عاصمة للشيوعية العالمية الى عاصمة مقدسة للكنيسة الأرثوذكسية. أي أنها أصبحت مثل الفاتيكان بالنسبة للكاثوليك، ومكة بالنسبة للمسلمين. وهذا يعني أنه من غير الطبيعي أن يقوم في موسكو مسجد جديد أو حتى كنيسة كاثوليكية أو كنيسة إنجيلية جديدة.”

من هنا رأى مراقبون ان الكرملين يواجه مشكلة مع عدد من القوميات الإسلامية في بعض جمهوريات الاتحاد السوفياتي (السابق) وخاصة في منطقة القوقاز، مما انعكس سلباً على علاقاته معهم جميعاً وخاض الحرب مرتين في الشيشان. وعندما تدفق العشرات من المقاتلين الشيشانيين الى سوريا للقتال ضد النظام السوري، فعلوا ذلك للانتقام من السلطات الروسية المتحالفة مع النظام السوري، والثأر من الكرملين عبر حليفه.

فالتدخل الروسي العسكري المباشر في سوريا غيَّر قواعد اللعبة وبدل في المشهد الاقليمي، لذلك شنت حملة إعلامية ضده حاولت ان تضيف إليه بعدا جديدا، بعدًا إسلاميا-  مسيحيا، يترافق مع تشويه في ترجمة إعلان الكنيسة الأرثوذكسية الروسية عبر تاويلها  أن الحرب الروسية في سوريا هي “حرب مقدسة. “هذا الإعلان أدى الى ردودٍ قوية في العالم العربي والإسلامي لم تهدأ رغم التوضيحات التي صدرت عن بطريركية أنطاكية وسائر المشرق للروم الأرثوذكس، التي وصفت ما جرى بأنه :”ترجمة غير دقيقة تدل على سوء فهم”، مشيرة إلى أنه قد تم “تحريف النص المترجم المنشور والمتداول ومضمون ما أدلى به الأب فسيفولد تشابلين بشأن قرار الدولة الروسية الأخير”.

وتجدر الإشارة هنا الى أن الإدارة الروحية لشؤون مسلمي روسيا انضمت الى الكنيسة الروسية وأعلن رئيس الإدارة الشيخ راوي عين الدين “دعم مجلس الإفتاء والإدراة الدينية للحملة العسكرية الروسية ضد الارهاب في سوريا”.

كما انضم إليهم الرئيس الشيشاني رمضان قديروف الذي اعتبر:” تدخل القوات الروسية ضرورياً لمحاربة الإرهاب”.

ورغم كل هذه التجاذبات في التصاريح السياسية، هناك حقيقة واضحة في أن الأزمة السورية دخلت مرحلة جديدة اتخذت بعدًّا دوليًّا وصراعا بين جبهتين وفي كل منهما قوى إسلامية ومسيحية. وروسيا أيضا دخلت مرحلة جديدة في استراتيجيتها الدولية، إذ يعتبر ثاني تدخل عسكري كبير يبادر إليه الرئيس بوتين خلال سنة ونصف بعد دخوله شبه جزيرة القرم… والحرب الروسية في سوريا هي ثاني حرب خارجية في المنطقة بعد الحرب الأميركية في العراق والدور الروسي هو رد على تدخلات الغرب في المنطقة للحد منها . إنه مشهد جديد في المنطقة، جديد في قواعد اللعبة والصراع، وفي خارطة التشابكات والتداخلات الدولية الإقليمية. وأول ما يعنيه أن صفحة القيادة أو الزعامة الأميركية الأحادية في المنطقة والعالم التي بلغت ذروتها مع الرئيس بوش قد انطوت مع الرئيس أوباما، وأن العصر الأميركي في الشرق الأوسط الى أفول مقابل صعود العصر الروسي الذي لا يمكن من الآن تحديد آفاقه ونهاياته.

[ad_2]

Source link

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.