دماء البنغال البيضاء
صحيفة الخليج الإماراتية ـ
عصام الجردي:
المشهد سوريالي إلى حد التماهي . تزامن الحدث مع اليوم العالمي للصحة والسلامة المهنية في 28 إبريل/نيسان، واستمر البحث عن الضحايا في عيد العمال أول مايو/أيار، ليكتمل المشهد: تبين أن المصنع ينتج ألبسة جاهزة لأفخر الأسماء التجارية العالمية الأمريكية والأوروبية المعروفة جيداً في صناعة الموضة .
وكان اعتقادي المتواضع، أن سر نجاح بنغلادش في صناعة الألبسة الذي وضعها الثانية بعد الصين عالمياً في رأس الدولة المنتجة هذه الصناعة، يكمن في مدها أسواق دول فقيرة ونامية بأنواع من الألبسة محدودة الجودة رخيصة الثمن! حتى إذا علمت أن شركات الألبسة متعددة الجنسيات قد حطت رحالها في هذا البلد منذ سنوات طويلة للإفادة من قيمة الأجر البخس لقاء قوة العمل، ترسخ لديّ يقين لم يبرح تفكيري يوماً من الأيام، ومفاده أن كل هذه المنتجات التي تسوقها الشركات المتعددة الجنسيات وتحمل توقيعها ماركة مسجلة للبهرجة والتفاخر، إنما تخفي من المآسي الإنسانية والظلم الاجتماعي مقادير مخجلة .
نحو 5 ملايين يعملون في صناعة الألبسة في بنغلادش معظمهم من النساء والفتيات في مقتبل العمر . متوسط أجورهم الشهرية 38 دولاراً أمريكياً . هذا المعدل دون خط الفقر المدقع من 5 .1 دولار أمريكي يومياً، ودون خط الفقر المطلق من دولارين حتى مع تعادل القوة الشرائية . لا يوجد تحت خط الفقر هذا . إنه قاع مثقوب ينحدر بقوة العمل إلى عصور الإكراء بالسخرة . كل ذلك ولم يمض عام بعد على كارثة أخرى في مصنع بنغالي ثان في نوفمبر/تشرين الثاني 2012 نتيجة حريق هائل .
وحين حاول العاملون الفرار من باب الطوارئ المخصص أصلاً لحالات مشابهة منجاة من الموت فوجئوا بقفل الباب بأوامر إدارية على خلفية “الاحتراس من السرقة”، مع الفوضى التي رافقت عملية الفرار على غير هدى، فقضى 111 عاملة وعامل حرقاً واختناقاً .
سجل الشركات المتعددة الجنسيات حافل بالمآسي . لم ننس بعد كارثة يونيون كاربايد بانفجار المصنع المنتج مبيدات زراعية وحشرية في الهند جارة بنغلادش الكبرى في ثمانينات القرن الماضي، وقد تجاوز عدد الوفيات مباشرة أثناء الوقوع وبعده جراء تلوث الهواء بالغازات السامة نحو 33 ألفاً . فيما ناهز عدد المتضررين بين مرضى ومشوهين بعاهات مزمنة زهاء نصف مليون . وكانت الواقعة أخطر حادث صناعي على مر العصور .
في بلاد الجنسيات الأم للشركات المتعددة الجنسيات معايير عالية للبيئة والسلامة المهنية والامراض الصناعية . على الأوراق والمغلفات صناعات التعبئة والتغليف إشارات إلى أن المنتج ليس من الأخضر والأشجار، وأعيد تدويره التزاماً بسلامة البيئة، الحال مشابهة في ما يتصل بسلامة العاملين في المؤسسات الصناعية .
تختفي المعايير والحقوق المتصلة بالإنسان العامل في مؤسسات تلك الشركات عندما يتعلق الأمر بأنشطتها في الخارج . بدءاً من الأجر والضمانات، وصولا إلى معايير الصحة والسلامة المهنية والوقاية من الحوادث . كل ذلك في سبيل زيادة الارباح والثروات في حلبات تنافس غير عادلة ولا أخلاقية حتى في الدول الصناعية، خلافاً لكل ما يروج من مفردات العصر .
من حق المصانع الصغيرة الحجم والمتوسطة في الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي أن تشكو صادرات أقرب إلى الإغراق، تغزو أسواقها من الصين والهند والبنغال وباكستان، ومن القارة الآسيوية عموماً خزان السكان في العالم، فتكلفة الأجور ومعايير البيئة والسلامة الصحية والوقاية من الأمراض المهنية كلها تدخل في تكلفة الأجور وسعر المنتج في الأسواق .
حين تصدر منتجات دول متجاهلة هذه المعايير والحقوق الانسانية إلى أسواق تقيم وزناً لها محمياً بقوانين وإجراءات عقابية فلا مجال لمنافستها . بيد أن الأمر فيه لبس، الشركات الأمريكية والأوروبية المتعددة الجنسيات هي نفسها مستفيدة من هذا الواقع، وليس المؤسسات الصناعية في البلدان المعنية فحسب .
حين تهدد المفوضية الأوروبية حكومة بنغلادش بوقف الامتيازات الجمركية لصادرات الألبسة البنغالية ما لم تراع معايير السلامة الصناعية ففي الأمر بعض رياء وتضليل، فالشركات المتعددة الجنسيات الأمريكية والأوروبية تكلف ضرائب على أرباحها في الخارج، وجزء كبير من هذه الأرباح مستولد من الأجور البخسة والمعايير الأخلاقية والمهنية المنقوصة في الخارج . إنها ازدواجية المعايير نفسها في الاقتصاد، كما في السياسات الدولية .
ما تناولناه عن كارثة داكا تتحمله السلطة السياسية في الدرجة والمقام الأول وليس الشركات الأجنبية والمتعدة الجنسيات، بعض تلك الشركات ولو كان قليلاً، يرفض منذ اللحظة الأولى لاستثماره تجاوز الأنظمة والدخول في قنوات الفساد السياسي والتجاري، حكومات الدول المضيفة هي التي تشرع الأبواب لهذه الممارسات، إما بغياب التشريعات وإما بتجاهلها، وهذا سائد في الدول النامية خصوصاً، بحسب منظمة العمل الدولية هناك 337 مليون حادث عمل سنوياً، مليونان يعانون أمراضاً مهنية، ويموت نتيجة الأمراض والحوادث معا نحو 203 ملايين كل عام، إلى متى جني الأرباح السوداء من “الدماء البيضاء”؟