دعاة الفيدرالية: من يغطيهم والى أين سيصلون؟
موقع العهد الإخباري-
ابرهيم صالح:
على نحو مفاجىء، ومنذ أقل من شهرين دخل مصطلح الفيدرالية وشعار الدعوة الملحة والعاجلة إليه، حيّز التداول الإعلامي والسياسي، وصار له دعاة وخرائط ملونة وأطروحة سياسية ودستورية بهدف تشريع هذه الدعوة وتسويغها.
وأكثر من ذلك، يصير للدعوة عينها منظومة عرض متكاملة ومتفرغة تدلل دينامية عملها واجتهادها كمن دخل في سباق مع الوقت بهدف جعل الفكرة أمرًا واقعًا. فعلى سبيل المثال ليس إلا، يبرز اثنان من “شباب” هذه الدعوة المتحمسين في حلقة من برنامج “نهاركم سعيد” على محطة “ال .بي.سي” في صبيحة يوم الأحد الماضي، حيث نسبة المشاهدة في ذروتها وفق دراسات متخصصة.
ويأخذ الاستعراض الاعلامي لهذه الفكرة مداه بتخصيص الاعلامي المعروف بميوله وتخصصه في توجيه سهام النقد والتجريح إلى جهة لبنانية واحدة، مارسيل غانم في حلقة من حلقات برنامجه “صار الوقت” على “أم. تي. في” المولجة حصرًا بالإساءة لطرف لبناني ولو عبر الأضاليل وتزييف الوقائع. الحلقة خصصت لمسرحية حوار مع حاملي “مشعل” هذه الدعوة على مدى أكثر من ثلاث ساعات، كان طرفها الثاني ثلة شبان جيء بهم ضيوفًا الى الاستديو لتمجيد هذه الدعوة واعتبارها حلا أبديا لمازق الكيان اللبناني من دون أن يكون هناك من يدافع ويفند ويظهر نقاط الضعف والخلل في ثنايا تلك الدعوة وكونها طرحت سابقًا وتبين أنها تحمل من العناصر ما من شأنه زيادة الإنقسام والدفع في اتجاه مزيد من الاحتدام.
من البديهي الاستنتاج سلفًا بأن كلتا المحطتين الإعلاميتين ستكونان تلقائيًا فاتحة سياق ومسلسل اعلامي متدرج مهمته الحصرية “كي وعي” المتلقين (مشاهدين ومستمعين وقراء) عبر عملية “طرق يومي” على أسماع المتلقين لجعلهم يعتادون التعايش اليومي مع المصطلح ومن ثم يتقبلون الدعوة مع احتمال أن تسارع شريحة منهم الى اعتناقها والإنضمام الى قائمة الدعاة إلى إدخالها حيز التنفيذ مما يفتح الأبواب أمام اكتسابها “صفة المشروعية” والتأسيس لما يبنى عليه لاحقًا. فإما أن يستحيل مطلبًا بحد ذاته أو يكون حلقة في سياق مشروع أشمل واستطراد أخطر.
قرينة هذا الإستنتاج أن ثلة من رافعي لواء هذه الدعوة قد شرعوا فعلًا منذ فترة في حمل مشروع الفيدرالية مرفقًا بخرائط ووثائق وأسانيد جالوا بها على عدد من الفاعليات في سياق عرضها وتسويقها.
ويذكر الرئيس نجيب ميقاتي في مقابلة مع صحيفة “النهار” نشرت قبيل أيام أنه استقبل وفدًا من دعاة الفكرة وتناقش معهم على مدى أكثر من ساعة في أبعاد المشروع وأساساته وامكان أن يتقبله المجتمع اللبناني. ميقاتي الذي أتى على ذكر هذا اللقاء في سياق عرضه لما يمكن أن يفضي إليه التأزم والإستعصاء في مسار استيلاد الحكومة المنتظرة إذا دفع واقع الحال الى انفراط الإجماع الهش الذي فرض نفسه بعد سريان اتفاق الطائف شرع الباب أمام طروحات منها الدعوة الى مشروع الفدرلة وتنظيم عملية “تقسيم حضاري” للبلاد وفق مجموعاتها الدينية تحت عنوان نظام الفيدرالية.
ولم يخف ميقاتي أنه بدا غير معاد قطعيًا للدعوة لكنه دعا حسب ما قال الدعاة الى هذا المشروع الى اجتناب صيغة الفدرالة واستبدالها بشعار اللامركزية الادارية الموسعة التي تبيح لكل مكون يجد نفسه متجانسًا مع مكونات الاجتماع اللبناني أن يشبع ميوله ومعتقداته الدينية وغير الدينية.
في كل الأحوال، لم تكن الدعوة الى اعتماد الفيدرالية نظامًا سياسيًا ومنطلقًا لعقد سياسي جديد، أمرًا جديدًا على أسماع اللبنانيين وذاكرتهم. فالذين عايشوا فصول الحرب الأهلية (1975_1990) يذكرون أن الدعوة عينها قد وجدت من يطرحها ويلح عليها إبان سني هاتيك الحرب.
وكان رحم ولادة تلك الدعوة في معسكر ما اصطلح على تسميته “اليمين المسيحي” تحت مبرر استحالة التعايش مع المعسكر الآخر “الاسلامي اليساري العروبي” المتماهي حد الإندماج مع الفصائل الفلسطينية.
واللافت في حينه أن هذا الطرح ولد استهلالًا خجولًا وعلى شكل تلويح، ثم نما واشتد عوده مع قائد ميلشيا “القوات اللبنانية” سمير جعجع لا سيما بعد أن تمردت هذه “القوات” على رحمها الأصلي “حزب الكتائب” وصارت تنظيمًا مستقلًا، وبعد أن نجح جعجع في بسط هيمنته ونفوذه المطلق على “القوات” وقبض على زمام الأمور في “المناطق الشرقية” اثر تصفيته خصومه ومعارضيه هناك. وأكثر من ذلك، ما لبث جعجع أن شرع في خطوات عملانية ترمي إلى تكريس الفيدرالية والتقسيم وجعلهما أمرًا واقعًا. فأطلق حينها منظومة أمنية ومالية وإدارية متكاملة فرضت نفسها “بقوة السيف” على كل “المناطق الشرقية على شكل خوات واتاوات وعائدات وأنظمة عيش وحياة. وحينها أيضًا (في منتصف الثمانينات) نظم استعراض مطار حالات حتمًا لكي يقنع الناس هناك بأن مقومات الانفصال والتقسيم والفيدرالية قد اكتملت بمطار خاص، والمعلوم أن ذاك المطار بقي عبارة عن يافطة مرفوعة وأن الوضع في تلك المنطقة التي خال أنها استسلمت لارادته ومشروعه سرعان ما انتفضت عليه وانضم جمهورها إلى مشروع العماد ميشال عون.
ومما يجدر ذكره أن فعاليات ومرجعيات ونخب قد ساهمت في الترويج لهذه الدعوة (الفيدرالية) وفي تغطيتها وتسويقها.
ومهما يكن من أمر، فإن ثمة من يرى أن مشروع الفدرالية (تقسيم البلاد الى كانتونات مع الحفاظ على سلطة مركزية تتولى ادارة السياسة الدفاعية والخارجية حصرًا) قد انطلق وسرى في حينه نتيجة تردي الأوضاع في هاتيك الفترة واستعصاء الحلول وضعف الدولة ومؤسساتها وانهيار الأوضاع النقدية والإقتصادية.
وعليه يجد هؤلاء أن دعاة العودة إلى هذا المشروع الذي خال كثر أنه انطوى إلى غير رجعة بعد انصرام الحرب الأهلية، إنما يستندون لتسويق “مشروعيتها” الى ظروف ووقائع مماثلة لحد بعيد فرضت نفسها بعد انطلاق حراك 17 تشرين واستقالة حكومة الرئيس سعد الحريري وانهيار التفاهم الرئاسي، إلى تطورات دراماتيكية ومأساوية أخرى تتوالى فصولًا يومًا بعد يوم لا سيما مع عجز الرئيس الحريري عن تأليف الحكومة التي تصدى لتأليفها بحماس منقطع النظير قبل سبع أشهر.
وثمة من يجد في موضوع الدعوة اياها مفارقات أخرى. فالدعاة إلى المشروع في سني الحرب الأهلية قد اتخذوا ستارًا وسندًا واهيًا واخترعوا “عدوًا وبعبعًا ومزاعم” بغية تسويغ المشروع والمتاجرة به وهو “الخطر الفلسطيني” وبعده “خطر اليسار الدولي الهاجم هجوم الذئب” ثم “خطر الاحتلال السوري” وأخيرا يعلو الحديث عن “خطر الإحتلال الإيراني وهيمنته المزعومة على قرار البلاد والدولة”.
ولم يعد خافيًا لأي مراقب وراصد أن الدعوة الى هذا المشروع تحمل لواءها الآن نخب مسيحية خلافًا للتجربة السابقة عندما كانت بعض الأحزاب تتحصن بها. وليس خافيًا أيضًا أن العودة الملحة إلى هذا الشعار قد أتت بعد “الحراك” المنظم والمبرمج الذي بدأته قبل أشهر البطريكية المارونية و”مكتبها السياسي” والذي تدرج من العودة إلى حياد لبنان ثم انتقل إلى تدويل الوضع فيه. واذا كان ملاحظًا أن هذا الحراك مفاعيله قد خبت في الاونة الاخيرة فان ثمة من يرى انه تمهيد ضروري لمثل شعار الدعوة الى الفيدرالية المطروح حاليا.
ووفق معلومات، فإن صالونات بكركي بدأت تضج أخيرًا بأصوات تدعو سيد الصرح إلى السير بهذا الشعار وتبنيه (اجتماع هيئة الانماء المارونية) انطلاقًا من أنه استكمال لطروحات الحياد والتدويل، وقرينة على أن الموارنة شريحة وازنة من اللبنانيين لن تستسلم للأمر الواقع حاليًا وأنها في حراك مستمر وتمضي قدمًا في إعلاء أصوات الإعتراض على “الواقع المر حاليًا” وإن اقتضى الأمر طرح مشروع الفيدرالية والكانتونات.
وثمة من يروج لفكرة أن مشروع الفيدرالية سيطرح ابان اللقاء الموعود بين بابا روما والمرجعية الروحية المارونية قريبًا. وعمومًا يرد الشعار اياه في سياق حملة منظمة بدأت عبر أكثر من شكل “تبشر” بأن تجربة حكم ما بعد الطائف باتت في النزع الأخير وأنه لن تقوم لها قائمة وصار من الضروري البحث عن صيغ أخرى للنظام السياسي المترنح والمأزوم.
حيال ذلك، ثمة من يسأل عن جدوى المضي بهذا الشعار وهل ثمة فرصة لاعتناق هذه الدعوة وهل ستكون يوما ما حلا لازمات الكيان المازوم منذ الولادة؟
يقر الاعلامي والاستاذ الجامعي عارف العبد (يشغل منذ اعوام منصب المستشار الاعلامي للرئيس فؤاد السنيورة) في دراسة نشرها أخيرًا في إحدى المواقع تحت عنوان “حرب المئة عام” بأن المروجين لهذه الدعوة في لبنان “يستندون إلى الفشل المتنامي لتجربة الحكم الحالية وأزماته المتفاقمة. لكن (في المقابل) يستندون إلى نماذج واهية تتمثل بتجربتين، الأولى التجربة السويسرية في الحياد ونظام الكانتونات (المعمول به هناك) والثانية هي تجربة الفيدرالية للولايات المتحدة الأميركية”. ويضيف: “لقد فات دعاة هذا الإتجاه أن النظام الفيدرالي الكانتوني في كل من سويسرا والولايات المتحدة إنما جاء ليعكس واقع الحال في مجتمعي البلدين ويشكل حلا متقدما لهما ساهم في تقدمهما وقوتهما”.
ويمضي في تسفيه الدعوة فيقول: “نحن في لبنان من قومية واحدة حيث تلاقى المسلمون والمسيحيون وبعد مخاض طويل (1943_1990)على عروبة الكيان ونهائيته”.
ويخلص الدكتور العبد: “ما فات بعض دعاة الفيدرالية المستحدثة أن شرط الدولة الفيدرالية هو سياسة خارجية ودفاعية مركزية وواحدة. بمعنى، أنه إذا ما كانت الحرية متاحة لبعض الكانتونات إزاء بعض القضايا التفصيلية والصغيرة، فإن النظام الفيدرالي يشترط سياسة خارجية ودفاعية واحدة، يمثلها المركز، فيما أغلب مشكلات لبنان وأزماته التاريخية تفاقمت بسبب الخلافات على السياسة الخارجية واتجاهاتها في المنطقة، منذ 1958 وحلف بغداد إلى دور المقاومة الفلسطينية عام 1975، وصولاً إلى المرحلة الراهنة.
في عام 1982 كتب مراسل “واشنطن بوست” جوناثان راندل كتابه الشهير منتقداً من تحالف مع إسرائيل بعنوان: “حرب الألف سنة حتى آخر مسيحي”. أما الآن، وإذا ما اندفع وقًوٍي الاتجاه الفيدرالي، فإن الكتاب المقبل سيكون بعنوان: “حرب الألف سنة حتى آخر لبناني”.