دروس المواجهة العسكرية بين “ثأر الأحرار” و”الدرع والسهم”
موقع قناة الميادين-
محمد منصور:
على الرغم من أن النهج الإسرائيلي، فيما يتعلق بالاغتيالات خلال موجات التصعيد، تكرر كثيراً سابقاً، فإن كثافة الاغتيالات التي تمت، وطريقة تنفيذها، وطبيعة الشخصيات التي تم استهدافها، تدل على أن تنفيذ هذه الاغتيالات كان من صميم أهداف التصعيد الإسرائيلي.
يأتي العدوان العسكري الإسرائيلي الأخير ضد قطاع غزة، في سياق واقع داخلي متأزم، وتزامناً مع مشهد يضج بالتطورات المتسارعة، إقليمياً ودولياً، والتي تغري – في جانب منها – “تل أبيب” باستغلال هذا المشهد من أجل تحقيق عدة أهداف داخلية وأمنية من التصعيد مع قطاع غزة، ومع حركة الجهاد الإسلامي، وذراعها العسكرية تحديداً.
هذا النهج – على رغم تكرره منذ ستينيات القرن الماضي – فإن عدة تساؤلات في الداخل الإسرائيلي تمت إثارتها بشأنه بعد انتهاء هذا التصعيد، وتحديداً ما يتعلق بالنتائج التكتيكية والاستراتيجية التي تترتب عليه، والتي يبدو أن الجانب الإيجابي منها بات منحصراً – بصورة نسبية – في الوضع الداخلي الحالي على المستويين السياسي والاجتماعي في فلسطين المحتلة.
داخلياً، تحاول الحكومة الإسرائيلية، عبر هذه الموجة التصعيدية، والتي باتت متكررة بصورة شبه دورية، توجيه رسائل سياسية وأمنية إلى الداخل، لمعالجة بعض التداعيات التي طرأت على المشهد الداخلي في أعقاب التفاعلات التي صاحبت طرح خطة “التعديلات القضائية”، وما صاحبها من احتجاجات شعبية وصدامات غير مسبوقة.
كذلك، يحاول رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، التقليل من حدة المعضلات البنيوية التي يعانيها الائتلاف الحكومي الحالي، والتي كان آخر آثارها مقاطعة حزب “عوتسماه يهوديت” اليميني – برئاسة وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير – جلسات الحكومة، ومقاطعته عمليات التصويت في الكنيست، اعتراضاً على ما يراه “معالجة ضعيفة” من جانب رئيس الوزراء، للملف الأمني في قطاع غزة وجنوبي لبنان.
الملف الأمني يبقى من الملفات الأساسية في هذا الصدد، بحيث واجهت الحكومة الإسرائيلية، خلال الأشهر الأخيرة، موجة متنوعة من العمليات الفلسطينية المنفردة، في نطاق الضفة الغربية، وهي موجة شهدت تصاعداً ملحوظاً، كميّاً ونوعياً، على نحو فاقم الضغوط الداخلية على الحكومة الإسرائيلية، ناهيك بتزايد حجم التهديدات الملحوظة من جانب القيادة العسكرية الإسرائيلية في اتجاه الحدود مع لبنان.
تضاف إلى ذلك محاولة “لم شتات” قوات الاحتياط، التي نالها نصيب كبير من تأثيرات موجة الاحتجاجات الأخيرة في خطة “التعديلان القضائية”، وخصوصاً القسم المتعلق بالقوات الجوية الإسرائيلية، وهو ما يمكن من خلاله فهم الانخراط المبالغ فيه لسلاح الجو الإسرائيلي في موجة التصعيد الأخيرة.
إذاً، مثّلت الاعتبارات السياسية والأمنية، السالف ذكرها، وفوقها تراجع أرقام رئيس الوزراء الحالي نتنياهو على مستوى استطلاعات الرأي الأخيرة، في مقابل تصاعد حظوظ بيني غانتس، دوافع أساسية لـ”تل أبيب” كي تستغل الانشغال الدولي بتطورات الملف الأوكراني، والانشغال الإقليمي بالتطورات في السودان، وتطلق سلسلة من العمليات العسكرية الخاصة في قطاع غزة، بهدف “ترميم” صورة الردع الإسرائيلية، واستغلال كل الظروف السابقة لتوجيه ضربة قوية إلى حركة الجهاد الإسلامي، وفي خلفيتها رسالة أخرى في اتجاه إيران.
على المستوى الميداني، يجب أن نضع في الاعتبار أن “تل أبيب” وضعت في اعتبارها أولاً قياس ردة فعل الفصائل الفلسطينية حيال وفاة الأسير خضر عدنان، والتي اقتصرت على إطلاق مجموعات من القذائف الصاروخية على المستوطنات الملاصقة لقطاع غزة، وانتهى هذا التصعيد في ليلة اندلاعه نفسها، بعد أن تدخلت الوساطتان المصرية والقطرية، وتم الاتفاق حينها على تسليم جثمان الأسير عدنان إلى ذويه، لكن لم تلتزم “تل أبيب” هذا الاتفاق.
ردة الفعل المحدودة من جانب الفصائل الفلسطينية على استشهاد الأسير عدنان كانت تستهدف في الأساس تفويت الفرصة على “تل أبيب”، كي تُوجد مبرراً لبدء هجمات موسعة على قطاع غزة، لكن كان واضحاً أن القرار الإسرائيلي كان بفتح مواجهة مع قطاع غزة، عبر إطلاق عملية عسكرية جوية فجر التاسع من الشهر الجاري، تحت اسم “السهم الواقي”، وهو اسم يشير بوضوح إلى الهدف الأساسي من هذه العملية، التي يمكن اعتبارها بمثابة “سلسلة من عمليات الاغتيال المخطَّطة مسبقاً”، بحيث استخدمت “إسرائيل” في بدايتها نحو 40 طائرة، تنوّعت بين الطائرات الاستطلاعية من دون طيار وطائرات التجسس الإلكتروني والذخائر الجوالة والمقاتلات والمروحيات القتالية، بهدف اغتيال ثلاثة من أهم قادة حركة الجهاد الإسلامي الميدانيين، هم قائد المنطقة الجنوبية في الجناح العسكري للحركة، جهاد غنام، والذي يتولى أيضاً موقع أمين السر في المجلس العسكري للحركة، وخليل البهتيني، قائد المنطقة الشمالية وعضو المجلس العسكري، وطارق عز الدين، الناطق باسم الحركة في الضفة الغربية، وأحد قادتها المهمين هناك.
على إثر هذه العملية، التي تم فيها استخدام الذخائر الجوالة وقنابل “جي بي يو – 39″، أطلقت الغرفة المشتركة للفصائل الفلسطينية عملية “ثأر الأحرار”، التي كانت فيها عمليات الفصائل تتم تحت راية غرفة العمليات الموحدة، لكن عملياً شاركت في المجهود الصاروخي والقصف المدفعي كل من سرايا القدس وكتائب المقاومة الوطنية، “قوات الشهيد عمر القاسم”، وألوية الشهيد عبد القادر الحسيني، و”كتائب الشهيد أبو علي مصطفى”، وألوية الناصر صلاح الدين، وكتائب الشهيد جهاد جبريل.
كانت القوات الجوية الإسرائيلية، على ما يبدو، تمتلك معلومات محدثة عن أماكن وجود القيادات الميدانية لحركة الجهاد الإسلامي، وخصوصاً في ظل التحليق الكثيف لطائرات الاستطلاع من دون طيار، والتي حلقت، على نحو غير مسبوق، فوق قطاع غزة، لرصد مواضع إطلاق قذائف الهاون ومنصات الصواريخ، ومن أجل رصد تحركات عناصر المراقبة والرصد، وهو ما ظهر، بصورة كبيرة، من خلال عمليات الاغتيال المتتابعة التي تمت على مدار 5 أيام استمر خلالها التصعيد الأخير، وشملت هذه العمليات استخدام الذخائر الجوالة المتفجرة، لاستهداف كل من علي حسن غالي، عضو المجلس العسكري وقائد الوحدة الصاروخية، ونائبه أحمد أبو دقة، أحد قادة السرايا الميدانيين، وإياد الحسني رئيس قسم العمليات الميدانية في حركة الجهاد الإسلامي، والذي نجا سابقاً من عدة عمليات اغتيال.
وعلى الرّغم من أن النهج الإسرائيلي، فيما يتعلق بالاغتيالات خلال موجات التصعيد، تكرر كثيراً سابقاُ، وخصوصاً خلال عملية “بزوغ الفجر” في آب/أغسطس 2022، والتي تم فيها استهداف قائدي المنطقة الشمالية والجنوبية في حركة الجهاد في قطاع غزة، وعملية “السور الواقي” في أيار/مايو 2021، فإن كثافة الاغتيالات التي تمت، وطريقة تنفيذها، وطبيعة الشخصيات التي تم استهدافها، تدل على أن تنفيذ هذه الاغتيالات كان من صميم أهداف التصعيد الإسرائيلي.
على مستوى الفصائل الفلسطينية، كانت أمراً لافتاً محافظة كل هذه الفصائل، وخصوصاً سرايا القدس، على وتيرة تدريجية ومكثفة، في آن، في إطلاق الصواريخ، عبر صليات تم فيها استخدام المنصات المتعددة محلية الصنع لا المنصات الفردية، وتمت عمليات الإطلاق في 3 محاور أساسية:
المحور الأول هو محور جنوبي قطاع غزة، بحيث تم استهداف المواقع العسكرية الإسرائيلية والمستوطنات الرئيسة، مثل ناحال عوز وكرم أبو سالم وكيسوفيم ونيريم، وصولاً إلى مدينة بئر السبع.
المحور الثاني شرقي القطاع، ويشمل سديروت وزيكيم ونتيفوت ونيتيف هسعرا والمجلس الإقليمي في أشكول.
أمّا المحور الثالث فهو المحور الساحلي الشمالي، وفيه تم قصف كل من عسقلان وأشدود وصولاً إلى مدينة القدس، ومدينة “تل أبيب”، التي تعرضت لعدة صواريخ تم اعتراض بعضها، في حين وصل البعض الآخر إلى هدفه، وتحديداً مناطق هولوم وريشون ليتسيون وبات يام ورحوفوت جنوبي المدينة، ومنطقة رامات جان شرقيها، وغوش دان وسطها، وسقط أحد الصواريخ في مجمّع تجاري في منطقة بات يام، إلى جانب إصابة صاروخ مبنىً في مدينة رحوفوت، التي تبعد 20 كيلومتراً فقط عن جنوبي “تل أبيب”.
تمّ تسجيل إصابات مؤكدة للصواريخ في كل من نتيفوت وعسقلان وصوفا وأشكول وسديروت وكرم أبو سالم وبئر السبع ورحوفوت، وهو نطاق يشير بوضوح إلى معضلة أساسية باتت تواجه الدفاعات الصاروخية الإسرائيلية، التي لم تعد تتعامل فقط مع أجيال متطورة أثقل وزناً وأكثر تعقيداً من الصواريخ، بل أيضاً مع أنماط متعددة من أساليب إطلاق الصواريخ، فلقد استخدمت فصائل المقاومة خلال موجة التصعيد الأخيرة – إلى جانب قذائف الهاون وصواريخ الغراد – نوعين فقط من أنواع الصواريخ، وهو ما يمكن النظر إليه من زاوية المحافظة على مخزوناتها من الصواريخ، وخصوصاً أن هذه المواجهة لم تكن موسعة كما حدث في عملية “سيف القدس” عام 2021. النوع الأول هو صاروخ “بدر – 3” الثقيل”، والنوع الثاني هو صاروخ “براق – 85”.
على رغم محدودية أنواع الصواريخ التي تم استخدامها – مقارنة بعملية “سيف القدس” – فإن النوعين اللذين سبق ذكرهما، تمكّنا من الوصول بنجاح إلى التخوم الجنوبية لمدينة “تل أبيب”، وأيضاً إلى الأجزاء الجنوبية الغربية من مدينة القدس المحتلة. وصاحب النشاط الصاروخي لفصائل المقاومة في هذه الجولة التصعيدية، تطور مهم يتعلق بتفعيل منظومة “مقلاع داوود” المضادة للصواريخ، مرتين على الأقل خلال هذه الجولة، من أجل اعتراض الصواريخ المنطلقة نحو “تل أبيب” والقدس، بعد أن فشلت منظومة “القبة الحديدية” في اعتراض أحد الصواريخ التي سقطت على منطقة “رحوفوت” جنوبي “تل أبيب”.
وعلى الرغم من أن هذه الخطوة ربما يتم فهمها على أنها ترتبط برغبة القيادة العسكرية الإسرائيلية في تسجيل استخدام قتالي “ناجح” لأول مرة لهذه المنظومة التي تُعَدّ الأحدث في الترسانة الإسرائيلية، وخصوصاً أنه لم يكن تم استخدامها قتالياً بصورة عملية من قبلُ، سوى مرة واحدة عام 2018، بعد أن تم تفعيلها للتصدي لـ صاروخين باليستيَّين قصيرى المدى من نوع “توشكا” روسيي الصنع، تم إطلاقهما من سوريا، لكن تفعيلها في هذه الجولة يمكن فهمه أيضاً كدليل واضح على تصاعد التهديد الذي تمثله الصواريخ الفلسطينية، والتي أجبرت وزير الأمن الإسرائيلي على تمديد نطاق تطبيق أوامر الطوارئ ليصبح 80 كيلومتراً، أي على كامل المسافة بين قطاع غزة و”تل أبيب”.
نقطة أخرى مهمة تتعلق بالصواريخ الفلسطينية. فبحسب البيانات الإسرائيلية، تم اعتراض نحو 473 صاروخاً فقط من أصل 1469 صاروخاً تم إطلاقها من غزة، وهي نسبة لافتة ليس فقط على مستوى الفجوة بين ما تم اعتراضه وما تم إطلاقه، بل أيضاً في كثافة أعداد الصواريخ التي تم إطلاقها، علماً بأنه، خلال عملية “سيف القدس” عام 2021، أطلقت فصائل المقاومة خلال 12 يوماً من العمليات نحو 3300 صاروخ، في حين أطلقت فصائل المقاومة في الجولة الأخيرة نحو نصف هذا العدد خلال 5 أيام فقط، وهذا يشير أيضاً إلى فشل متكرر من جانب الجيش الإسرائيلي، في الحد من القدرات الصاروخية للفصائل الفلسطينية، على رغم سيطرته التامة على أجواء قطاع غزة، وشنه جولات متتالية من التصعيد الميداني ضد القطاع منذ عام 2008.
أخيراً، يمكن اعتبار تمكّن فصائل المقاومة الفلسطينية من اكتساب خبرة في طور “العمليات المشتركة”، عبر إدارة العمليات الميدانية بواسطة غرفة عمليات مشتركة، تقوم بالتحكم في توقيت الصليات المدفعية والصاروخية وأحجامها، وتنسيق الاتصالات والتواصل بين المجموعات الميدانية، وتستخلص بصورة آنية المعلومات الاستطلاعية من عناصر الرصد، بمثابة نقطة قوة إضافية طرأت على هذه المواجهة المحدودة، كرست معضلة كبيرة باتت تواجه المخطط العسكري الإسرائيلي، وهي معضلة “إنهاء المعركة”، فالجيش الإسرائيلي يمتلك القدرة النارية واللوجيستية والاستخبارية التي تتيح له بدء جولة تصعيدية في أي وقت يريده، لكن أصبحت عملية تحمُّل التبعات الاقتصادية والعسكرية للرد الفلسطيني، وشكل إنهاء المعركة وتوقيتها، أمراً بعيداً كلَّ البُعد عن متناوله، وقريباً أكثر من أي وقت مضى إلى اليد الفلسطينية.