خطوط الصراع في الإنتخابات النصفية الأميركية
موقع قناة الميادين-
إبراهيم علوش:
تمتدّ المعركة الثقافية في المجتمع الأميركي على مساحات واسعة، من بينها قصة حق “الصلاة في المدارس” التي يناهضها العلمانيون، حتى قصة اللغة، وهل هي النسخة الأميركية من الإنكليزية أم لغات متعددة! وقصص “حقوق المثليين” وزواجهم، وتعدد الأجناس.
تجري في الولايات المتحدة الأميركية في 8 تشرين الثاني/نوفمبر المقبل انتخاباتٍ نصفية حاسمة يُقرَر فيها مصير كامل مقاعد مجلس النواب الـ435، و35 مقعداً من أصل 100 في مجلس الشيوخ، وحاكمية 36 ولاية أميركية و3 “مناطق” أميركية (مثل جزر غوام وماريانا في المحيط الهادئ، والجزر العذراء في البحر الكاريبي)، إضافة إلى أمانة العاصمة الأميركية واشنطن دي. سي.
أضف إلى ذلك انتخابات المجالس التشريعية لمعظم الولايات الأميركية، ومناصب عديدة على مستوى الولايات في 27 ولاية أميركية على الأقل، ناهيك باستفتاءات في 6 ولايات، هي كاليفورنيا وكانساس وكنتاكي وميشيغن ومونتانا وفيرمونت، تتعلّق بحق الإجهاض تحديداً، والذي كانت قد ثبتته المحكمة العليا في الولايات المتحدة حقاً دستورياً للأميركيات منذ عام 1973، وأعادت تأكيده عام 1992.
انقلبت المحكمة العليا على حق الإجهاض بأغلبية 5 قضاة ضد 4 في 24 حزيران/يونيو الفائت، معلنة أنه ليس حقاً دستورياً ولا مكفولاً في القانون الفيدرالي، تاركةً للولايات منفردةً حق تقييده بشدة أو حظره تماماً، وهو ما قدرت تقارير أميركية أنه سيقود إلى حرمان الأميركيات من إجراء عمليات الإجهاض في نصف الولايات فوراً أو قريباً جداً، حتى في الحالات التي يكون الحمل فيها نتيجة اغتصابٍ أو سفاحٍ، وحتى عندما يشكل خطراً جسيماً على صحة المرأة، بما أن قرار المحكمة الدستورية العليا لم يترك أي استثناء فيدرالي لإتاحة الإجهاض في مثل تلك الحالات (على الرغم من كل الترويج الأميركي لما يسمى “قواعد بكين”، 1995، عن حقوق الأطفال وما شابه).
أشعل قرار المحكمة العليا الأخير، وانقلابها على سجلّها على مدى 50 عاماً، أوار الحملات الانتخابية للانتخابات النصفية المقبلة، في مجتمع أميركي يزداد انقسامه عمودياً حول مسائل الهوية والتدين وحق الدولة في التدخل في الحياة الشخصية للمواطن؛ ومن هنا الاستفتاءات الستة على حق الإجهاض في خضم الانتخابات النصفية، والتي جرى التحضير لبعضها قبل قرار المحكمة العليا بنقض حق الإجهاض.
جاء ذلك الانقلاب بتأثير ثلاثة قضاة محافظين عيّنهم الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، وهو ما حسم المعركة فعلياً. وقاد الهجمة الدستورية على حق الإجهاض القاضي صموئيل أليتو الذي عينه الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش الابن عام 2006. ووقف مع الأربعة طبعاً القاضي كليرنس توماس الذي عيّنه جورج بوش الأب في المحكمة العليا عام 1991، ليحدث الانقلاب الدستوري بأغلبية 5 ضد 4.
أما القضاة الأربعة الذين صوتوا ضد قرار المحكمة العليا إلغاء الإجهاض حقاً دستورياً مكفولاً فيدرالياً، فمنهم 3 عيَّنهم الرئيسان الديمقراطيان باراك أوباما وبيل كلينتون، والرابع هو رئيس المحكمة العليا، القاضي جون روبرتس، الذي عيّنه جورج بوش الابن عام 2005، وهو جمهوري محافظ صوّت مع قرار آخر يقيد حق الإجهاض معلناً مع 5 آخرين من زملائه دستورية قانون المجلس التشريعي في ولاية مسيسيبي عام 2018 بهذا الخصوص، ومرسلاً ضوءاً أخضر إلى باقي المجالس التشريعية في الولايات، لتحذو حذوها في تقييد الإجهاض، ولكنه صوت بعدها ضد الانقلاب كليةً على حقّ الإجهاض دستورياً لكي يمرر القرار من دون صوته.
القصة لا تتعلق بحق الإجهاض وحده بالمناسبة، بل بإعادة تعريف ما يسمى “نمط الحياة الأميركي” (The American Way of Life)، بما يروق لليمين الديني المتعصب عنصرياً، كما سنرى.
المحكمة العليا سياسياً
يستمر قضاة المحكمة العليا التسعة في مناصبهم مدى الحياة، فلا يعزلون إلا في حالة ثبوت ارتكابهم لجرائم، حتى يموتوا أو يتقاعدوا من تلقاء ذاتهم. لذلك، استغرق تغيير تكوين أعلى هيئة للسلطة القضائية في البلاد، كما يتوق الجمهوريون، عقوداً.
كما أنَّ قاضي المحكمة العليا يرشحه الرئيس الأميركي مباشرةً، ويثبّته أو يرفضه مجلس الشيوخ الذي كان يسيطر عليه الجمهوريون في الحالات الخمس التي مرر فيها كلٌ من جورج بوش الابن ودونالد ترامب قضاةً جدداً إلى المحكمة العليا.
أما في المرة التي مرر فيها الرئيس جورج بوش الأب عام 1991 القاضي كليرنس توماس إلى المحكمة العليا، فكان الديمقراطيون يسيطرون على مجلس الشيوخ، فأتى لهم بقاضٍ أفريقي – أميركي، لاعباً ورقة العرق ومناهضة العنصرية على الديمقراطيين، لكنه كان قاضياً يدين بالكاثوليكية ويلتزم تعليمات بابا روما في المسائل الاجتماعية والثقافية، ومنها مسألة حق الإجهاض. وكان الديمقراطيون يسيطرون على أغلبية مريحة في المحكمة العليا الأميركية وقتها، فأقِر ترشيح كليرنس توماس في مجلس الشيوخ، رغم تحفّظات بعضهم عنه وتصويتهم ضد تعيينه.
يعني ما سبق أنَّ ميزان القوى على المدى الطويل بين الديمقراطيين والجمهوريين في مجلس الشيوخ يؤدي دوراً حاسماً في تحديد توجه المحكمة الدستورية العليا، وهو ما يزيد الصراع الانتخابي على مقاعد مجلس الشيوخ حدةً، ولا سيما أن قرارات المحكمة الدستورية العليا نهائية وغير قابلة للاستئناف أو النقض من أيّ جهة، تشريعية كانت أو تنفيذية، لا سيما إذا استندت إلى نص دستوري، ولو بحسب تأويل مجلس القضاة التسعة.
الطريقة الوحيدة لقلب قرارات المحكمة العليا هي تعديل الدستور الأميركي ذاته فيما يفتون فيه، لكنّ تعديل الدستور عملية معقدة جداً تتطلب ابتداءً موافقة ثلثي أعضاء مجلسي النواب والشيوخ أو ثلثي المجالس التشريعية للولايات، فقط من أجل عرض مقترح التعديل للتصويت على المجالس التشريعية للولايات الأميركية كافةً، لكي يُقَر التعديل الدستوري المقترح، إما بأغلبية ثلاثة أرباع الولايات مجتمعة، أو بأغلبية ثلاثة أرباع المشرعين في كل ولاية على حدة، لكي يمر، بحسب البند الخامس من الدستور الأميركي.
وفي ظلِّ الانقسامات الأميركية العميقة، يصعب تخيّل إقرار أيّ تعديل جوهري على الدستور الأميركي قريباً. ولذلك، تبقى المعركة في إطار الصراع على السيطرة على مجلسي النواب والشيوخ، على الأقل لتمرير تشريعات تكرس أجندة الحزب المهيمن، أو تعوق أجندة الحزب الآخر، ربما تقرر المحكمة العليا لاحقاً دستوريتها من عدمه، إذا جرى تحدي تلك التشريعات في المحاكم، ووصلت إلى المحكمة العليا.
لمحة عن الانقسام الثقافي الحاد بين البيض في المجتمع الأميركي
تشتهر الصراعات العرقية في الولايات المتحدة بين الأغلبية البيضاء من جهة والأقليات العرقية من جهةٍ أخرى. هذا ليس موضوعنا هنا، وسبق أن عالجه كثيرون. فالصراع الأهم سياسياً هو الصراع داخل الأغلبية البيضاء ذاتها، ونتحدث هنا عن البيض من الطوائف البروتستنتية المختلفة من الأصول العرقية الأنكلو-ساكسونية، لا عن غيرهم من البيض. والعرب، بالمناسبة، لا يعدون منهم، إذ إن تعريف الهوية العرقية ثقافيٌ أكثر منه جينياً.
ويلاحظ من يعيش في الولايات المتحدة أن الهنود مثلاً، والباكستانيين إلى حدٍ أقل، أكثر اندماجاً ومقبوليةً في المجتمع الأميركي الأبيض من العرب، وهذه لعناية من يحبون تقليد الأميركيين بصورةٍ عمياء، أو من يظنون أنهم “أرقى عرقياً” من الهنود والآسيويين في الخليج العربي.
يعيش معظم العرب في المدن الأميركية الكبرى، أو على الساحل الشرقي للولايات المتحدة، أو على ساحلها الغربي، ولا سيما في ولاية كاليفورنيا، وإلا فإنهم يعيشون في تجمعات خاصَّة بهم، كما في بعض مناطق ولاية ميشيغن في الوسط وغيرها.
ما عدا ذلك، تقل نسبة العرب كثيراً في الريف الأميركي. والريف الأميركي تعريفٌ ثقافيٌ بدوره، ولا يعتمد بالضرورة على الزراعة، إذ إن 1.4% فقط من القوة العاملة الأميركية عملت بأجرٍ في الزراعة عام 2020، وحتى هذا، ضمن سياق ممكنن ومرسمل في اقتصادٍ متقدمٍ، فالولايات المتحدة من أهم مصدري السلع الزراعية في العالم، وبلغت صادراتها الزراعية عام 2021 مستوى قياسياً هو 177 مليار دولار. وبالتالي، فإن الحديث عن “ريف أميركي” ليس كالحديث عن الريف والبلدات الصغيرة في أي مكان آخر في العالم خارج أميركا الشمالية وأوروبا الغربية.
كثيراً ما تقدم هوليوود الريف الأميركي ككابوس ثقافيٍ واجتماعيٍ في أفلامها التي تغزو العالم. ولعل مستوى التشويه سينمائياً هنا يفوق ذاك الذي يتعرض له العرب أو المسلمون أو أي فئة أخرى.
وهوليوود أصلاً موضع هجوم من اليمين الديني والمحافظ كمعقل لترويج القيم “غير الأميركية”، فالريف محافظ، ومتشدد دينياً، ومتعصب عرقياً، وشوفيني قومياً، وهوليوود ليبرالية وعلمانية متطرفة، وتصر على أن التعددية العرقية والثقافية هي “أميركا”، وأن تلك “التعددية” هي معنى “أمركة العالم وأنسنته”، مع العلم أنَّ وصف الولايات المتحدة الأميركية بأنها “أميركا” يستفز عشرات الدول في أميركا الوسطى واللاتينية، بالمناسبة، لأنه يعني اختزال قارة بأكملها في دولةٍ واحدةٍ، وهو اختزالٌ يكرس الهيمنة الإمبريالية ثقافياً. ولذلك، فالأجدر القول الولايات المتحدة الأميركية لا “أميركا”.
الواقع هو أنَّ المدن وضواحيها suburbs لا تشكّل إلا 3% من الولايات المتحدة الأميركية، وأن نحو 20% من الأميركيين يعيشون في الأرياف، منهم نحو 80% من البيض الأنكلو-ساكسونيين، فيما نسبتهم أقل من 58% من مجموع الأميركيين عموماً، بحسب آخر إحصاء سكاني عام 2020.
ولو استثنينا الولايات التي كانت مكسيكية أصلاً، مثل كاليفورنيا وتكساس وغيرها، وبقايا تجمعات الأفارقة الأميركيين من زمن العبودية في ولايات الجنوب، فإن نسبة البيض في الأرياف ترتفع كلَّما اتجهنا شمالاً، لترتفع معها نسبة التعصب الديني البروتستنتي والعرقي الأبيض والقومي الأميركي.
ملاحظة شخصية عن الريف الأميركي
فرضت ظروف الحياة على كاتب هذه السطور أن يعيش ويعمل ويدرُس ويدرِّس ويسكن ويسافر في عمق الريف الأميركي، فالاحتكاك معه لم يأتِ من الفضاء الافتراضي أو من أفلام هوليوود أو القراءة، بل من المعايشة، على مدى سنواتٍ طوال.
ومن يظن أن اللهجات العربية تختلف عن بعضها بعضاً، فليجرّب التحدث مع عامل محطة بنزين في ريف ولاية أوكلاهوما، حتى لو كان يعيش في الولايات المتحدة سنواتٍ قبلها، وليجرب التسكع في بلدة منسية في ريف ولاية فرجينيا الغربية، نضب فحمها قبل مئة عام أو أكثر، فهجرتها الشركات تاركةً خلفها بلدةً كاملة كانت مزدهرة يوماً ما، وكانت تفتقد المياه الجارية عندما وجدتها في القرن العشرين، وهناك بلدات اسمها فلسطين، بالمناسبة، عبر الريف الأميركي الشاسع، من تكساس إلى أركنسا إلى غيرها، مجهريةٌ بحجمها، وعملاقةٌ باسمها.
ثمة مواضع تعيد اكتشاف ذاتك فيها أو تضيع، ليس الساحلان الشرقي أو الغربي للولايات المتحدة أحدهما، ولا المدن الأميركية الكبيرة، ولا التجمعات العربية المثقلة بعاداتنا الحسنة والسيئة، إنما في الغربة كهوية، حيث إما أنتَ وإما التلاشي، عندما تكون في بيئة معادية للعروبة والإسلام تعتبر نفسها “إسرائيلية” توراتياً في المهجر.
لكنّ ذلك ليس موضوعنا هنا، بل هو الريفيون الأميركيون: عشرات الملايين، فقراء، معدمون، عمال، ومزارعون، طيبون، تشوههم هوليوود يومياً، لكن وعيهم السياسي غير مطابق لظروفهم، تماماً مثل وعي فقراء وطننا العربي أحياناً.
هم ضد العولمة، وضد الدولة الأميركية، لكنهم تحولوا إلى احتياطي استراتيجي لليمين الديني والمتطرف الأميركي، ومنهم خرجت ميليشيات تكفيرية بكل ما للكلمة من معنى، تشكل قوى مضادة، استخدمت في اقتحام الفالوجة في العراق مثلاً عام 2004 كقوى “صليبية” معتوهة لطالما اصطدمت مع أجهزة الأمن الأميركية عسكرياً على الأرض الأميركية ذاتها.
انظر مثلاً المعركة الدموية التي خاضتها طائفة مسيحية متطرفة في ويكيو، تكساس، عام 1993، مع الأجهزة الأمنية الأميركية التي قضى فيها 82 عنصراً منهم، بينهم أطفال. وانظر قصة تيموثي ماكفيه، الذي فجّر المجمع الأمني لكل أجهزة الاستخبارات في عاصمة ولاية أوكلاهوما في نيسان/أبريل عام 1995، بعد عودته كجندي من العراق، واكتشافه أن الحرب الأميركية على العراق كانت جريمة لا تغتفر. كان ذلك رداً على ما جرى في ويكيو، تكساس، عام 1993، وقتل في تلك العملية 145 ضابطاً من الأجهزة الأمنية الأميركية على أعلى المستويات في ولاية أوكلاهوما، وجرى إعدام ماكفيه عام 2001.
مسائل خلافية أخرى في المجتمع الأميركي
الإخوة في وسائل الإعلام الروسية والصينية الذين يتهكّمون على مشكلة تفشي الأسلحة في المجتمع الأميركي وما ينتج من ذلك من جرائم القتل العشوائي، لا يدركون أن الملكية الفردية للأسلحة في الريف الأميركي، المناهض للدولة الأميركية والعولمة والتوجه الليبرالي على الساحلين الشرقي والغربي والمدن الكبرى، هو عنوان كرامة فردية، وعنوان مقاومة ضد طغيان واشنطن، وأنَّ الكثير مما يشاع عن مشكلة الأسلحة في المجتمع الأميركي هو من مبالغات الإعلام الليبرالي، فانتبهوا! ومشكلة الأسلحة الفردية باتت إحدى أهم خطوط الصراع في الانتخابات النصفية الأميركية اليوم، لكنَّ مالكي الأسلحة الفردية في الريف الأميركي هم، في الباطن، ألدّ أعداء الدولة، وطرح قصة ملكية السلاح الفردي كمشكلة يستعديهم، ويوظف ضدهم انتخابياً، للعلم والخبر، فرويداً.
ثمة أثر لتفعيل قصة أوكرانيا في الانتخابات النصفية الأميركية، واتهام ترامب بالتواطؤ مع روسيا، ومزاعم تدخل روسيا لمصلحته إلكترونياً في الانتخابات الأميركية، موجهٌ إلى تفعيل طاقة الخصم ضد نفسه، من خلال استقطاب قطاعات من أصحاب التوجه القومي الأميركي المتعصب ضد ترامب الذين يمثلون قاعدة ترامب بالأساس.
يعبر انقلاب المحكمة العليا على حقّ الإجهاض للأميركيات عن تحول في المزاج العام الأميركي سياسياً ودينياً، لكنّها لحظة أكبر من ذلك بكثير، لأنها تمثل نقطة صراعٍ، من بين العديد من النقاط الأخرى، بين: أ – العلمانيين والمتدينين، ب – دعاة العولمة والقوميين الشوفينيين الأميركيين، ج – الليبراليين والمحافظين اجتماعياً.
تمتدّ المعركة الثقافية في المجتمع الأميركي على مساحات واسعة، من بينها قصة حق “الصلاة في المدارس” التي يناهضها العلمانيون، حتى قصة اللغة، وهل هي النسخة الأميركية من الإنكليزية أم لغات متعددة! وقصص “حقوق المثليين” وزواجهم، وتعدد الأجناس (يعني وجود أجناس غير الرجل والمرأة)، ناهيك بالحقوق العرقية، ومسائل البيئة، التي يقف فيها معظم الجمهوريين مع حقّ الشركات في استثمار الموارد الطبيعية، ويقف فيها أغلب الديمقراطيين دفاعاً عن البيئة، والموقف من الأجانب والمهاجرين، والموقف من الأقليات العرقية وحقوقها، والعديد من القضايا الأخرى ذات الطابع الاجتماعي والثقافي، بعيداً من مسائل الاقتصاد السياسي الأساسية، ومن يهيمن على السلطة والثروة والنظام السياسي.
يسهل أن نقول إنَّ القاتل والمقتول في النار، لأن كلاهما على ضلالة، وإن المرء لا يجد نفسه عند أيٍ من الطرفين أيديولوجياً، ولكن ذلك لا يفيد عملياً في الصراع السياسي الراهن، فثمة صراعٍ جارٍ يمكن الاستفادة منه لتفكيك الإمبراطورية الأميركية، ومن الطبيعي ألا نجد أنفسنا في أيٍ من الجبهتين، ولكنَّهما جبهتان وجودهما أفضل من عدمه.
ويمكن في النهاية أن نتحدّث عن الاقتصاد، وعن أهمية التضخم المتزايد في تعبئة الناخب الأميركي ضد إدارة بايدن، وهو ما يستفيد منه الجمهوريون في الانتخابات النصفية، لكن ذلك يبهت أمام حقيقة أن معدل البطالة في الولايات المتحدة ما برح أقل من 4%، وأن ذلك من أدنى المعدلات في العالم، على الرغم من التوقعات المتشائمة بأن الاقتصاد الأميركي سيقع فريسةً للتباطؤ الاقتصادي قريباً، لا سيما أن معدلات النمو الاقتصادي الأميركي دخلت في السالب في أول فصلين من العام 2022، لكن الواقع هو أن عائدات الشركات تنمو حتى الآن، وأن معدلات البطالة لا تظهر تزايداً بعد، مع أنَّ ذلك ممكنٌ جداً في المستقبل القريب، ولكن أرقامه وآثاره لن تظهر قبل الانتخابات النصفية في 8 تشرين الثاني/نوفمبر المقبل بما يؤثر فيها.