خطط التصعيد الإسرائيلي الراهن من منظور معضلة “كاتش 67”
موقع العهد الإخباري-
إيهاب شوقي:
يبدو التصعيد الإسرائيلي المتمثل في الإصرار على التنكيل بالمقدسيين وأهالي الضفة، والسماح للمستوطنين باقتحام باحات المسجد الأقصى والإقدام على خطوات خطيرة مثل قصف غزة رداً على بالونات حارقة لا على الصواريخ، كنوع من لملمة الجبهة الصهيونية الداخلية التي تمزقت على إثر صواريخ المقاومة الفلسطينية في عملية “سيف القدس”.
ولكن بالمقابل، فإن هذا التصعيد لا يتسق مع وقف العدو لإطلاق النار من جانب واحد وهزيمته الواضحة في الجولة الماضية، ولا يتسق كذلك مع الرغبات الأمريكية والتي تريد التفرغ لملفات وجودية أمريكية على رأسها روسيا والصين، وتنفيذها ذلك عمليا بسحب أنظمتها الدفاعية وأسلحتها من السعودية والعراق والأردن، ولا سيما بعد إعلان التوافق بين جون بايدن ونفتالي بينيت، فيما بدا انه ارتياح من كابوس بنيامين نتنياهو لدى الإدارة الأمريكية الجديدة.
وقد يكون التفسير المباشر لذلك هو أن استجابة العدو لمساعي التهدئة لم تكن إلا حفظا لماء الوجه وترميما للقوة لإعادة الكرّة ولفرض معادلات العدو.
وهنا الأمر بحاجة إلى تفسير أعمق من مجرد التفسيرات الظاهرية، والمتعلقة بلملمة الجبهة الداخلية الصهيونية، وقطع الطريق على مزايدات نتنياهو الذي أصبح زعيما للمعارضة، ومتربصا بقوة لإسقاط الحكومة الجديدة، وكذلك المتعلقة بكسب الوقت بعيدا عن الصواريخ وتفجر الوضع الداخلي لإعادة كرة العدوان.
ولمحاولة إيجاد هذا التفسير، ينبغي النظر من زاوية استراتيجية للوضع الصهيوني داخليا وإقليميا ودوليا، وكذلك متابعة ورصد بينيت شخصيا..
ربما يشكل ما رصده موقع “أكسيوس” الأمريكي مدخلا رئيسيا لهذا الفهم، حيث رصد الموقع أن بينيت التقى عدة مرات خلال الأشهر العديدة الماضية، مع الفيلسوف الإسرائيلي “ميكا غودمان”، مؤلف كتاب “Catch-67”.
وأضاف الموقع أن بينيت قرأ كتاب “غودمان” وأصبح مهتمًا ببعض أفكاره، كما كرر بينيت الرسالة الرئيسية للكتاب في خطابه في الكنيست، عندما قال: “يمكن أن يؤدي استقرار الوضع الأمني في الضفة الغربية وغزة والتركيز على الشؤون المدنية إلى اتخاذ تدابير اقتصادية، وتقليل الاحتكاك، وتقليل حدة الصراع”.
وهنا لا بد من إلقاء الضوء على الكتاب، مع ذكر أن “أكسيوس” أوضح أن إدارة بايدن ترى الوضع بشكل مشابه لما ذكره بينيت، حيث تعتبر الإدارة أن الظروف ليست مناسبة لـ”اتفاق سلام” وأن التركيز يجب أن يكون على الخطوات العملية لتحسين الوضع على الأرض.
كتاب “كاتش 67” هو كتاب للفيلسوف الإسرائيلي “ميكا غودمان”، وصدر في العام 2017 في ذكرى مرور 50 عاما على حرب 1967، وتناول بشكل سياسي فلسفي المعضلة الصهيونية والتي تتمثل في احتلال أراضي 67 والجدل الذي ثار بين اليمين واليسار بخصوص الحل النهائي بشأنها.
وشكل هذا الجدل مدخلا فلسفيا عاما لمصير المشروع الصهيوني، وهل يسير باتجاه تصفية القضية كما يريد اليمين، أم بحل الدولتين كما يرى اليسار.
وناقش غودمان أن كلا الحلين صحيح وكلاهما خاطئ!
بمعنى أن الحلين سيقودان لأزمة، حيث التصفية ستقود لصراع موسع وتبعات أخلاقية لا تستطيع “إسرائيل” تحملها دوليا، وحل الدولتين يحمل مخاطر أمنية على “إسرائيل”.
والخلاصة أنه لا يوجد اتفاق سلام نهائي ولكن يمكن تقليص الصراع والوصول لهدنة طويلة على أمل تغير الظروف والوصول لاتفاق.
لا بد هنا من ذكر أن اسم الكتاب مقتبس من اسم الرواية الشهيرة “Catch-22” والتي تحولت عقدتها إلى شرط في علم المنطق للتعبير عن حالة متناقضة لا يستطيع الفرد الفرار منها بسبب الشروط المتناقضة.
وقد صاغ هذا المصطلح جوزيف هيلر، والذي استخدمه في روايته عام 1961 “Catch-22″، حيث تم تقديم هذا المصطلح من قبل شخصية من الرواية تحمل اسم “دانيكا دوكا”، وهو طبيب نفسي للجيش الذي يقدم قاعدة “Catch-22” للتعبير عن معضلة أو ظرف صعب لا يوجد هرب منه بسبب شروط متضاربة.
هنا يمكننا استخلاص المعضلة الصهيونية والتي انعكست على الانقسامات السياسية وغياب رؤية لحل الصراع، حيث لا جدوى من التصفية على غرار “صفقة القرن”، بما واجهته من مقاومة أحرجت أمريكا شخصيا رغم تماهي الأنظمة العربية معها، ولا ضمانة أمنية بأن قيام دولة فلسطينية سيجعل الفلسطينيين يتنازلون عن حقوقهم التاريخية، ناهيك عن المسائل الديموغرافية وثبوت انتماء عرب 48 لفلسطين التاريخية واندماجهم وتوحدهم مع الدولة الجديدة.
هذه المعضلة يعيشها بينيت عمليا برئاسته لحكومة ائتلاف هش تتنازعه ذات المتناقضات.
ما قاله بينيت في الكنيست، وما بدا أنه اتفاق مع أمريكا، هو تقليص الصراع وإبقاؤه على حافة الهاوية، والوصول لمعادلة مفادها “الهدوء مقابل الهدوء”، ثم تطويرها لاحقا إلى مقترحات “Catch-67″، بعقد هدنة طويلة لعدم إمكانية عقد اتفاق للسلام أو حل نهائي.
وهنا يتولد سؤال، وهو ما علاقة التصعيد بتقليص الصراع؟
يمكن تفسير تصعيد بينيت في إطار هذا السعي، حيث يريد بينيت كسر معادلة “سيف القدس”، وعدم ربط غزة بالضفة أو القدس، وبالتالي التعامل مع غزة بسياسة حافة الهاوية والعمل على تعميق الحصار وإعاقة تطور التسليح، كي تقبع وراء حدودها ولا تتدخل في ملفات تتعلق بخطط تقطيع أوصال فلسطين حتى لا تقوم لها دولة متماسكة، وألا تكون غزة المقاومة جزءا من هذه الدولة، وبالتالي استبدالها بغزة مهادنة راضخة ضعيفة.
وفي إطار تقليص الصراع، لا ينزلق بينيت عن الحافة، فهو يسمح بمسيرة الأعلام لإرضاء الداخل ولكسر معادلة سيف القدس، ولكن يعدل المسار حتى لا ينفجر الوضع بقتال في شوارع القدس وبلدته القديمة، كما يقصف غزة ردا على بالونات، ولكن لا يفجر أبراجا، بل يقصف مواقع شبه خالية، حتى لا تنفجر الأمور.
هذه السياسة الهادفة إلى كسر الانجاز اعتمادا على حافة الهاوية، قوامها الرئيسي هو تثبيت هدنة طويلة وإشغال غزة بقضايا الإعمار والمنح وحصارها ماليا وعسكريا.
وهذه السياسة تطرح استراتيجيات أخرى، تعتمد في المقام الأول على عدم الرضوخ لهدنة طويلة، وإبقاء الصراع مفتوحا، وعدم السماح بأي شكل من الأشكال وتحت أي بند، بكسر معادلة سيف القدس، حتى لو انزلقت الأمور، لأن انزلاقها ليس في صالح العدو والذي يبدو أنه بحاجة لمزيد من الردع وتوازن الرعب على غرار توازن الرعب الذي فرضته المقاومة في لبنان.