خطاب زيلينسكي في الكنيست ولعبة السلّم والأفعى
موقع قناة الميادين-
شرحبيل الغريب:
يواصل زيلينسكي، في جولة خطاباته، ممارسة لعبة السلّم والأفعى، لكنه، هذه المرة، حمل السلم بالمقلوب.
خطاب الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، أمام كنيست الاحتلال الإسرائيلي، جاء على غرار خطاباته المشابهة، والتي ألقاها أمام برلمانات غربية متعددة، منذ بداية العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا. لكن كلمته، التي جاءت عبر “الفيدوكونفرنس” لأعضاء كنيست الاحتلال الاسرائيلي، كانت مغايرة، إلى حدّ كبير، من حيث الجوهر والهدف والغايات.
زيلينسكي بدأ خطابه لاستنهاض اليهود المتطرفين داخل “إسرائيل”، وتمحور بصورة جريئة من أجل استجداء الدعم العسكري منها، بهدف تزويد أوكرانيا بمنظومة القبة الحديدية الإسرائيلية، وتغليظ العقوبات على روسيا، لكنه، في الوقت ذاته، جعل “إسرائيل” ضحية، وجعل الفلسطينيين جلاداً، في صورة أشبه ما يمكن وصفها بخطاب المنطق المعكوس.
يواصل زيلينسكي، في جولة خطاباته، ممارسة لعبة السلّم والأفعى، لكنه، هذه المرة، حمل السلّم بالمقلوب. ففي اللحظة الذي حاول الصعود لاستنهاض قيم الإنسانية العالمية لمواجهة روسيا، هبط في خطابه لسحق كل القيم، عبر مقاربات تخالف الواقع، وتقلب صورة الحقيقة.
مواقف زيلينسكي السابقة تجاه الشعب الفلسطيني معروفة، منذ تأييده الحرب الإسرائيلية الأخيرة على قطاع غزة في الـ11 من أيار/مايو من العام الماضي، في وقت أقرّ العالم أجمع بأن “إسرائيل” دولة احتلال وتمارس أبشع الجرائم بحق الشعب الفلسطيني. وذهب الرئيس الأوكراني بعيداً، وكشف في خطابه وجهاً جديداً عبر تشويه صورة الضحية، والإعلاء من شأن الجلاد، الذي يطمح إلى أن يمدّه بالسلاح، إذ شبّه مأساة شعبه الأوكراني بمأساة اليهود داخل “إسرائيل” لحظة تعرضهم لصواريخ المقاومة الفلسطينية.
لم يكتفِ زيلينسكي بهذه المغالاة، فلقد تخلّى عن قوميته الأوكرانية جانباً ليستنهض هِمَمَ اليهود المتطرفين في “إسرائيل”. وذهب في تسوله، من حدّ الشفقة وطلب الدعم العسكري، إلى مسار ديني يهودي صريح، إذ قال، في خطابه، إن العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا لا تمثّل مأساة لأوكرانيا فقط، بل ليهود العالم أجمع. وهذه التصريحات فيها من التعبير الواضح عن حالة الاختلال الاخلاقي والاختلال القِيَمي معاً.
مقاربة زيلينسكي، التي وضع فيها روسيا والفلسطينيين كجلاّدين، وأوكرانيا و”إسرائيل” كضحيتَي حروب، لا يمكن إلاّ أن توصَف بسياسة المعايير المزدوجة، التي فيها قلب للحقائق والواقع على الأرض. كما أن خطاباً كهذا، في مضمونه الشامل، يُعَدّ خطاباً عنصرياً غير أخلاقي ينضح بالفوقية وإعلاء قيمة الشعوب البيضاء، على غيرها من الشعوب وألوانهم وجنسياتهم ودياناتهم.
يهدف زيلينسكي، من وراء خطاباته، إلى أن تؤدّي “إسرائيل” دور الوسيط مع روسيا بصورة كبيرة، وهذا كان واضحاً من خلال طلبه إجراء مفاوضات مع روسيا ترعاها “إسرائيل” في مدينة القدس المحتلة، كما أنه يراهن ويعوّل، في مثل هذه الوساطة، على العلاقات الروسية الإسرائيلية القائمة، ويعتقد أن هذه العلاقات يمكن أن تشكل حافزاً قوياً على أداء دور الوسيط. لكن الحقيقة والواقع غير ذلك، إذ إن “إسرائيل” لن تكون قادرة على أداء مثل هذا الدور، وهي ليست محايدة، وفق ما يرى، كما أن روسيا لن تعطيها مثل هذه الميزة.
لا توجد أي علاقة يمكن الربط من خلالها بين ما يتعرض له الشعب الفلسطيني من احتلال وقتل وتشريد على مدى أكثر من سبعين عاماً، وبين ما تتعرض له أوكرانيا في العملية العسكرية الروسية. فذاك احتلال وسرقة للأرض الفلسطينية، وتلك عملية عسكرية لها أهدافها الواضحة، وعلى رأسها الأمن القومي الروسي، ومنع التغوّل الأميركي. لكن زيلينسكي يحاول استعطاف اليهود الروس داخل “إسرائيل” عبر توجيه خطابه المباشِر إلى حزب “إسرائيل بيتنا” بسبب ما يمثّله من أكثرية روسية داخل “إسرائيل” في محاولة للضغط على روسيا ووقف عملياتها العسكرية في أوكرانيا.
خطابات التسوّل التي يقوم بها زيلينسكي، والتي كان آخرها أمام كنيست الاحتلال الاسرائيلي، تعكس بصورة واضحة أنه يعيش في مأزق كبير وورطة حقيقية أمام عجزه وفشله في تحقيق أي إنجازات استراتيجية في حربه مع روسيا، في وقت رضي خوض غمار الحرب مع روسيا كأداة للغرب، ولم يستجب للنداءات والنصائح والتحذيرات، من جهات دولية متعددة، من الوصول إلى تلك اللحظة التي يرى فيها عدم وقوف أيّ من الأطراف معه في هذه الحرب، بصورة مباشرة، وعلى رأسها الولايات المتحدة.
أهم خلاصات المشهد الروسي الأوكراني، بعد مرور أكثر من ثلاثة أسابيع على العملية العسكرية الروسية، هو أن ما يدور الحديث عنه بشأن المفاوضات بين أوكرانيا وروسيا ليسَ إلا مضيعة للوقت. فالعملية العسكرية في أوكرانيا، وفق مراقبين دوليين كثر، تُعَدّ ناجحة، وتسير وفق ما هو مخطط بشأنها. أمّا روسيا فهي تفاوض على شيء واحد فقط، هو استسلام أوكرانيا وإخضاعها لشروطها، مهما كلّفها من ثمن، على نحو يضمن عودتها إلى عصر الاتحاد السوفياتي.
الحرب مع أوكرانيا ستطول، وربما تمتد أكثر، ولن تنتهي إلاّ بتفكيك العقد الجيوبولتيكية التي تعاني جرّاءَها روسيا، والمتمثّلة بالوصول إلى البحار الدافئة بحرية، وفتح الطريق إلى بحر البلطيق، والسيطرة على الساحل الشرقي لبحر البلطيق، الذي يضم ثلاث دول كانت سابقا في الاتحاد السوفياتي، هي إستونيا ولاتفيا وليتوانيا، على نحو يضمن كبح جماح التمدد والخطر الأميركيَّين على النفوذ الروسي في المنطقة.