خطاب اليقين والثنائيات المتضادة
موقع العهد الإخباري-
د. حسن أحمد حسن:
خطابات القادة والزعماء لا تخلو من رسائل بين السطور تتطلب من المتخصصين التوقف عندها وتناولها بالتحليل وتسليط الضوء على ما يجب إظهاره فعلاً، لكن الأمر ليس كذلك في خطابات الأمين العام لحزب الله سماحة السيد حسن نصر الله، فالبلاغة في ذروة تجلياتها بعض ما تتصف به أحاديثه، والبراعة في إيصال الرسائل التي يريدها لا تدنو من أدنى أسوارها مهارات الخبراء والمتخصصين أياً كانوا، وفوق هذا وذاك امتلاك الحجة الدامغة وتقديم الخطاب المقنع للعقل والعاطفة والمشاعر بآن معاً، فحديث سماحته مهما كان عميقاً وغني الدلالات ينساب كالماء العذب ويستوطن – دونما استئذان – عقل ووجدان أي متابع حتى لو لم يكن يرضيه ما يسمعه، لكنه لا يملك إلا أن يسلم بصحته ودقة منهجيته والوصول إلى خاتمة تقود إلى الإقرار بصوابية ما يقوله وسلامة مضامينه ودلالاته، ودفع كل من يقف على الضفة الأخرى للتوقف بعمق بينه وبين نفسه عند كل ما يقوله سماحته، وإعادة التفكير في القناعات المتراكمة بفعل عوامل متعددة. وبهذا تكون الرسالة الأهم قد وصلت بأمان إلى المستهدف منها، حتى أن المستوطنين والمقيمين في الكيان الإسرائيلي يصرحون علانية بأنهم يثقون بما يقوله سماحة السيد نصر الله أكثر من ثقتهم بقادتهم ومسؤوليهم على اختلاف درجات المسؤولية، وهذا يشكل تحدياً مهنياً وأخلاقياً أمام الإعلاميين والمحللين والمهتمين بتشكل وتشكيل طرائق التفكير والقناعات لدى الصديق والعدو بآن معاً، فالمهمة مختلفة، وسماحة السيد يريحهم بشكل مسبق من استخراج الرسائل المستوطنة بين السطور، ويضمن وصولها إلى الجمهور المستهدف، وبالتالي المطلوب من المهتمين بالشأن الثقافي والسياسي والفكري والإعلامي، والفاعلين في تكوين الرأي العام أن يجهدوا أنفسهم في تعقب الأثر، والتعرف على مهارات التواصل وامتلاك الحجة والبرهان والقدرة على إقناع عقول الجمهور المخاطب بما يقنع العقل فعلاً. وهذه المهمة وإن بدت أنها ممكنة البلوغ إلا أنها من أصعب وأهم الواجبات التي يجب العمل عليها بشكل مؤسساتي وممنهج، وإن كانت الجهود الفردية تجني بعض الثمار، إلا أن القطاف الوفير يكون بتضافر جهود جميع.
استنادا إلى ما سبق يمكن القول: إن خطاب سماحة السيد نصر الله في يوم المقاومة والتحرير في 25/5/2023 قد تميز بالعديد من الأبعاد والمضامين التي يحتاجها كل مهتم بتطور الأحداث وتداعياتها، وهذا يتطلب التوقف عند الكثير من تفاصيلها وما تضمنته من مهارات لا غنى عنها لمن يريد أن يكون كلامه مسموعاً ومقنعاً، ونظراً لاستحالة بلوغ ذلك في دراسة تحليلية واحدة مهما كبر حجمها سأكتفي بالتوقف عند عنوان واحد يظهر بوضوح منذ بداية الخطاب وحتى نهايته، وهو التركيز على الثنائيات المتضادة، وإذا صح القول (والضد يظهر حسنه الضد) فقد تبلور ذلك في هذا الخطاب أكثر من أي مكان آخر، ويمكن باختصار شديد الإشارة إلى عدد من النقاط المهمة التي تؤكد صحة القول، ومنها:
ـ استهلال الخطاب بالآية الكريمة “0وَاذْكُرُوا إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ” وهكذا ينقل سماحته المتابع بهذه الآية الكريمة إلى مروحة واسعة من الثنائيات المتضادة، فمن القلة والاستضعاف والخوف من الخطف وما قد يترتب عليه إلى حالة من الاستقرار والتأييد والنصر الإلهي والرزق الوفير، وهذا كله لعل الخلق يشكرون الخالق على نعمه… أوليس هذا هو الوضع الذي كان سائداً في لبنان قبل أن يمن الله على اللبنانيين بانطلاق المقاومة التي بددت الخوف والقلق والتوجس بمزيد من الأمن والأمان والاستقرار والقدرة على الدفاع عن الوجود والعيش بعزة وكرامة، ودوام النعم مرهون بالشكر، وقد ظهر بأدق تفاصيله في مقدمة الخطاب بدءاً بشكر لله تعالى مروراً بكل من ساهم بأي شكل في تحقيق النصر ولو بالدعاء.
ـ الخيارات الصحيحة والخاطئة: عظمة ما تم إنجازه بانتصار 25 أيار 2000 تبدو أكثر إشراقاً عندما يتم استذكار الخيارات الخاطئة، فهناك اتفاق الإذعان الذي وقع في 17 أيار 1983 وكان يستهدف رهن لبنان بكل مكوناته لإرادة العدو المحتل، وكما أن أيار 2000 يشكل محطة فخر واعتزاز فأيار 1948 شهد نكبة فلسطين وما ترتب عليها من كوارث وويلات ما تزال تداعياتها مستمرة، ويجب استخلاص العبر والدروس من كل خيار صحيح أو خاطئ.
ـ الانتصار واستمرارية المعركة، فالمعركة مع الاحتلال ومع الكيان الغاصب لم تنتهِ، ومن حسب سابقاً انتصار أيار 2000 نهاية المطاف كان عليه إعادة حساباته وتدقيق بوصلته، لأن العدو الاحتلالي الاستيطاني الإحلالي ما يزال قائماً، وما يزال قسم من الأراضي اللبنانية تحت الاحتلال، ولا يكون الانتصار ناجزاً إلا بإتمام تحرير كل الجغرافيا المحتلة، وهنا تكمن العبرة في نمذجة الانتصار لإتمام الواجب المقدس، ومن المهم توضيح هذه الحقائق للأجيال الشابة فهي صاحبة الحاضر وصانعة المستقبل ومن واجب النخب الفكرية والثقافية والإعلامية والمجتمعية تعريفها بماضيها، وتوضيح كل ما حدث في المراحل السابقة لاستخلاص العبر والدروس.
ـ الانتصار والأثمان الغالية: ما تم إنجازه من دحر للاحتلال الصهيوني من جنوب لبنان لم يأتِ بالأمنياتِ ولا بتظاهر أو اعتصام أو بتدخل دولي أو ما شابه ذلك، بل هو ثمرة الدماء والتضحيات والأوجاع والمعاناة والصبر والتهجير وفقدان الأغلى، ولأن الأثمان التي دفعت غالية فالانتصار المنجز غالٍ أيضاً، وواجب الأجيال الدفاع عنه والحفاظ عليه وتحصينه وصونه والبناء عليه.
ـ من “إسرائيل” الكبرى والعظمى إلى كيان يختبئ خلف الجدران والحديد والنار، فحلم إقامة الكيان الممتد من النيل إلى الفرات تلاشى بانتصار أيار 2000، ومشروع أن يكون ذاك الكيان اللقيط مهيمناً على منطقة الشرق الأوسط وما حولها تبدد بانتصار المقاومة الفلسطينية، وعلى وقع انصهار الميركافا بالكورنيت في وادي الحجير وعلى مشارف مارون الراس طويت صفحتا “الكبرى والعظمى”، وقد حدث كل ذلك في عصر الهيمنة الأمريكية الأحادية القطبية المفروضة عنوة على العالم، ومع ذلك سقط كله تحت أقدام صناع النصر في محور المقاومة.
ـ “الربيع” العربي ومآلاته: ذروة الإعصار الذي ضرب المنطقة تحت عنون الربيع العربي كان يستهدف إسقاط الدولة السورية وفرز أنظمة تصنعها واشنطن لتذهب إلى تسويات مذلة وتتخلى عن الجولان وتتصالح مع كيان الاحتلال، واليوم يُحْتَفَى بعودة سورية الأسد لتشغل مقعدها في جامعة الدول العربية، وهذا إعلان رسمي لسقوط صفقة القرن، وبالقياس نفسه كل ما له علاقة بحمى التطبيع وما تم الترويج له مما أسموه العقيدة الإبراهيمية وتشكيل ناتو عربي إسلامي ضد إيران أصبح أقرب إلى الأمنيات لا بل غدا ضرباً من الوهم بعد توقيع الاتفاق السعودي ـ الإيراني برعاية الصين.
ـ التحول الاستراتيجي الأبرز في تبدل بوصلة السياسة الدولية وسير العالم باتجاه عالم متعدد الأقطاب، أي انحسار الهيمنة الأمريكية وسقوط الأحادية القطبية، وهذا يقلق إسرائيل ومصلحتها في عالم تتفرد أمريكا بالسيطرة عليه وقيادته وفق ما تشاء، وأي تراجع أمريكي في المنطقة يوصل رسالة عدم اطمئنان لحلفائها إزاء انكفاء حاميتهم الأساسيّة، وهذا سر تولُّد الخوف والبحث عن خيارات ثانية، والاضطرار للذهاب إلى الصين أو روسيا، والتفاهم مع إيران.
ـ الانقسامات الداخلية في الكيان الإسرائيلي، وهي حادّة وصعبة ومتزايدة بما يشكل خطراً وجودياً قابلا للتفاقم وزيادة الشرخ والانقسام عمودياً وأفقياً، وفقدان الثقة بالمستقبل حتى القريب منه فكيف بالبعيد، واليوم ينتشر في صفوف المستوطنين والمسؤولين على حد سواء خوف كبير وقلق وجودي من إمكانية بلوغ الذكرى الثمانين لقيام كيان الاحتلال، وبالمقابل هناك تماسك محور المقاومة وثباته وزيادة صلابته وقدرته، وكذلك ازدياد اللحمة الداخلية في كل طرف من أطرافه، ويقين الجميع باقتراب موعد الصلاة في القدس، وإعداد العدة لبلوغ ذلك اليوم.
ـ الثنائية المتضادة في مكونات ومواصفات العنصر البشري لدى كيان الاحتلال وما يقابلها لدى الإنسان في محور المقاومة، حيث الإنسان المؤمن بربه وبقضيته وبشعبه وبحقه، وعنده شهامة وشجاعة وجرأة وإقدام، فالقدرة البشرية المتاحة لمحور المقاومة ممتازة ومتميزة بالنوع والكم، والكلام هنا عن أجيال من المؤمنين المجاهدين المضحين المستعدين للشهادة، وعلى الضفة الأخرى نرى وفق توصيف نتنياهو “الصهيونيّة انتهت عند الشباب الإسرائيلي”، أي لم يعد هناك عقيدة، ولم يعد هناك قضية، فالشباب لديهم يهربون اليوم، والإعلام الإسرائيلي يتكلم عن مأزق العنصر البشري والشبابي في الجيش الإسرائيلي، وخصوصاً في القوات المقاتلة، حيث يذهب هؤلاء إلى القوات غير المقاتلة، وليس القطعات المكلفة بالقتال في الميدان حيث الخطر،وهكذا يتضح الفرق الشاسع بين الطرفين، وهو قابل للزيادة والاتساع أكثر فأكثر بمرور الوقت.
ـ الاحتضان الشعبي والقدرة على التحمّل لدى كل من كيان الاحتلال و محور المقاومة، حيث الاحتضان يبلغ الذروة حتى تحت النار من دون أن يطالب أحد المقاومة بالتوقف أو التراجع أو الخضوع أو الاستسلام التراجع، في حين تعاني الجبهة الداخلية عند العدو من التراجع العقائدي عند كل المجتمع الإسرائيلي، فهناك مجتمع غير مُستعد لتقديم التضحيات وغير قادر على تحملها، وبمجرد أن يسقط بعض القتلى وبعض الجرحى تجدهم جميعًا بدأوا بالعويل والصراخ، والانهيارات النفسية والعصبية.
ـ فقدان القيادات التاريخية والمؤثرة وذات المصداقية سواءً في الزعامة السياسية، أو ضمن الجنرالات وبقية مفاصل صنع القرار بمن في ذلك رئيس وزرائهم، فنتنياهو معروف عند أناسه أنه من أفسد الفاسدين، وظاهرة غياب القيادات سواءً في الزعامة السياسية وفي الجنرالات أكثر من واضحة للجميع، فالثقة ضعيفة جداً بمختلف مؤسسات الكيان المؤقت، وبالمقابل الثقة عارمة لدى شعوب وحركات وقوى محور المقاومة بالمحور، بحركاته، بحكوماته، بدوله، بقادته الحاضرين لتقديم فلذات أكبادهم في هذا الطريق وبين يدي هؤلاء القادة.
ـ الهوة الكبيرة التي تزداد اتساعاً بين التباهي بالقدرة الإسرائيلية على الردع، وبين تآكل هذا الردع بوتائر متسارعة، ومع كل محاولة يسعى فيه حكام “تل أبيب” لاستعادة الردع المتآكل يزداد ردعهم المأمول تآكلا، والدليل الأقرب عملية “ثأر الأحرار”، حيث عجزت آلة القتل الصهيونية عن استعادة ردع مفقود في مواجهة فصيل واحد من فصائل المقاومة الفلسطينية “الجهاد الإسلامي” ولا أحد من حركات وقوى ودول المقاومة يخاف العدو الإسرائيلي، وهو الذي يجب أن يخاف، والفرق كبير بين الردع، وبين الذهاب إلى التصعيد الكلامي لافتقاده أي شيء آخر يفعله، فعن أي ردع يتحدثون في زمن وحدة الساحات وترابط الجبهات؟