خاص: لؤلؤة النيوليبرالية: مرضنا الإستهلاك
موقع إنباء الإخباري ـ
حسام مطر:
لا زالت الساحة الدولية، لا سيما الولايات المتحدة، ترزح تحت أعباء الأزمة الاقتصادية العالمية الأخيرة، والتي لا يزال يجري البحث عن آليات وسياسات للخروج منها.
يحتل النقاش حول تفعيل الاستهلاك، لا سيما في الدول التي استطاعت تجاوز الأزمة بأقل الخسائر، موقعاً أساسياً في الطروحات المقترحة لخطط التحفيز الإقتصادي للدول المأزومة.
الصين مثلاً، تسعى لرفع مستوى الإستهلاك الداخلي وتوسعة السوق الداخلية بهدف التعويض عن التراجع في الصادرات، ويشير المختصون الإقتصاديون إلى أن معدل الإستهلاك الصيني لا يزال منخفضاً مقارنة بالدول المتقدمة.
تنوعت عبر التاريخ السبل والأساليب والسياسات (الخدع) التي لجأت إليها القوى الكبرى في سبيل إحكام السيطرة على مقدرات الشعوب والمجتمعات المستضعفة، وذلك بما يضمن هيمنة تلك القوى وتعاظم قوتها ورفاهيتها وديمومة تسلّطها على المصائر والبصائر. وعليه كان الاستعمار إحدى هذه الأدوات التي ضمنت للدول المستكبرة نهب الثروات المادية (المواد الاولية ) وتطويع القوى البشرية (إستعباداً ، تجهيلاً ، وإستتباعاً) واحتكار التقدم العلمي والتقني.
وفي مرحلة ما بعد الاستعمار (كظاهرة مادية) تم ابتداع مجموعة من الأنظمة والمؤسسات (النيوليبرالية المؤسساتية) التي شرّعت أسساً وقواعد ونظماً تضمن استمرارية سيطرة القوى الكبرى، وتحديداً الولايات المتحدة، على النظام العالمي بكل أوجهه.
وتصاعدت في تلك الآونة نقاشات ما يعرف بسيطرة الشمال على الجنوب، وخضوع دول العالم الثالث لوصفات صندوق النقد الدولي، التي أغرقت تلك الدول بأعباء الدين العام وتدمير القطاعات العامة والضمانات الاجتماعية، وأفرغت مفهوم السيادة الوطنية من مضمونه، تحت وطأة تدخل الشركات المتعددة الجنسيات وتبعية بعض البرجوازيات الداخلية أو ما يعرف “بالكومبرادورية”.
اليوم وبعد أن وقعت الأزمة الاقتصادية العالمية التي أصابت من هيمنة الولايات المتحدة مقتلاً، يبدو أن عمق الازمة التي ضربت معظم قوى الاقتصاد العالمي، واختلال توزع القوى الاقتصادية لمصلحة الدول الناشئة لا سيما في آسيا، وكذلك عجز الولايات المتحدة عن استخدام الفعل العسكري كأداة “للتصحيح” الاقتصادي، قد أعجزت المبدع الأميركي عن خلق حلّ إلا السياسة التالية “لندخر اكثر ونستهلك أقل”.
إذاً، القوة الكبرى التي نسجت العولمة النيوليبرالية منذ أكثر من ثلاثين عاماً على سياسة وثقافة تحفيز، بل فرط الاستهلاك السلعي، بل والقيمي، وأوصلت الاستهلاك الشخصي إلى مستوى كان حكراً في القرون الوسطى على الطبقة الثرية ـ كما يقول كيسنجر مادحاً دور الولايات المتحدة في تحفيز العولمة ـ ها هي اليوم وعند أول اعتلال حقيقي تلجأ إلى وصفةِ مَن تعتبرهم أعداءً للعولمة والرفاه.
مع العلم إن حجم الاستهلاك الاميركي ما قبل الأزمة لم يكن ناتجاً عن تطور القطاعات الاقتصادية المنتجة، بل تضخم دور الأسواق المالية في الاقتصاد الاميركي من جهة، والاستدانة المفرطة من جهة أخرى لتحفيز الاستهلاك. أي بمعنى آخر، ما كان ينفقه الاميركي كان نتاج عملية النهب المنظم من خلال المضاربات وليس مرتبطاً بازدهار القدرة الانتاجية، وهو مستوى وشكل من الاستهلاك يمكن في حال تعميمه على شعوب العالم أن يؤدي إلى تدمير عشرات الكواكب بحجم كوكبنا، على حد ما أجاب غاندي يوماَ، عندما سئل عن جعل مستوى معيشة الشعب الهندي كما الشعب الانكليزي حينها.
وقد أقرت إدارة أوباما في إستراتيجيتها الجديدة للأمن القومي الاميركي سياسة “إدخار أكبر وإنفاق أقل”، بهدف تحقيق نمو متوازن ومستدام يضمن رفاه الشعب الاميركي، على أن هذه السياسة يُفترض أن تعزّز الصادرات الاميركية وتقلّص الوارادت، بما ينعكس على تطوير القطاعات الصناعية ويقلّص نسبة البطالة من خلال خلق فرص عمل جديدة.
إلا أن الإحصاءات الأخيرة من الولايات المتحدة تشير إلى تراجع مستوى الإدخار مقابل ارتفاع مستوى الاستهلاك، فيما لا تزال تشهد الصين معدلات إدخار عالية. إن القيم والثقافة الاميركية قد عملت لعقود على تحويل المواطنين إلى مستهلكين، وإعادة انتاج عبودية جديدة خدمة لأرباب الرأسمالية العالمية. وعليه، لا تكفي الاستراتيجيات لتغيير السلوكيات المسرفة بل لا بد من نظام قيمي إنساني جديد.
ولكن على اعتبار أن مستوى الاستهلاك الاميركي الجنوني خلال العقود الاخيرة قد كان بمثابة محرك لبعض الإقتصادات الكبرى، لا سيما الاقتصاد الصيني، فإنه من واجب الدول ـ على حد قول الولايات المتحدة ـ وفي مقدمتها الصين، دفع شعوبها نحو مستويات أعلى من الاستهلاك، بما يضمن نمو الصادرات الاميركية.
ومن هنا تتصاعد حملة الولايات المتحدة تجاه الصين، على صعيد ربط العملة الصينية بالدولار وزيادة أجور العمال، الذين باتوا أكثر جرأةً وتنظيماً في تحركاتهم التي تشهد تغطية إعلامية وتحريضاً أميركياً، وكذلك المطالبة بفتح السوق الصينية بشكل كامل للمنتجات الاميركية.
في الرأسمالية العالمية، لا يحضر مواطنون بل مستهلكون. والمستهلك لا يقترع لمرشح بل لسلعة، والسعادة يُعاد إنتاجها كإحدى مخرجات الإستهلاك الترفي، السلطة تعود للشركات الكبرى التي تعبّر عن مصالحها بشخصيات سياسية واعلامية ومراكز أكاديمية وبحثية تعمل على إنتاج ثقافة الهيمنة بشكل مستدام.
إذاً إنها الوصفة الاميركية للعالم “إدخروا أقل وأنفقوا أكثر”. أما فيما يعنينا نحن في العالم العربي، فإن أموال نفطنا في جيوبكم وبنوككم. وأما مترفونا فبيدق في نظامكم المالي والاقتصادي. وأما نحن الشعوب المسلوبة فلكم منا العهد أن لا ندّخر قرشاً واحداً بعد اليوم.