موقع إنباء الإخباري ـ
ماجدة ريا:
في الزمن البعيد، منذ سنوات كثيرة، عندما دخلت إلى الجامعة اللبنانية، وكنت أحمل في داخلي حلم الشباب الطموح المحب للعلم، كان الهم أن نحصل على هذا التعليم بأي شكل من الأشكال، وكان هذا أفضل المتاح.
وكانت الجامعة اللبنانية، تلك المؤسسة التي أكنّ لها في نفسي الكثير من الحنين، لأنها شكلت مرحلة مهمة من حياتي، وكانت صورتها ـ وما تزال ـ محفورة في ذاكرتي: تلك القاعات الكبيرة، الباردة. فالبناء قديم جداً، والجدران تتكلم عن حالة الكآبة المسيطرة على ذلك البناء، تشكو الإهمال وقلة الإهتمام، وكأن روّاده هم من الدرجة الثالثة وما دون، رغم ذلك يجدّون السير نحوه علّهم يأخذون بعضاً من قبس علم يتوقون إليه، بصمت وصبر كبيرين، يتابع الطلاب تعليمهم، في ذلك المبنى.
اليوم… وبعد سنوات طوال، ناهزت العقدين من الزمن، ليت الحال بقيت على ما هي عليه من سوء، فهذان العقدان قد أكلا وشربا على ذلك البناء، الذي لا يحق له بأي نوع من أنواع الصيانة، أو التجديد، أو الإهتمام، فهو مستأجر، والميزانيات المتعاقبة لم تسمح بأي نوع من الإهتمام به.
فالجدران ازدادت كآبة، وألوانها الباهتة حملت إمضاء كل الأجيال المتعاقبة، والطاولات القديمة، عبثت فيها كم من الأيادي فزادتها هماً على هم، حتى لكأن الذي يجلس عليها هو سجين سوء تصرف الآخرين، وليس طالباً يحتاج إلى مكان نظيف، وطاولة تعبر على أنّه أصبح في سن الشباب المتفتح كالأزهار، وما عاد يعرف أهو في مكان أكاديمي أم ماذا؟!
هو الحجر الذي تٌرك لمصيره، وربما يلحق به البشر…
فالميزانيات التي لم تسمح بتحقيق آمال العاملين في تلك الأبنية زادت الطين بلة، وانعكس الحال عليهم، فلا اهتمام بحجر ولا اهتمام ببشر.
هؤلاء العاملون بتّ تقرأ في وجوههم الحنق على كل شيء، حتى لكأن الطالب تحوّل إلى شيء من هذه الأشياء أيضاً، وعليه أن يحمل من هذا الوزر، ولم يعد الواجب المقدّس مقدّساً، بل هو عمل ممل، لا يرضي صاحبه الذي ما عاد يقبل عليه بشغف، وإنما يتحرّك كآلة تنفذ ما عليها تنفيذه، بل ربما الآلة ليس لها وجه كئيب كتلك الوجوه التي ما عادت تعرف معنى الإبتسام.
ما عاد الطالب يبحث عن بسمة في وجهه تشجعه على المزيد من طلب العلم، لكنه يبحث عن معاملة محترمة، فقط أن يعامل كطالب علم، وليس شحاذاً على باب هؤلاء الموظفين الذين يتعاملون معه كأنه متطفل، أو لاجىء.
كان من المفترض أن يكون هناك ملف لكل طالب، ويكون قد أُنجز مسبقاً لمعرفة رصيده من النقاط، وما له وما عليه من علامات وأرصدة، وفي أي فصل يمكن أن يسجل، لا أن ينتظر بالدور ـ ليوم أو يومين أو أكثر ـ ليحصل على علاماته كي ينظروا في أمر تسجيله بأي فصل. فمن الطلاب من ترك عمله، ومنهم من ترك محاضراته، أضف إلى ذلك الوقوف الطويل في زحمة خانقة، وكأن من أراد طلب العلم عليه أن يدفع هذه الضريبة الباهظة من أعصابه، لأنه لا يوجد ما يسهل عليه أموره.
فالطالب بات هو الحلقة الأضعف في كل ذلك، يريد أن ينجو بنفسه وحسب، كي يستطيع ترتيب أمره، ومتابعة دراسته بشكل أفضل.
أي جيل نبني ونحن نحمله كل تلك التراكمات من القهر وعدم الإهتمام؟ وبأي ذنب عليه تحمّل كل ذلك؟
في الدول المحترمة، يكون مكان تلقي العلم لائقاً بالإنسان المتعلّم، على الأقل كي يشعر أنه يجلس في مكان أكاديمي محترم، وليس في غرف أشبه بغرف السجون الموحشة. في الدول المحترمة تهتم الدولة بالحجر والبشر، أما عندنا… فيا ويلاه على طالب العلم إذا لم تكن إمكانياته تسمح له بدخول الجامعات الخاصة، التي هي حكر على من يملكون المال، بسبب ارتفاع أقساطها بشكل جنوني، فما عليه إلا أن يرضخ لما قسم له من جلوس في مثل تلك الجامعات، أضف إليها مثل تلك المعاملة.
أخبرتني صديقة لي أن ابنها داوم بداية العام الماضي في كلية العلوم لمدة أسبوع، بعد إضراب دام شهرين للدكاترة المدرسين. حضر الدكتور في اليومين الأولين، وعاد للغياب، كان يعطيهم مادة “الفيزياء”، على عجالة، غير آبه لمن فهم ومن لم يفهم. وقال لها ابنها “لن اذهب إلى هذه الجامعة ثانية”، فانتسب إلى جامعة خاصة. وللصدف كان الدكتور ذاته يعطي فيها المادة ذات، وكانت المفارقة، أنه يشرح بتأنٍّ كبير، ويهتم بكل طالب، هل فهم أم لا…
هذا مثال حي من الواقع الأليم الذي يعاني منه الطلاب الذين لا حول ولهم ولا قوة.
فماذا سننتظر من مثل هذا الجيل، وما ستنطوي عليه سرائره؟
هو الآن الحلقة الأضعف، فكيف سيكون عندما يصبح الحلقة الأقوى؟
للأسف نحن في بلد، جلّ هم السياسين فيه هو الفرقة والإنقسام ومحاربة النمو والتطور، ولا مكان فيه حتى للحلم بحياة بسيطة عادية، لأن بناء الإنسان هو في آخر سلم الأولويات، هذا إذا وجد له مكاناً على هذا السلم.
هي صرخة برسم المسؤولين عن الإنسان، فهل من يهتم لذلك؟
في هذا العمر ، ينتقل الشباب من المرحلة الثانوية إلى المرحلة الجامعية. ولنا أن نفكر كيف ينظر هؤلاء الشباب إلى هذه المرحلة الجديدة الذين هم مقبلون عليها، إنهم يدخلون عالم الكبار، وإثبات الذات، والتوجه إلى الحياة بقلوب تحمل الكثير من الأحلام التي أمضوا برسمها في مخيلاتهم ليالي طوال.
إنهم زهور في أول تفتح أكمامها، يريدون من يأخذ بيدهم ليضعهم في المسار الصحيح، ويتطلّعون إلى المستقبل بعيون زاهرة، هم مقبلون على الحياة بكل ما فيها. من يأخذ بيدهم؟ من يوجّههم؟ من يرشدهم؟ من يكون مثلهم الأعلى!
فهل يجب أن يصطدموا بهذا الواقع المزري؟
أقل ما يجب أن يحصل عليه الطالب هو أن نستوعبه، ونضعه في المكان اللائق، أن نجعله يشعر بأنه رجل المستقبل الذي يعتمد عليه، أن نداريه، لكي نترك له أحلامه، فلا نذبحها عند أول مفترق.