حوار سوتشي.. لماذا؟
موقع إنباء الإخباري ـ
الأكاديمي مروان سوداح*
عديدة هي المؤتمرات واللقاءات والحوارات التي عُقدت بإسم القضية السورية منذ اندلاع حرب التدخل الأجنبي على تلك الدولة العربية. ولقد شهدت عدة عواصم عربية وأجنبية إجتماعات بشأنها حضرها ممثلو دولٍ، بالإضافة الى تيّارات وجماعات ولوبيات لم تكن موجودة قبل الحرب، لكن أي منها لم يتمكّن للآن وبعد ظهورها المفاجىء على مسرح الحدث المأساوي، من الوصول إلى حلٍ شاملٍ وناجزٍ وعادلٍ للوضع الدامي في الجمهورية العربية السورية.
المُعضلة التي تكمن في مؤتمرات تُعلن عن بحثها في القضية السورية وتمثيلها للسوريين، هي أن عدداً من ممثلي ما يُسمى بالمعارضات الوطنية والقومية، وبعضها يتمترس خنادق بلدان خارج الوطن السوري، ويرفع شعارات إنفصالية تتناغم مع شعارات مُمَاثِلة تروّج في الغرب السياسي، لا يَمتلك على الأرض في سورية لا قوة عسكرية ولا تنظيمات مدنية أو إجتماعية أو حزبية، بل ولم يبايعه أحد من الشعب السوري، ولا يستطيع وحالته المأزومة هذه إصدار أمر واحد لجماعات مسلحة ما، أو حتى لأخرى مدنية في سورية، لترضح إلى مشيئته، فكيف تستطيع هذه “المعارضات” المساهمة بالوصول الى حلٍ عادلٍ وشاملٍ في الوطن السوري!
وعلى الرغم كل ذلك، كان لعددٍ من الاجتماعات والمؤتمرات والحوارات السابقة إيجابية واحدة، هي تكشّف بواطن وأهداف مختلف الأطراف من معارضات و “ثورات!” “مدنية” ومسلحة تسليحاً غربياً وغيرها للمواطن السوري العادي، بل وتكشّفها كذلك للعالم كله من أقصاه الى أقصاه، إذ إنتُزعت ورقة التوت الأخيرة عن عورتها، وتبيّن بالتالي للقاصي والداني إرتباطاتها المالية والسياسية والعسكرية بشكل جلي وكما لم يكن مِن قَبل انعقاد هذه الاجتماعات واللقاءات!
سوتشي أقرب الى قلب سورية ونبض السوريين من واشنطن وباريس ولندن وغيرها من عواصم المتربول التقليدية، التي سبق وأذاقت العرب، كل العرب، مرارة عَلقم الاستعمار لوطنهم الكبير الذي يمتد من الماء الى الماء، فقد استمرت هيمنة عدة دول غربية على عالمنا العربي أُلوف السنين، والتاريح شاهدٌ هو الأبلغ والأكثر مصداقية على ذلك.
وفي اجتماعات ومؤتمرات وحوارات غير سوتشي، عدا ما تم جزئياً في كازاخستان، لم يتم التوصّل خلالها الى إتفاقات جذرية لحل المسألة السورية ونشر السلام الشامل في سورية، فبقت القوى المرتبطة بالغرب ومُشغليها محصورة ومحشورة في قُمقمهم الضيق، ولا تستطيع المناورة بحرية أو التعبير عن مصالح السوريين في الداخل السوري بالذات، فمعارضات فنادق الخمس نجوم خَبِرها العرب “على جلودهم” الشخصية، وهم يُدركون دواخلها!
مؤتمر أو لنقل لقاء أو “الحوار الوطني السوري – السوري في سوتشي” (الاثنين والثلاثاء/29-30 كانون الثاني/ يناير)، هو تعبير جلي عن مرحلة انتقالية وجديدة ونوعية، وهي مرحلة تكشف كما لم يكن من قبل عن بداية ضَعف تتسم به السياسة الغربية وعملانيتها برمتها في العالم العربي، أضف الى ذلك تصدّعها وإنكشاف استهدافات هذه السياسة الغربية وجوهرها التوسّعي والقهري، زد على ذلك يُذكِّر “سوتشي” بأن مؤتمر موسكو للسلام في “الشرق الاوسط”، الذي وافقت واشنطن وعواصم الغرب المتروبولية على عَقده، ثم تنصّلت من وعدها هذا تماماً بالتنسيق الكامل و “العميق” مع “إسرائيل” – التي تستمر تدير الدوائر للسياسة الروسية، أقول مؤتمر موسكو للسلام يعود اليوم لكن بإرادة روسية حازمة وبقوته النافذة مادياً و معنوياً وبحُلّته “السوتشية” في محاولة جادة للعثور على حلول ناجعة لمعالجة المشاكل المصيرية التي تعانيها الدولة السورية الشقيقة، التي مازالت تتطلع الى تحرير أراضيها المحتلة المغتصبة صهيونياً على مرأى ومسموع من العالم أجمع، وحين تقوم تل أبيب بدعم واضح وسافر ويومي للارهابيين الدوليين على خطوط الهدنة، ولا أدل على ذلك ما يَعرضه حول هذا كله التلفاز الصهيوني نفسه وموقع (يوتيوب) الشهير.
هدف سوتشي يختلف كلياً شكلاً ومضموناً وبعمق عن غيره من المؤتمرات والاجتماعات والحوارات. فهو إذ يضع نصب عينيه هدف تحرير سورية من الاغتصاب وتكنيس الجيوش الاجنبية والارهابية من أراضيها، وجّه الدعوة لـٍ1600 شخص لحضوره، وهذا لم يدر بخلد المُشغِّلين ولم يتوقّعوه. فوفقاً لوكالة “سانا” الرسمية السورية للأنباء، يُعتبر سوتشي حواراً وطنياً بين السوريين دون تدخّل خارجي، أي أن الدول الغربية لن تستطيع من خلاله تفصيل خريطة ومستقبل سياسي لسورية على هواها ومزاجها كما دأبت على ذلك خلال الألفيات الماضية، بينما قال رئيس وفد الجمهورية العربية السورية إلى الحوار السوري في فيينا بشار الجعفري، أن سوتشي “ستكون محصلة الحوار بين السوريين أنفسهم”، وليس بين سوريين وطنيين أصيلين، وبين سوريين إسماً عاشوا طوال حياتهم خارج حدود سورية، وأصبحوا بين ليلة وضحاها “مُمثلين” للشعب السوري الذي لم يَعرف للآن ولا يعرف مَن هم(!)، لا بل أن هذا الشعب يَعرف بأنه لم يَسبق لهم أن قدّموا أعمالاً وأنشطةً لصالح سورية وتقدّمها وازدهارها.
موسكو التي أنقذت سورية بدخولها العسكري والاقتصادي والسياسي الى هذه الدولة العربية المنكوبة بطلب رسمي من حكومتها الشرعية، وثبّتت هذه الدولة وشعبها وضمنت مستقبلها، أكدت بكل ذلك على جدّيتها في مساعيها لحل المسألة السورية حلاً يُرضي شعبها وقيادته الشرعية، وفي إطار الشرعية السورية عموماً والشرعية الدولية، وستعمل على نتائج ملموسة ما وسعها الجهد الى ذلك، لاسيّما من خلال مداولات مؤتمر سوتشي الروسي، وإن كان مُبكراً جداً الآن الوصول الى اتفاقات نهائية من خلاله، فالوقائع لا تشي بذلك ولا التطورات والتخندقات السياسية والعسكرية لمختلف الأطراف، لكن موسكو تؤكد بأنها كانت وستبقى على جدّيتها العسكرية، وبالتالي السياسية، في قصم ظهر الارهاب الدولي وتعطيل قدراته، ونثق بذلك تماماً، فالتاريخ والأحداث المُعَاصِرة أيضاً تشهدان على ذلك.
سوتشي و جنيف
مَن يعرف السياسة والمنهجية الروسية يُدرك أن حوار سوتشي إنما يستهدف توفير دعم أكبر لمسيرة جنيف للحل السوري – السوري، وتوفير زخم أعمق وأشمل وملموس إليها. فجنيف لم تعد تكفي وحدها للتسريع بالحل السوري – السوري، وما تعدّد منصات الحل مابين المدن الجادة سوى علامة لفحص حقائق الصراع، ودعم مسيرة جنيف نفسها، كون جنيف تمثل الشرعية الدولية بكل تجلياتها، وتستند موسكو في مختلف أنشطتها إلى جنيف كونها تمثل هيئة الامم المتحدة وتجمع مختلف الفرقاء حول منصّتها، وتدرك موسكو كذلك أن الانتصار النهائي في الحرب على الارهاب ومشغليه، إنما يمكن الوصول إليه بجهود جماعية ومن خلال إدراك الجميع ان الارهاب يعني الارتداد على الكل، فهو في واقعه لا يوفّر أحداً من حِرابه القتّالة، إضافة الى ان الحل في سورية لا يَستقيم بدون قرارات دولية من خلال المنظمة الاممية بالذات، إذ يعني إتخاذها في هذه المنظمة إقراراً من خلالها بنهاية الارهاب، وبداية عهد جديد بدون إرهاب. وهنا لا بد من الإشارة الى أن ترويجات على شاكلة “إنهيار مسار جنيف”، الذي تشرف عليه الأمم المتحدة، بسبب الحوار الذي يُرتب له في سوتشي، لا تسندها أية حقائق، فسوتشي تبقى جزءاً وإن فاعلٍ مِن كلٍ للحل الشامل والناجز في سورية، ذلك أنه تم دعوة مختلف الجهات الدولية لحضوره، وبضمنها دي ميستورا، وهو تأكيد على طابعه الجماعي والدولي، برغم أن الغرب السياسي يحاول إحباط حوار سوتشي لصالح اجتماع في فيينا الذي سيُعقد بعد ذلك التاريخ مباشرة (الخميس والجمعة المُقبلين).
ومن المهم التنويه إلى أن حوار سوتشي إنما يتم الدعوة إليه بعد انتهاء “جولة جنيف 8” في 14 ديسمبر/كانون الأول الماضي، من دون تحقيق أي تقدم يُذكر، فيما يُفترض إفتراضاً أن تُعقد الجَولة الجديدة لجنيف، قُبيل انعقاد حوار سوتشي، ولهذا بالذات يُخطط في سوتشي لتوفير الدعم المتواصل والقوي لجنيف، في محاولة للحفاظ على استمرارية الحوارات واللقاءات، للوصول الى تفاهمات ولو عامة حول ما يمكن الاتفاق عليه مِن نقاط، بفعالية من مجموعة تلك الدول المتحالفة بالذات التي إنتصرت إنتصاراً مؤزراً على تنظيم “داعش” الارهابي، وأنهت وجوده الأساسي على الأرض السورية.
…
*#مروان_سوداح: مؤسس ورئيس #رَاَبِطَة الَقَلَمِيِّين الاَلِكْتْروُنِيّةِ مُحِبِّيِ #بُوُتِيِن ورُوسيِّهَ فِيِ الأُردُن والعَالَم العَرَبِيِ ومتخصص أردني بالشأن الروسي.