حقيقة “الصدع” الأميركي-الإسرائيلي حول الاستيطان في الضفة الغربية
موقع قناة الميادين-
حسن صعب:
الوقائع على الأرض تكشف أن إدارة بايدن لم تفعل شيئاً لوقف التوسع الاستيطاني في مختلف مناطق الضفة الغربية، والتي تسيطر “إسرائيل” على أكثر من 60 % منها.
مدخل
لا يساور الشك أحداً في العالم في شأن “مصيرية” مشاريع الاستيطان في الضفة الغربية المحتلة بالنسبة إلى مختلف مكوّنات الكيان الإسرائيلي، السياسية والمجتمعية، وصولاً إلى النخب والقيادات العليا لهذا الكيان.
فـ “إسرائيل” هي كيان استيطاني إحلالي في جوهره، كما يُثبت التاريخ والوقائع السياسية والميدانية، منذ ما قبل تأسيس الكيان في العام 1948، وحتى الأمس القريب، حين أقرّ الكنيست الإسرائيلي، بتاريخ 21/3/2023، إلغاء ما يسمّى قانون فك الارتباط مع الضفة الغربية، والذي تمّ اعتماده في عهد رئيس الوزراء السابق أرئيل شارون، من أجل تشريع خطوة الانسحاب القسري من قطاع غزة وبعض البؤر الاستيطانية في الضفة، في شهر آب/أغسطس من العام 2005، على خلفية الفشل في سحق المقاومة الفلسطينية في غزة.
وفي أعقاب صدور هذا القرار، صرّح نائب المتحدث باسم وزارة الخارجية الأميركية، فيدانت باتيل، بالقول: “تحثّ الولايات المتحدة إسرائيل بشدّة على الامتناع عن السماح بعودة المستوطنين إلى المنطقة التي يغطّيها التشريع، بما يتّفق مع التزام رئيس الوزراء الأسبق أرئيل شارون والحكومة الإسرائيلية الحالية تجاه الولايات المتحدة”.
فهل يمكن اعتبار هذا الموقف من سياسات الحكومة الإسرائيلية المتطرفة تحوّلاً مهمّاً ستكون له تبعات على العلاقات “الاستراتيجية” بين الولايات المتحدة والكيان الإسرائيلي في المدى المنظور، أم أن المسألة لا تتجاوز سقف الاحتجاج أو إبداء القلق فقط، من قِبل إدارة بايدن التي تسعى لضبط سياسة “إسرائيل” المتهوّرة، على قاعدة “حمايتها من نفسها”؟
تطوّر الموقف الأميركي من الاستيطان الإسرائيلي
حاولت إدارة بايدن التمايز عن إدارة دونالد ترامب، في ما يخص قضية الاستيطان الإسرائيلي في الضفة الغربية المحتلة، ولكن ضمن حدود معيّنة لا تمسّ جوهر الموقف الأميركي التقليدي والتاريخي الداعم لسياسات كيان الاحتلال التوسعية والعنصرية، داخل فلسطين وخارجها على السواء.
ففي 20 شباط/ فبراير الفائت، تبنّى مجلس الأمن الدولي، من خلال بيان رسمي، موقفاً معارضاً لجميع “الإجراءات الإسرائيلية أحاديّة الجانب، ومنها بناء المستوطنات وتوسيعها، ومصادرة الأراضي الفلسطينية وشرعنة المستوطنات وهدم مساكن الفلسطينيين وتهجيرهم”، مع تعطيل واشنطن التصويت على قرار إدانة واضح ومُلزم.
يُذكر أن مجلس الأمن كان قد أصدر قراراً مُلزماً حول الاستيطان، وحمل الرقم 2334، يوم 23 كانون الأول/ ديسمبر 2016، بعد أن امتنعت إدارة الرئيس السابق باراك أوباما عن التصويت، ما مكّن القرار من المرور، إذ صوّت له 14 عضواً وأصبح الأوّل من نوعه منذ 1979، وطالب فيه مجلس الأمن “إسرائيل” بوقف بناء المستوطنات في الأراضي الفلسطينية.
وقد سارع مكتب رئيس حكومة الاحتلال، بنيامين نتنياهو، إلى التنديد بالبيان الأخير لمجلس الأمن، مستخدماً الاتهامات الدائمة لأي قرار يدين الجرائم الإسرائيلية بأنه “معادٍ لليهود”، في محاولة لكسب التعاطف الدولي، مؤكداً أنه “ما كان ينبغي أبداً للولايات المتحدة أن تؤيّد طرح هذا النص” في المجلس.
وأتى كلام نتنياهو عقب تصاعد وتيرة الانتقاد ضدّ سياساته بين السياسيين الأميركيين. وكان السيناتور الأميركي، بيرني ساندرز، قال إنه “يجب على الولايات المتحدة إعادة النظر في الظروف التي تقدّم بموجبها المساعدة المالية إلى إسرائيل”، مؤكداً أنه “يتعيّن علينا وضع بعض القيود على ذلك، والقول إنه لا يمكنكِ (إسرائيل) إدارة حكومة عنصرية”.
وقد أثار هذا المشروع لإدانة الاستيطان الإسرائيلي استياءً لدى حليفة “إسرائيل” التاريخية، الولايات المتحدة، التي تتسلّح بحقّ النقض “الفيتو” في مجلس الأمن، إذ أكدت وزارة الخارجية الأميركية أن القرار “قليل الفائدة”، علماً بأنها لم تستطع تجنّب التنديد بالإعلان الإسرائيلي الجديد بشأن المستوطنات.
من جهتها، كشفت صحيفة “يديعوت أحرونوت” أن تخلّي السلطة الفلسطينية عن طرح التصويت على مشروع قرار ضد الاستيطان الإسرائيلي في مجلس الأمن جاء بعد التوصل إلى تفاهمات بتجميد مؤقت للاستيطان بوساطة أميركية.
وبشأن الموقف الأميركي من ميول الحكومة الإسرائيلية الحالية إلى بناء مزيد من المستوطنات، وكيف أقنعت واشنطن بتوقيفه لفترة مؤقتة، يلفت المستشار السياسي للحزب الديمقراطي الأميركي، كريس ليبتينا، إلى أن “واشنطن كانت قد ندّدت بإعلان إسرائيل بناء المستوطنات، وأكدت أنها تقف ضدّه”.
ويضيف أن “الإدارة الأميركية الحالية والرئيس جو بايدن يؤمنان بحلّ الدولتين”، مشيراً إلى أن “إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب كانت تؤمن بما يريده نتنياهو وحكومة الليكود”.
لكن على أرض الواقع، لم تختلف كثيراً مواقف إدارة بايدن عن مواقف إدارة ترامب، سوى من ناحية الشكل، إذ استمر الاستيطان الصهيوني في قضم أراض واسعة من الضفة طوال عهود الحزبين الديمقراطي والجمهوري من دون توقّف، وصولاً إلى عهد إدارة بايدن، والتي لم تعلن عن شرعنة المستوطنات في أي وقت، لكنها لم تفعل أي شيء ملموس لوقف تمدّدها السرطاني في جسد الكيان الفلسطيني المعترف به دولياً، ضمن أراضي الضفة الغربية وقطاع غزة، كما يكشف الاستقراء العام لمواقف الإدارتين خلال الأعوام الأخيرة.
إدارة ترامب “تُشرعن” الاستيطان
“تميّزت” إدارة دونالد ترامب، رئيساً ووزراء ومسؤولين، بالعنجهية والوقاحة في التعامل مع القضايا الداخلية والخارجية على السواء، وبالأخص مع كلّ من يتبنّى أو يناصر القضية الفلسطينية ويعادي كيان الاحتلال، “الحليف الأبدي” للولايات المتحدة الأميركية.
ومن هذا المنظور، يمكن فهم المواقف “الجديدة” التي اتخذها فريق ترامب في ما يخص التوسع الاستيطاني الإسرائيلي في الضفة الغربية وتهويد القدس ورفض عودة اللاجئين، وغيرها من القضايا، التي كانت الإدارات الأميركية السابقة تناور أو تحاذر في حسم موقفها السياسي منها، لاعتبارات دولية وإقليمية ترتبط بالمصالح الأميركية حصراً.
ففي خطوة مفاجئة، أعلن وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو، في 18 تشرين الثاني/ نوفمبر 2019، أنّ واشنطن “لم تعد تعتبر المستوطنات الإسرائيلية متعارضة مع القانون الدولي”، وأضاف أنّ هذا القرار “لا يتطرّق إلى الوضع النهائي للضفة الغربية”، الذي “سيحدّده الإسرائيليون والفلسطينيون عبر المفاوضات”. وقال بومبيو إنّ “تصنيف إقامة مستوطنات مدنية على أنّه يتعارض مع القانون الدولي لم يدعم قضية السلام […] الحقيقة الصعبة هي أنه لن يكون هناك أي حلّ قضائي للنزاع؛ والحجج حول من هو على حق ومن هو الخطأ من حيث القانون الدولي، لن تحقّق السّلام”. وبذلك، انقلبت إدارة ترامب على الموقف القانوني للخارجية الأميركية منذ عام 1978 الذي ينصّ على مخالفة الاستيطان للقانون الدولي.
لكن هذا الإعلان لم يكن مفاجئاً للمتابعين للسياسة التي تبنّاها ترامب حيال القضيّة الفلسطينية، بل هو أتى في سياق توجّهات الإدارة التي انحازت صراحة إلى الاحتلال الإسرائيلي وتبنّت روايته. وقد عبّرت عن هذه التوجهات سلسلة من القرارات، بدأت في كانون الأول/ ديسمبر/ 2017، مع إعلان الاعتراف بالقدس “عاصمة لدولة” الاحتلال، وقرارات استهداف الأونروا وحق العودة واللاجئين، وإعلان ترامب في آذار/ مارس 2019 الاعتراف بـ “السيادة الإسرائيلية” على الجولان السوري المحتل، وغير ذلك من القرارات.
وتُضاف إليها تصريحات صدرت عن السفير الأميركي لدى “دولة” الاحتلال، ديفيد فريدمان، في حزيران/ يونيو 2019، قال فيها إنّه “من حقّ إسرائيل ضمّ أجزاء من الضفة الغربية”.
ومن المثير للسخرية ما تحدّثت عنه الصحافة الأميركية والأردنية، في مطلع شباط/ فبراير 2017، حول تحوّل كبير حصل في بداية عهد إدارة ترامب بخصوص الاستيطان، والذي لم يُترجَم على الأرض في حينه بالطبع، إذ عزت صحيفة “نيويورك تايمز” هذا التحوّل إلى اللقاء الذي جمع الملك عبد الله الثاني والرئيس الأميركي دونالد ترامب حينها.
وعدّ البيت الأبيض بناء وحدات استيطانية جديدة في الأراضي الفلسطينية المحتلة أو توسعة المستوطنات القائمة “قد لا تكون عاملاً مساعداً” لحلّ النزاع الفلسطيني – الإسرائيلي، مؤكداً أن الرئيس ترامب لم يتخذ بعد موقفاً رسمياً حيال هذا الموضوع.
لكن، وفي خطوة معاكسة تهدف إلى تكريس وقائع جديدة قبل انتهاء ولاية ترامب، اعترفت الخارجية الأميركية عملياً بأنّ مناطق “ج”، التي توجد عليها المستوطنات، والتي تشكّل 60% من مساحة الضفة الغربية، “جزء لا يتجزّأ من إسرائيل”.
وذكر موقع “والا” العبري أن الخارجية الأميركية أصدرت بياناً، خلال زيارة وزير الخارجية مايك بومبيو مستوطنة “بساغوت” القريبة من رام الله، في 19 تشرين الثاني/ نوفمبر 2020، بأن الولايات المتحدة ستضع علامة “صنِع في إسرائيل” على المنتوجات التي تُصدّرها المستوطنات في الضفة، والمقامة على مناطق “ج”.
الخطوة التي أقدمت عليها واشنطن (آنذاك) جاءت في ظل حقيقة أنه حتى “إسرائيل” لم تفرض بعد قانونها على المستوطنات. وعدّ باراك رافيد، المعلّق السياسي للموقع، الخطوة “تحوّلاً جذرياً” في موقف الولايات المتحدة من المستوطنات، مُعيداً إلى الأذهان حقيقة أن المجتمع الدولي يرى المستوطنات في الضفة غير قانونية ولا يعترف بها كجزء من “إسرائيل”.
إدارة بايدن تنتقد الاستيطان.. وتدعمه!
بالعودة إلى مواقف إدارة بايدن، لا يمكن لحظ وجود فارق جوهري عن مواقف إدارة ترامب، ليس فقط حيال الاستيطان، بل حتى في ما يتعلق بالقدس والمسجد الأقصى والانسحاب الإسرائيلي من الأراضي المحتلة في العام 1967، بما فيها الجولان السوري، وعودة اللاجئين، إذ لم يعد لما يسمّى “حلّ الدولتين” أي ركائز واقعية؛ وهو الشعار الذي تستمر إدارة بايدن في التمسك به كميزة أساسية لها عن إدارة ترامب.
وفي السياق، أشار المسؤول السابق في وزارة الخارجية الأميركية ولجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ، غريغوري أفتانديليان، أخيراً في 25/3/2023، إلى أن “حديث إدارة بايدن ضد قانون المستوطنات الإسرائيلي الجديد ينبع من إيمانها بأنه سيعمل على تأجيج الغضب الفلسطيني، وسيؤدّي إلى مزيد من “العنف” في الضفة الغربية المحتلة.
فيما قال السفير الأميركي لدى “إسرائيل”، توم نايدز، في كانون الثاني/ يناير الفائت، إن واشنطن تعارض التوسعات الاستيطانية الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية.
وأضاف نايدز لهيئة البث الإسرائيلية “كان”، إن رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو يعلم أن موقف إدارة بايدن يؤيّد إبقاء “رؤية حلّ الدولتين على قيد الحياة”، مؤكداً أن الإدارة الأميركية تعارض أيضاً “إضفاء الشرعية على البؤر الاستيطانية والتوسع الاستيطاني الهائل” للمستوطنات في أنحاء الضفة المحتلة.
وبعد أسابيع قليلة، كرّر السفير نايدز إدانته استمرار التوسع الاستيطاني الذي تنتهجه “إسرائيل”، مؤكداً عدم إمكانية الحديث عن حلّ الدولتين في ظل عدم احترام “إسرائيل” حق الفلسطينيين في تقرير المصير؛ وأضاف بغضب: “بصراحة، لا يمكننا القيام بأشياء غبيّة تعيقنا عن حلّ الدولتين. ما أعنيه هو أننا لا نستطيع أن نجعل الإسرائيليين ينفّذون نمواً في المستوطنات في القدس الشرقية أو الضفة الغربية”.
وقد دأب المسؤولون الأميركيون على تكرار لازمة إدانة إدارة بايدن لتوسيع المستوطنات طوال العامين الماضيين أيضاً، إذ أعلنت الخارجية الأميركية في أيار/ مايو 2022، رفضها خططاً إسرائيلية لتوسيع مستوطنات في الضفة الغربية، ورأت أنها “تضرّ بشدّة بإمكانية حلّ الدولتين” الذي تدعمه إدارة بايدن.
وفي نهاية شهر تشرين الأول/ أكتوبر من العام 2021، كُشف النقاب عن محادثة وصِفت بالمتوتّرة بين وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلنكين ووزير الحرب الإسرائيلي بني غانتس بعد الإعلان عن الموافقة على تخطيط وبناء 3000 وحدة استيطانية جديدة في مستوطنات الضفة الغربية.
ولا يبدو هذا الموقف الأميركي مرتبطاً بالرغبة في وقف الاستيطان أو تجميد بناء الوحدات التي تم الإعلان عنها، وإنما رغبة واضحة من إدارة بايدن في وضع محاذير وضوابط أمام الائتلاف الحكومي برئاسة نفتالي بينيت، عند الإعلان عن وحدات استيطانية جديدة في المستقبل، وفق تقديراتٍ إسرائيلية.
وقبل ذلك بشهرين، كان قد أعلِن أن الرئيس بايدن طلب من بينيت وقف الاستيطان في الضفة الغربية، لكن بما يُشبه التوصية التي لا تُلزم الاحتلال تطبيقها. وقالت القناة 20 العبرية إن بينيت وبايدن اتفقا خلال لقائهما في البيت الأبيض، على إبقاء مسألة البناء الاستيطاني في الضفة الغربية كما كانت في السابق، وأيضاً عدم السماح بالبناء هناك بشكل كبير.
عقم المراهنات على “المعارضة” الأميركية للاستيطان
تكشف قراءة ما بين السطور للمواقف الأميركية من استمرار الاستيطان الإسرائيلي وتوسّعه في عهد إدارة جو بايدن، مدى الخبث أو الاستخفاف الأميركي في التعاطي مع هذه القضية الخطيرة، التي تمسّ وجود الشعب الفلسطيني وبقاءه على أرضه التاريخية، وبالأخص في الأراضي المحتلة عام 1967، والتي أقرّت الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي بحقّه الكامل فيها (القراران 242 و338)؛ وكذلك فعلت “إسرائيل” نفسها من خلال اتفاق أوسلو وملحقاته، ولو بطريقة مواربة ومشروطة (مرحلة انتقالية وترتيبات أمنية..).
ومن أجل تكوين رؤية موضوعية حول المواقف الأميركية الأخيرة المُدينة لتوسيع حكومة نتنياهو المتطرفة للمستوطنات، من خلال إلغائها قانون فك الارتباط مع غزة والضفة الغربية، ومن دون التأثّر بالأساليب الدعائية والنفسية التي تمارسها الإدارة الأميركية وأذرعها الدبلوماسية والإعلامية، يجدر التوقف عند أبرز العوامل التي تصنع بالفعل السياسة الأميركية حيال المستوطنات الإسرائيلية تحديداً:
-أوّلاً: الولايات المتحدة الأميركية هي دولة مستوطنين قدِموا من بريطانيا ومن دول أوروبية أخرى، وأقاموا دولتهم على جماجم الشعوب الأصلية في القارّة الأميركية (الهنود الحمر) وشعوب أفريقية جرى جلبها بالقوّة للقيام بأعمال سُخرة مميتة ومهينة، كما يُثبت تاريخها المدوّن.
ففي العام 1565، تمّ تأسيس أول مستوطنة أوروبية دائمة في أميركا الشمالية. وفي القرنين الـ 17 والـ 18، جرى استعباد مئات الآلاف من الأفارقة ونقلهم إلى أميركا للعمل في مزارع القطن والتبغ. وفي القرن الـ 19، تم سحق مقاومة سكان أميركا الشمالية الأصليين. وبينما بلغ تدفّق سيل المهاجرين الأوروبيين مستوى هائلاً، توجّه كثير منهم غرباً.
وتتماثل دولة الاستيطان الأميركية مع كيان الاستيطان الإحلالي في فلسطين في عدة جوانب، كاعتماد أساليب العنف الممنهج والمجازر والحصار والتجويع والتهجير وتزوير التاريخ، من أجل فرض حقائق جديدة على الأرض، قد يستحيل تغييرها أو رفضها لاحقاً.
والمقصود هو القول إن المواقف الأميركية من سياسات الاستيطان الإسرائيلية، هي مواقف أيديولوجية واستراتيجية، وليست مجرّد مواقف عاطفية أو سياسية آنيّة، قد تتغيّر جذرياً في حال تغيّر الحزب الحاكم في الولايات المتحدة، أو إذا ما اقتضت بعض المصالح الأميركية في المنطقة ذلك.
-ثانياً: لقد تضاعف عدد المستوطنات وكذلك أعداد المستوطنين الصهاينة خلال العقود الماضية، وخاصة بعد توقيع اتفاقية أوسلو في العام 1993، والاتفاقيات التي تلتها، في ظل معارضة أو إدانة أميركية شكلية، من قِبل الإدارات الديمقراطية على وجه الخصوص، كما هي الحال في ظل إدارة الرئيس جو بايدن.
وحسب التقرير السنوي لهيئة مقاومة الجدار والاستيطان، الذي رصد النشاط الاستيطاني الإسرائيلي في الضفة الغربية والقدس المحتلة خلال العام 2022، فقد زاد الاستيطان بنسَبٍ غير مسبوقة منذ احتلال الضفة الغربية والقدس عام 1967.
وقد بلغ عدد المستوطنين في الضفة الغربية، بما فيها شرقي القدس، 726 ألفاً و427 مستوطناً، موزّعين على 176 مستوطنة، و186 بؤرة استيطانية (نواة مستوطنة)، أقيمت 10 منها خلال عام 2022، بالإضافة إلى بؤرتين تمّت شرعنتهما.
إذاً، الوقائع على الأرض تكشف أن إدارة بايدن لم تفعل شيئاً لوقف التوسع الاستيطاني في مختلف مناطق الضفة الغربية، والتي تسيطر “إسرائيل” على أكثر من 60 % منها (مثل تقليص المساعدات المالية والعسكرية الأميركية للكيان أو تجميدها، أو تخفيض مستوى العلاقات الدبلوماسية معه..). وبالتالي، لا تشكّل الإدانة الأميركية اللفظية للتوسّع العشوائي والمنظّم للمستوطنات في الفترة الأخيرة، تمايزاً عن مواقف إدارة دونالد ترامب، التي شرعنت كلّ المستوطنات في الضفة، وأطاحت القرارات الدولية بشأنها.
-ثالثاً: تنظر إدارة بايدن إلى قضية الاستيطان في الضفة الغربية بالمنظار الإسرائيلي حصراً، والذي يعدّها قضية وجود في مواجهة النمو الفلسطيني الديموغرافي الهائل، وتصاعد التهديدات والمخاطر الأمنية ذات البعد الاستراتيجي، الناتجة من تزايد عمليات المقاومة، داخل فلسطين، وتحديداً في الضفة، مع تنامي قدرات محور المقاومة في المنطقة، كمّاً ونوعاً، خلال السنوات الماضية.
وهذا الهاجس الأمني الوجودي، والذي يحاول مسؤولو إدارة بايدن تمويهه أو إخفاءه بتصريحات دبلوماسية، كشفت عنه مواقف عدة لوزير الخارجية في إدارة ترامب السابقة، مايك بومبيو، وتحديداً قبل انتهاء ولاية إدارته (في تشرين الثاني/ نوفمبر 2020)، بعدما زار مستوطنات إسرائيلية في الضفة الغربية وفي الجولان السوري المحتل، مؤكداً شرعيتها، وتفعيل العلاقات الاقتصادية معها، كما ضرورتها الأمنية الاستراتيجية لـ “إسرائيل” والولايات المتحدة معاً.
خلاصة
ختاماً، فإن وقائع “الأزمة” الأخيرة بين إدارة بايدن وحكومة نتنياهو اليمينية المتطرفة حول الانقسامات الداخلية في كيان الاستيطان الإحلالي، تكشف، وبلا أي لُبس، أن الطرفين لم يختلفا حول قضايا جوهرية تتعلق بعملية التسوية في المنطقة وتطبيق القرارات الدولية ذات الصلة، وخاصة في ما يتعلق بالمستوطنات التي تكاد تبتلع الضفة الغربية.
إن مصدر الخلاف الأخير هو القلق الأميركي من انفلات الأوضاع داخل الكيان، وسيطرة القوى الدينية المتطرفة على النظام السياسي فيه، والتي يمثّلها حالياً كلٌ من وزير الأمن الداخلي إيتمار بن غفير، رئيس حزب العَظَمة اليهودية، ووزير المالية بتسلئيل سموتريتش، رئيس حزب الصهيونية الدينية، ما قد يُعرقل السياسات الأميركية تجاه فلسطين وعملية التسوية وقضايا المنطقة، والتي لا تزال تتمتع بأهمية فائقة بالنسبة إلى إدارة بايدن، سواء من ناحية مخزوناتها النفطية والغازية الهائلة، أو من ناحية مواجهة صعود محور المقاومة المذهل في المنطقة، والذي بات يهدّد القوّات والمصالح الأميركية بشكل جديّ وحاسم، وفي طليعتها الأداة الأفعل لحفظ تلك المصالح وحمايتها بكلّ الوسائل الدنيئة، أي الكيان الاستيطاني العنصري في فلسطين المحتلة.