حقيقة الإحتلال الروسي – الإيراني لسوريا.. ماذا عن مصادرة العقول؟
موقع العهد الإخباري-
إيهاب زكي:
هناك بعض جوانب الحروب، تناولها يشبه المشي في حقل ألغام، وهي قابلة للإنفجار بمجرد الإقتراب، حتى قبل التماس المباشر واللمس. وغالباً ما يعود ذلك لما يبدو أنّه تناقض القناعات مع الواقع، أو تعارض سياقات الأحداث مع مثالية الطرح، أو مثلاً لرسوخ فكرةٍ في عقل الجماهير، تجعل كل ما عداها شاذاً ومستنكراً.
لذلك فإنّ خوض أحد هذه الجوانب، بشروط الوقائع أو السياقات أو الأفكار الراسخة، هو أول نُذر الفشل في إيضاح الفكرة، وثاني تلك النُذر هو اعتماد استراتيجية التبرير والتماس الأعذار، وهو ما يشكل اعترافاً بارتكاب الجريمة، وبالتالي هو تسليمٌ بتلك الشروط.
وعليه، فإنّ التناول لتلك الجوانب، يجب أن يبدأ أولاً من حيث إبراز الحقائق الصلبة، وتجلية النتائج الناجزة أو اليقينية لا المتخيلة، وتعرية كل الأكاذيب المتنكرة برداء المُسلّمات، وكل الاستنتاجات الساذجة، المتنكرة بلباس البديهيات.
وأولى تلك الأكاذيب، والتي تنطلق منها كل الموبقات، هي أنّ سوريا دولة محتلة روسياً وإيرانياً، وهناك كذبةٌ متصلة تبدو حقائقها صلبة، وهي أنّ الجغرافيا السورية تخضع لنفوذ خمس دول، وهي روسيا وإيران وأمريكا وتركيا وبريطانيا، وبالتالي نكون أمام حربٍ بالوكالة، على جغرافيا مستباحة.
وكذلك هناك أكاذيب من نوعٍ مختلف، تستهدف الانتماء الجماهيري كما تستهدف الوعي الشعبي، مثل الصراع الروسي الإيراني على تبعية “النظام”، أو التآمر الروسي على الوجود الإيراني مع “إسرائيل”، أو أنّ العداء “الإسرائيلي” ليس مع “النظام” وليس مع سوريا بل مع إيران، أو أنّ روسيا تسمح لـ”إسرائيل” بالعدوان على سوريا، ويتم تقديم الأمر في إطار رضوخ الدولة للمصالح الروسية وتبعيتها، ولو على حساب الكرامة الوطنية.
ولكن بالعودة للحقائق الصلبة، لن نحتاج حتى لتكبد عناء تفنيد تلك الأكاذيب، لأنّها ستبدو هشةً دون الحاجة لجهد الهدم. وأولى تلك الحقائق أنّ سوريا دولة منتصرة، وهي دولة منتصرة بالمعنى الاستراتيجي للكلمة، وهي تخوض حرباً تكتيكية لإنجاز الهدوء التام محلياً، وهذا التكتيك ميدانياً وسياسياً يتطلب الإحجام أحياناً كما الإقدام، كما يتطلب تحديد الأولويات، فالترك لا يعني الإهمال، والتأجيل لا يعني النسيان.
أمّا الحقيقة الثانية، فهي أنّ سوريا دولة ذات سيادة، وهي دولة ذات قرارٍ مستقل، وهي خاضت حرباً كونية للحفاظ على سيادتها وقرارها، ولم تخض معركة بكل هذه الأثمان، لأنّها تريد تأجير قرارها للروسي حصراً وليس للأمريكي، أو للإيراني وليس للروسي، وكل ما يُقال عن التبعية والرضوخ والانقياد، هو مجرد أكاذيب يتم تكرارها لتصبح مسلمات، ثم يتم البناء عليها لاستنتاج أكاذيب جديدة وتوهماتٍ جديدة.
وهناك حقائق بديهية، ولكنها لتراكم الكمّ الهائل من الأكاذيب، أصبحت بحاجة إلى إعادة تأكيدٍ على بديهيتها، وهي مثلاً حقيقة أنّ روسيا وإيران وسوريا في خندقٍ واحد، وتخوض حرباً واحدة، وبالتالي يصبح تنسيق المواقف سياسياً، والتوافق الميداني بديهياً بل أكثر من بديهي، وهذه طبيعة الأشياء ومنطقها، أمّا التبعية فتصبح خارج كل منطق.
وحقيقة بديهية أخرى، أنّ روسيا ليست طرفاً في محور المقاومة، وبوتين ليس على أجندته الاستراتيجية إزالة “إسرائيل” من الوجود، كما أنّ روسيا قوة دولية، تختلف مطامحها وسياساتها بحكم موقعها، عن السياسة السورية وكذلك عن السياسة الإيرانية، فهي لا تطرح نفسها كقوة مواجهة كما إيران.
وفي هذا السياق نذكر جميعاً ما أُطلق عليه ليلة الصواريخ، حيث انطلقت الصواريخ السورية لتدك الجولان المحتل من الأراضي السورية، ومن تحت أنف القواعد الروسية، كما نذكر ما قالت عنه “إسرائيل” إنه انزلاق صاروخ سوري نحو ديمونا، وكذلك من الأراضي السورية، ومن تحت أنف القواعد الروسية، وعبارة “من تحت أنف”، خارج السياق، لأنّها ليست موجهة للعقلاء الذين يعرفون البديهيات، بل لمن تراكمت في رأسه الأكاذيب، حدّ اعتقاده أنّ روسيا تقرر طبيعة العداء السوري لـ”إسرائيل”، أو حدّ الاعتقاد أنّ الدولة السورية مقتنعة بأنّ العداء”الإسرائيلي” لسوريا، هو فقط لمجرد الوجود الإيراني.
كما يجب أن نتساءل هنا عن بديهية أخرى، وهي أنّ السيد حسن نصر الله حين أعلن عن حربٍ إقليمية، هل كان في ذهنه استثناء الجبهة السورية، حيث إنّه يعتقد جازماً بخضوعها لقرارٍ روسي، والبديهي أنّه لا يقصد بالحرب الإقليمية حرباً “إسرائيلية” – لبنانية، أو حربًا على جبهتي لبنان وغزة وحتى اليمن، لا حربٌ إقليمية بلا سوريا أو إيران أو كلاهما، وإلّا لا تكون حرباً إقليمية.
والحقيقة أنّ هناك بديهية ما كان يتصور أحدٌ أنّها بحاجة إلى استدلال، ولكن في زمن طرح الأكاذيب بوقاحةٍ متناهية، يصبح الأمر طبيعياً، وهي أنّ سوريا في حالة حربٍ مع العدو “الإسرائيلي”، وهذه الحرب الكونية على سوريا هي حرب “إسرائيل” بالدرجة الأولى، وأنّ الكيان الصهيوني هو كيان عدو بالنسبة لسوريا شعباً وحكومة وقيادة، لذلك حين طرح الغارات “الإسرائيلية” خارج هذا السياق، تبدو مؤامرة روسية.
ولكن بما أنّ سوريا دولة تحدد أولوياتها، وتعرف أنّ جبهة الجولان ستُفتح يوماً، ولكن بقرارها وشروطها لا شروط “إسرائيل” ولا قرارها ولا توقيتها، ولا حتى بالتوقيت الروسي، وهي دولة تدرك أنّ تطهير الجغرافيا السورية من الإرهاب، وإخماد سُعار الحرب داخلها، هو هزيمة”إسرائيلية” أولاً، وليس هزيمة للإرهاب فقط، لأنّه مجرد أداةٍ أمريكية “إسرائيلية”، كما تعرف يقيناً أنّ الغارات “الإسرائيلية” في إطار ما يسمى معركة بين الحروب، لا نتائج سياسية أو ميدانية لها على الإطلاق، وهي لست قادرة على تغيير قواعد اللعبة في سوريا.
أمّا خضوع الجغرافيا السورية لدولٍ خمس، فتبدو حقيقة متهالكة، حيث إنّ هذا التواجد العسكري لدول الاحتلال خصوصاً، أمريكا بريطانيا وتركيا، لا ينتج مفعولاً سياسياً، ولا يدفع بالدولة السورية إلى تقديم تنازلات سياسية أو جغرافية، وهذا ما يجعل هذا الوجود عكسي المفعول، حيث تصبح تلك القواعد بمثابة الإصبع تحت الضرس السوري وقوى المقاومة، متى قرروا أنّ اللعبة انتهت، وقتما توفرت البيئة المناسبة لذلك القرار، ولنقارن فعالية كل تلك القواعد والتواجد العسكري، بعدم قدرته على حذف أو إضافة مادة إلى الدستور السوري ومنه، مع فعاليتها في تغيير المواقف أو القرار السوري.
إنّ النصر السوري ليس نصراً محلياً، إنّه انتصار يؤدي وسيؤدي لتغيير الخرائط الدولية، لذلك ليس من السهل إدارة انهيار إمبراطوريات وصعود أخرى، ومن السذاجة قياس الأمر بغارةٍ هنا وقاعدة هناك.