حقائق أفرزتها الإنتخابات.. حسم الأكثريّة النيابيّة و«تشريع» النظام الطائفيّ
جريدة البناء اللبنانية-
محمد حميّة:
تكتسب الانتخابات النيابية أهمية إضافية لكونها جاءت بعد أكثر من عامين قاسيين تخللتهما عاصفة أحداث متلاحقة ضربت لبنان منذ اندلاع شرارة الأحداث في 17 تشرين 2019، إلى انفجار مرفأ بيروت في 4 آب، وما بينهما من انهيارات اقتصادية ومالية واجتماعية متتالية، وحوادث أمنية مفجعة وضعت البلاد على فوهة الفتنة الأهلية والفوضى الاجتماعية والانفجار الأمني الكبير.
وامتلأت الشاشات والساحات وقتذاك بفائض من الندوات والتصريحات والحلقات الحوارية والتي عرضت النقاشات والطروحات حول ملفات وعناوين عدة، سياسية واقتصادية وأمنيّة تتعلق بمستقبل البلاد والعباد.
وولّدت هذه الأحداث موجة غضب شعبيّ ورأي عام وازن تظهّر خلال المشاركة «المليونيّة» في الأيام الأولى للاحتجاجات الشعبية «التشرينية»، إذ حاولت قوى عدة أطلقت على نفسها «قوى التغيير» و»المجتمع المدني» ركوب الموجة الشعبية واستغلالها لمآرب سياسيّة في المواجهة مع أحزاب السلطة والطبقة السياسية الحاكمة آنذاك، وكذلك صرفها في الحرب على حزب الله وحلفائه.
ورفعت هذه القوى عناوين فضفاضة براقة جذبت الكثير من الرأي العام، كإسقاط النظام السياسي الطائفي والأحزاب الفاسدة في الشارع والطعن بشرعية وشعبية الأحزاب السياسية القائمة، والتسويق لنظرية أن اللبنانيين بلغوا سن الرشد السياسي والوعي الوطني للانتقال من مرحلة دولة الطوائف و»اللادولة» الى حقبة الدولة المدنية و»اللاطائفية»، ودعوا إلى توحيد الساحات وخلع الرداء الطائفي ونبذ تمجيد وتأبيد الزعماء وفق «شعار كلن يعني كلن» والتوحد خلف الشعارات المدنية والوطنية. وقد أثبتت الأرقام طغيان التصويت الطائفي والمذهبي، ما «يُشرّع» النظام السياسي – الطائفي القائم حتى إشعار آخر في ظل قانون الانتخاب الحالي الذي شوّه النسبية بحصرية التصويت وفق القضاء لا الدائرة.
فيما رفع آخرون عناوين خلافية تتماهى مع المطالب والشروط الدولية كسلاح حزب الله وبسط سلطة الدولة على أراضيها، وجرى التسويق أيضاً لواقع أن الأغلب الأعم من اللبنانيين يؤيدون قوى التغيير وينتفضون على زعماء طوائفهم ومذاهبهم وسياسييهم.
وانسحب الانقسام بين قوى التغيير وقوى وأحزاب السلطة، على الشارع نفسه الذي تحول إلى شوارع متقابلة ومتناحرة تفصل بينها خطوط التماس السياسية والمذهبية والطائفية.
أما العنوان الذي اجتمعت حوله تجمّعات «القوى المدنية والتغييرية» وتماهت معه أحزاب في السلطة نفضت يدها من المسؤولية ورمت بنفسها من «قارب» إنقاذ الوطن في تشرين 2019، هو الدعوة إلى انتخابات نيابية مبكرة علّ ذلك يترجم الغضب الشعبي ضد السلطة وفق توقع «التغييريين».
أما وقد جرت الانتخابات بنسبة عالية من النزاهة والحرية والديمقراطية وفق شهادة منظمات دولية وبعدما وضعت «الحرب الانتخابية» أوزارها، فيمكن استخلاص العبر والحقائق التالية:
– حسم الجدل العقيم الذي شهدته الساحات حول شرعية تمثيل الأحزاب وقوى السلطة.. فقد أثبتت النتائج أن الأحزاب السياسية القائمة نالت الغالبية العظمى من الأصوات، مقابل أقلية لقوى التغيير، مع الإشارة الى أنها لم تتأطر في كتلة نيابية واحدة حتى الساعة، في ظل تنوّع الخلفيات التي تتأتى منها والأفكار التي تطلقها. ولذلك لم يعد مقبولاً بعد الآن لمنظري «التغيير» الحديث عن شرعيّة الأحزاب وقوى السلطة.
– سقوط نظرية رئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع بـ»انزياح» الشارع المسيحي لصالح «القوات» على حساب التيار الوطني الحر، فأتت النتائج لتبدد ثقته بقدرته على نيل الأكثرية المسيحية والأكثرية النيابية مع الدعم السعودي والإقصاء السياسي والانتخابي للرئيس سعد الحريري، فلم تستطع «القوات» نيل سوى 18 نائباً رغم ضخامة الدعم الذي تلقته، فيما بقيت الأكثرية مع تحالف المقاومة والتيار الوطني الحر.
– تصدع خطة نائب وزير الخارجية الأميركية السابق مايك بومبيو التي بدأ تنفيذها في آب الـ2019، لتسريع الانهيار المالي والاقتصادي (كما كشف ديفيد شينكر قبل أيام)، وتعميم الفوضى وتفجير الوضع الاجتماعي والأمني لـ»قلب طاولة البلد» على رأس حزب الله لتطويعه وليّ ذراع بالحرب الاقتصادية والحصار المالي والسياسي وحرب الدولار لتأليب بيئته الحاضنة عليه.
– سقوط الرهان على نظريّة تقليم أظافر حزب الله أو «قص أجنحته» بنزع الشرعية الوطنية والمسيحية تحديداً عنه عبر إسقاط حلفائه من حركة أمل والتيار الوطني الحر وتيار المردة والقوى السنية الداعمة للمقاومة.
– فشل الرهان على حصد أكثرية نيابية لتظهير أكثرية شعبية لإبراز صورة أن بيئة حزب الله الشيعية والوطنية تحمله مسؤولية تردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية بسبب سلاحه وتدخله في سورية وساحات أخرى، إذ تمكن الحزب و»الثنائي» عموماً من الحفاظ على شعبيته وشرعيته في الوسط الشيعي بحصد كامل المقاعد الشيعية.
– سقوط الرهان على أخذ الطائفة السنية إلى خيارات المواجهة الطائفية بعد إقصاء ممثلها الأقوى والذي يمثل خط الاعتدال سعد الحريري، وقد أثبتت نسب الاقتراع لا سيما في دوائر الشمال مقاطعة سنية فاقعة، وبالتالي استطاع الحريري أن يبقى الزعيم الصامت للطائفة السنية.
– فشل السعودية باستيلاد كتلة سنية برئاسة الرئيس فؤاد السنيورة لتشكل رأس حربة لمواجهة حزب الله في المجلس النيابي الجديد، بعد خسارة مرشح السنيورة الوزير السابق خالد قباني. كما فشل السنيورة بوراثة الحريري بزعامة السنة.
– وضع حد نهائي لمسألة قطع الطرقات وديكتاتورية «الثورة»، فبعد تمثيل «قوى التغيير» في المجلس النيابي، بات لزاماً عليها ممارسة المعارضة من داخل المجلس والمؤسسات وليس في الشارع، وبالتالي عليها التبرؤ من «قطاع الطرق»، وعدم استخدامهم في الصراع مع السلطة وفي الحصار الخارجي للبنان.
– نهاية عهد حكومات «التكنوقراط» التي سوّق لها المجتمع المدني وخاض لأجلها المجتمع الدولي معارك لفرضها على لبنان في الحكومتين الماضيتين (حسان دياب ونجيب ميقاتي). وبالتالي أي حكومة جديدة لن تولد إلا بتمثيل واضح للكتل النيابية.
– سقوط منطق تشكيك المجتمع الدوليّ بالأحزاب السياسية وقوى السلطة واتهامها بمصادرة السلطة وقرار المواطنين، والتذرع بحصار لبنان بهدف الضغط على الطبقة السياسية لوقف فسادها، وبالتالي على هذا المجتمع الدولي وقف حصاره على لبنان والتعاون مع المجلس النيابي ومع أية حكومة يفرزها المجلس ورئيس جمهورية، وفي حال لم يوقف حصاره، فيصبح من حق الدولة اللبنانية والقوى الوطنية بالحد الأدنى البحث بشكل جدي عن خيارات اقتصادية ومالية لمواجهة الحصار الأميركي – الخليجي، كالتوجه شرقاً في ملفات الكهرباء والنفط.