حصراً في المحكمة الدولية فقط: “المتهم مدان قبل محاكمته”!
موقع إنباء الإخباري ـ
محمد كسرواني:
لم تعد المقاومة اللبنانية تستغرب أي قرار اتهامي جديد تتخذه المحكمة الدولية الخاصة بلبنان بحقها.
فبعد القرار الاتهامي بحق 4 مقاومين، صدّقت المحكمة قراراً جديداً بحق حسن حبيب مرعي، متهمةً الجميع بالتورّط في اغتيال الرئيس رفيق الحريري.
قرارات المحكمة تلك وغيرها تكشف خلفياتها المحاكمات السابقة التي دانت رؤساء ومواطنين اثبتوا للمحكمة براءتهم. إلا أن المشروع السياسي لممولي المحكمة ومن يقف وراءها مستعدّ لأن ينسف كل “المصداقية” و”العدالة” في المحاكمات ويصوغ قراراً يتماشى معه.
فالمحاكم الدولية تعيدنا بالذاكرة إلى محاكمات “نورنبيرغ” التي تناولت المحاكمات في فترتها الأولى، مجرمي حرب القيادة النازية بعد سقوط الرايخ الثالث، وفي الفترة الثانية، تمّت محاكمة الأطباء الذين أجروا التجارب الطبية على البشر. فخلفيات جلسات المحاكم الدولية لا تختلف كثيراً عن جلسات “نورنبيرغ” العسكرية التي كانت دون محامين ودون شهود بل كان هدفها إدانة المتهم وتنفيذ أسرع عقوبة بحقه.
أول دلائل تسييس المحكمة وغياب عدالتها قضيةُ سلوبودان ميلوسيفيتش، رئيس صربيا ويوغوسلافيا من الفترة بين 1989 و 2000. خلال هجوم قوات حلف شمال الاطلسي “ناتو” على يوغوسلافيا تحت عملية عسكرية سميت بـ “عملية ملاك الرحمة”، لإجباره على وقف “المجازر بحق الالبان” التي حسمت القوى الغربية أنه ارتكبها، اتهم بجرائم ضد الإنسانية من طرف المحكمة الجنائية الدولية ليوغسلافيا السابقة.
مثل الرئيس ميلوسيفيتش عام 2001 أمام المحكمة الدولية في لاهاي، ومكث سنوات متنقلاً بين السجن والمحكمة والمستشفى، وكان في كل جلسة من جلسات المحاكمة يسخر من قضاته ولا يعترف بشرعية المحكمة، ويرفض توكيل محام عنه، إلى أن توفي في الحادي عشر من آذار/مارس عام 2006، فقد عثر عليه ميتاً في مركز الاعتقال الذي كان محتجزاً فيه في لاهاي.
عشرات الشهود قابلهم رئيس صربيا السابق، وعشرات المرات اضطرت المحكمة لأن تلفق التهم وتتستر على الشهود لتوريط ميلوشيفيتش، ولا نقول هذا دفاعاً عنه بل توضيحاً لسياسة المحكمة الدولية مع من يخالف مشاريعها. ففي مطلع العام 2003 استدعي الى المحكمة في لاهاي النقيب دراغان فاسيلكوفيتش الذي كان الضابط المسؤول عن الوحدات العسكرية الصربية التي اقتحمت منطقة كرايينا الكرواتية حيث ارتُكبت جرائم ابادة. وكان هدف الادعاء الحصول على اعتراف بأنه ارتكب هذه الجرائم بأمر من الرئيس ميلوسيفيتش.
روى فاسيلكوفيتش بعد ادلائه بإفادته أمام المحكمة الدولية في لاهاي: “اتصلوا بي من مكتب المدعي العام يوم اعتقال ميلوسيفيتش وسألوني اذا كنت مستعداً للمساعدة في سوق بعض مجرمي الحرب الى المحكمة”. وبعد تبرير المساعدة التي قدمها إلى الادعاء قال: “عليّ ان اعترف بأنني كنت قد خططت لاغتيال ميلوسيفيتش”.
وأضاف: “كنت جالساً مقابل رجل أردت مشاهدته ميتاً”. وعن علاقته بالادعاء قال: “اعطوني ورقة كتب عليها أن كلّ ما أقوله لا يمكن أن يستخدم ضدّي، لكن قلت لنفسي ماذا لو كنت جزّاراً وقلت أنا مجرم حرب وقتلت العديد ولا أدلة على ذلك لأنني أخفيتها ودفنتها بناءً على أوامره (أوامر ميلوسيفيتش) عندها لا يمكنهم استخدام ذلك ضدّي ولكن سيستخدمون افادتي دليلاً ضدّ ميلوسيفيتش”.
ولأجل تلفيق المحاكمات وتسييسها استدعت المحكمة “الشاهد المقنّع K41” يوم 6 أيلول 2002 فقدم إفادته عبر الفيديو من مدينة بانيالوكا البوسنية. وادعى أنه لا يستطيع النوم منذ مشاركته بقتل 15 مدنياً خلال الحرب، وادعى انه يشهد ضدّ ميلوسيفيتش بسبب ذلك. وعندما سأله ميلوسيفيتش عن سبب عدم حضوره الى مقر المحكمة في لاهاي، وما اذا كانت لديه مشاكل في أوراق السفر انقطع الاتصال. وقبل عودة الاتصال ناشد المدعي العام القاضي “حماية الشاهد” عبر حذف هذا السؤال فوافق القاضي ماي.
قصة ميلوسيفيتش مع المحكمة لم تقف عند هذا الحد، فالمحكمة استدعت شاهداً آخر يدعى سلوبودان لازاريفيتش الذي استند المدعي العام الدولي إلى أقواله، من بين أقوال آخرين، لاتهام ميلوسيفيتش بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضدّ الانسانية. وأُحضر لازاريفيتش الى قاعة المحكمة في لاهاي يوم 19 شباط 2003 مدّعياً انه ضابط استخبارات صربي رفيع المستوى بينما نفى ميلوسيفيتش ذلك، مؤكداً أنه منتحل صفة.
وخلال المحاكمة حاجج ميلوسيفيتش الشاهد عن شخص يلقب “بييو” كان قد وصفه الأخير في الإفادة الخطية بأنه أشقر ويبلغ 40 سنة وكان رجلاً طيباً. واضاف الرئيس المتهم “إن كنت تعرفه فإنه حصل على لقبه بسبب سواد شعره وسمار وجهه، فهو لم يكن أشقر على الاطلاق وانت لم تره في حياتك. انت أكّدت على وصفه كذلك بينما هو أسمر. أنت سمعت به ولا تعرفه”.
كل هذه المحاكمات وغيرها كانت كافيةً لتؤكد أن المحكمة الدولية مسيّسة ولا تحمل من العدالة والديمقراطية شيئاً. فبعد معارك يوغوسلافيا انهارت الدولة وانقسمت إلى عدة دول مستقلة، ثم كان إعلان الاستقلال الأحادي الجانب من قبل ألبان كوسوفو، وهو استقلال دعمه عدد من القوى الغربية التي شاركت في عمليات “الناتو” عام 1999 ورفضته بلغراد بصورة قاطعة.
وتوسع نشاط حلف الناتو بصورة دلّت على أن هدف العملية العسكرية تجاوز ما تم الإعلان عنه. وما حدث خلال عمليات “الناتو” التي استمرت 78 يوماً لا يزال محل نقاش وبحث، إذ ان هناك شبهات باستخدام قوات حلف الأطلسي أسلحة محرّمة دوليا أصابت عدداً من المواطنين بأمراض تنتج عادة عن استخدام اليورانيوم والأسلحة الكيميائية.
والجدير بالذكر أن ميلوسيفيتش لم يمت في لاهاي بل “قُتل هناك”، حسبما قاله رئيس الوزراء الصربي ايفيكا داتشيتش. الرئيس اليوغوسلافي السابق مات صباح 11 آذار 2006 في سجن سخفنينغن، حيث كان سجيناً في الجناح الخاص بالمحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة. وقد وصل عدد الشهود الذين سعى الادعاء العام إلى الاستناد إلى افاداتهم لإدانة ميلوسيفيتش إلى اكثر من 100 حتى وفاته، لكن أياً منهم لم يتمكن من اثبات أنه أمر قواته بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضدّ الانسانية .
وكانت المحكمة رفضت طلباً تقدم به ميلوسيفيتش، قبل أيام من وفاته، للحصول على علاج طبي متخصص في عيادة خاصة بأمراض القلب في روسيا. وأكدت تقارير أطباء أسبان وروس وصرب أن موته جاء نتيجة حرمانه العلاج الطبي المناسب. وفي رسالة وجّهها إلى وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف قبل وفاته بأيام قليلة، عزا ميلوسيفيتش سبب رفض المحكمة علاجه بواسطة أطباء روس إلى خشيتها من انكشاف “الخطوات المتخذة لتدمير صحتي”. وأرفق بالرسالة تقريراً مخبرياً يشير إلى أن اطباء المحكمة كانوا يزودون ميلوسيفيتش بأدوية لعلاجه من الـ “توبركولوز” بينما لم يكن مصاباً به.
ثاني الدلائل على “لا موضوعية” المحكمة هو صورة ضمن الاطار لوكالة “آي تي ان” نشرت في العام 1992 على غلاف المجلة الأمريكية الأسبوعية “تايم” بعنوان “سجناء مسلمون في سجون الصرب”. وكانت هذه الصورة دليلاً كافياً لإقناع العالم بوجوب إدانة ميلوسيفيتش وآخرين بارتكاب جرائم ضدّ الانسانية. غير أن الخبير الالماني توماس دايكمان تمكن من الكشف عن أن هذه الصورة هي بالحقيقة مفبركة، والاشخاص فيها يعانون من مرض “توبركولوز” منذ صغرهم وأنهم لم يكونوا في معتقل صربي.
دليل ثالث على ألاعيب المحكمة والأهداف الحقيقية التي تسعى له،ا كشفها التحقيق مع السياسي الصربي والشاعر والطبيب النفسي رادوفان كاراديتش المتهم بجرائم حرب ارتكبت خلال حرب البوسنة والهرسك. وبالرغم من أن محكمة الجزاء الخاصة بيوغوسلافيا سابقاً برأت الزعيم السـياسي السابق من تهم الإبادة، إلاّ أن المحكمة الدولية أصرت على إتهامه بمجزرة سريبرينيتشا، وتسع تهم أخرى بجرائم ضد الإنسانية.
وخلال إحدى محاكماته يوضح ردوفان كاراديتش حقيقة عمل المحكمة الدولية بالقول: “يبدو أن التهمة جاءت نتيجة اتفاق بين المحكمة وبين أعدائنا الذين حاربناهم، أو كأن هذه المحكمة كما يحلو لنا أن نقول من دون أي مزاح، يسعى المدّعي العام إلى تحويلها إلى مجلس تأديبي ترأسه منظمة حلف شمال الأطلسي”.
كثيرة هي المحاكمات الجائرة والقرارات غير العادلة التي تتخذها المحكمة الدولية بحق المتهمين. وإن ظهر بعضها أنه إنساني إلا أنه في واقع الحال يكون الحكم متوافقاً مع سياسية الأمم المتحدة ومجلس الأمن والأهم سياسة الولايات المتحدة الأميركية في المنطقة. فكيف للمحكمة أن تحكم بقرار لا يتوافق مع سياسات هؤلاء، وميزانيتها جزء من ميزانية الامم المتحدة؟
وإن تساءل البعض عن سبب ارتفاع ميزانية المحكمة، فعليه أن يدرك أن الأخيرة تدفع الكثير لحسن سير أعمالها. فالمحكمة تؤمن خدمات ومبالغ من المال لتغطية نفقات “الشهود”. فبالإضافة إلى كلفة السفر إلى مقرّها في لاهاي، تغطي المحكمة الدولية كلّ نفقات عائلة “الشاهد” خلال السفر. وتغطي المحكمة الدولية كلفة الطعام والإقامة والنقليات والملبس. وتتيح المحاكم الدولية لكل شاهد اصطحاب شخص واحد معه تغطي كامل نفقاته وتقدم لهم خدمات طبية، ما قد يجعل أي شخص يرغب بأن يكون شاهداً لتحسين وضعه الإقتصادي.
هذا الرخاء لا يعني أن المحكمة غنية و”تحتار أين تصرف أموالها”، بل انها مستعدة لتقدم أي شيء للإيقاع بشهود يدعمون من تريد إدانتهم وتعطيهم المجال للثأر من خصومهم السياسيين. فمن محفزات المحكمة الدولية للشهود استسهال المحاكمات، فلا تجمع المتهم والشاهد وجهاً لوجه. وهذا كله تحت شعار “حماية ماء وجه الشاهد والدفاع عنه”.
وإذا قصر على المحكمة الاستعانة بشهود حضروا لدعم مواقفها، فإنها تؤمن للمجرمين إذا شهدوا ضد من تريد إدانتهم حمايةً قضائية. فعلى كل مجرم أو هارب من العدالة، إن أحب أن ينجو بفعلته، أن يتعامل مع المحكمة ويدخل في برنامج حماية الشهود، ما يحصنه من الملاحقة القضائية في قضايا جنائية أخرى.
وعندما تتكلم عن المحكمة الدولية لا يمكنك أن تتجاهل المحكمة الخاصة بلبنان والتي خصصت للتحقيق في قضية اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري في 14 شباط/فبراير 2005. وقد أنشئت المحكمة بناء على طلب قدمته الحكومة اللبنانية البتراء إلى الأمم المتحدة، وافتُتحت في 1 آذار/مارس 2009.
إخفاقات هذه المحكمة كثيرة، بدءاً من فضيحة شهود الزور وعلى رأسهم “محمد زهير الصديق”، ضابط المخابرات السورية السابق والذي يعرف بـ”الشاهد الملك”. وكان الصديق قد أصر على الاتهامات السابقة التي وجهها إلى النظام الأمني السوري خلال العام 2005 باغتيال الحريري. الصديق الشاهد “الغامض” بات موقع شبهة مؤخراً خصوصاً بعدما كشف إرتباطه بالمحكمة وأنه شهد زوراً ضد سوريا. فبعيد تنقله من بلد الى بلد، حماية لأمنه ونفسه، حسبما يقول، أقر الصديق سابقاً بأنه دخل الإمارات بجواز سفر تشيكي مزور كاشفاً عن أنه حصل عليه من مكتب الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي عندما كان الأخير وزيراً للداخلية. كل هذه التصريحات والاعترافات تؤكد أن الصديق وغيره من شهود الزور يعملون تحت إمرة المخابرات الدولية، والمصالح الأميركية في المنطقة.
يذكر أن قناة “الجديد” كشفت في تقرير خاص وقائع جلسة بين شاهد الزور محمد زهير الصديق ورئيس الحكومة السابق سعد الحريري ورئيس جهاز شعبة المعلومات السابق وسام الحسن ومساعد المحقق الدولي غيرهالد ليمان اثناء فترة التفجيرات التي كانت تحصل في لبنان بعد اغتيال الرئيس الحريري. ويبدو في الجلسة أن زهير الصديق كان على تواصل مسبق مع الحريري وقد بدا تعامل الصديق في الجلسة حميماً.
إخفاق آخر لهذه المحكمة في لبنان هو اعتقال أربعة ضباط لبنانين لمدة قاربت 4 سنوات بقضية اغتيال الحريري، لتفرج عنهم بعد ذلك تحت عنوان “عدم كفاية الأدلة”. في حين الكل يعرف أن الاعتقال كان سياسياً وذلك للعلاقة الجيدة التي كانت بين هؤلاء الأربعة والحكومة السورية. والضباط الأربعة هم مدير الأمن العام اللواء جميل السيد وقائد قوى الأمن الداخلي اللواء علي الحاج ومدير الاستخبارات العسكرية العميد ريمون عازار، وقائد الحرس الجمهوري العميد مصطفى حمدان.
من الواضح إذاً ان كل ما تفعله المحكمة ليس “عدلاً” بل هو تلفيق لتهم وقضايا تخدم مصالح مجلس الأمن والأمم المتحدة والولايات المتحدة الأميركية و”إسرائيل”. وبينما كانت القوى اللبنانية، وعلى رأسهم قوى “14 آذار”، تنتظر القرار الاتهامي في قضية اغتيال الحريري، لم تتفاجأ المقاومة بمؤامرة صهيونية جديدة في اتهام 4 من كوادرها. ومنذ ذلك الحين “تطبل وتزمر” قوى “14 آذار” لتسليم هؤلاء المقاومين إلى “يد الطاغوت”.
واستكمالاً للحرب الصهيونية على المقاومة، أعلنت المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، أن قاضي الإجراءات التمهيدية صدّق قرار اتّهام بحقّ عنصر في حزب الله يدعى حسن حبيب مرعي بالتورّط في اغتيال الحريري، لينضم بذلك إلى لائحة المتهمين الأربعة. وأُرسلت المحكمة إلى السلطات اللبنانية قرار الاتهام المصدّق ومذكرة توقيف بصفة سريّة في 6 آب، لتتمكّن هذه السلطات من البحث عن المتّهم، وتوقيفه، ونقله إلى عهدة المحكمة. فماذا كانت تنتظر المقاومة من محكمة اميركية مسيّسة غير هذا القرار؟
من هنا، بات من الواضح جداً أن المحكمة الدولية لا تحمل من مفهوم “المحكمة العادلة” شيئاً، وإنما هدفها إدانة من تشاء وحماية من تشاء، كما يشاء مخطط أميركا و”إسرائيل” السياسي. وما دمت مقاوماً أو عدواً “لإسرائيل” فربما تتهم يوماً أيضاً بجرائم ضد الإنسانية بغية سوقك إلى المحكمة، فالمعادلة عند المحكمة واضحة ” إما معنا … أو مدان”.