حصاد “إسرائيل” المر
صحيفة الخليج الإماراتية ـ
خليل حسين:
من هزيمة إلى هزيمة، تلك هي صورة “إسرائيل”، فخلال ثمانية أيام من العدوان على غزة لم تتمكن من تغيير قواعد اللعبة السياسية والعسكرية مع الفلسطينيين، وإذا كانت الأهداف المعلنة من العدوان التي أطلقتها القيادتان السياسية والعسكرية متواضعة بالنظر إلى الطموحات “الإسرائيلية” وبالنظر إلى الأهداف المضمرة أو غير المعلنة من العدوان، فهي لم تحقق مكسباً ذا معنى، بل أكثر من ذلك فالأيام الثمانية رسخت قواعد اشتباك تكاد تكون مهينة لجيش طالما كان يفتخر بأنه جيش لا يقهر .
في المبدأ وإن كان الاتفاق الذي أعلن من باب وقف العمليات العدائية بين الجانبين الفلسطيني و”الإسرائيلي”، لم يكن وقفاً لإطلاق النار بالمفهوم العسكري، إلا أنه لم يعط “إسرائيل” ما طلبت من هدنة لمدة خمسة عشر عاماً، وهو معطى له أبعاد سياسية وقانونية، وله صلة بمشاريع التسوية المطروحة، ومن بينها حل الدولتين الذي أكله الزمن أصلاً بفعل السياسات “الإسرائيلية” من عمليات التفاوض السابقة . فالواقع الجديد الذي لم يُحدد له فترة زمنية، وترك الباب مفتوحاً على احتمالات متعددة . وبطبيعة الأمر فإن احتمال استثماراته هي لمصلحة الفلسطينيين أكثر من “الإسرائيليين” لجهة عدم الالتزام بوقف لإطلاق النار ليس له أفق سياسي واضح، وبخاصة لجهة الدولة الفلسطينية الموعودة .
كما أن الفلسطينيين تمكنوا على الأقل في هذا الاتفاق، من التعهد بفك الحصار عن قطاع غزة وتسهيل دخول مستلزمات الفلسطينيين بالحدود المعقولة . وهذا أمر يعدّ مكسباً أضافياً وأساسياً في سياق المطالب الفلسطينية المزمنة منذ بداية الحصار . وفي الجانب الفلسطيني أيضاً تمكن الفلسطينيون هذه المرة من الخروج من العدوان موحدي الموقف والقرارات، وظهرت مختلف فصائل المقاومة على رأي واحد بما يختص وسائل وطرق المواجهة مع “إسرائيل “ بعدما برزت بعض التباينات في الفترة الماضية .
في المقلب “الإسرائيلي”، لم تتمكن الآلة العسكرية مجدداً من إعادة هيبة الردع، بل تبين من خلال مسار العدوان والرد عليه، أن المقاومة هي التي تمكنت من تعزيز كسر الهيبة العسكرية “الإسرائيلية”، بل كرّست توازن ردع ورعب لم تتذوقه “تل أبيب” منذ صراعها مع الفلسطينيين منذ العام ،1948 فقد سجلت سابقة قصف “تل أبيب” والقدس ومناطق قريبة من ديمونا، بمعنى أبقت معظم الأراضي الفلسطينية المحتلة تحت رحمة صواريخها لمدة ثمانية أيام، ولم تتمكن قبة “إسرائيل” الحديدية من منع تساقط الصواريخ . علاوة على ذلك تفجير الحافلة في “تل أبيب” وهي الأولى من نوعها منذ العام ،2006 أعاد رسم صورة نمطية أخرى للصراع، مفادها أن “إسرائيل” مهما تعاظمت قوتها الأمنية والاستخبارية، غير قادرة على إبعاد مخاطر العمليات في الداخل، وهي أشد إيلاماً من الصواريخ بطبيعة الحال من الناحية النفسية والعملية . إضافة إلى ذلك لم تتمكن “إسرائيل” من تنفيذ عمليات برية ضد قطاع غزة بعدما استدعت خمسة وسبعين ألف جندي احتياطي، وتبيّن من ذلك، أنها لم تُجدِ ممارسة الحرب النفسية ولا العملية، بل إن تقارير صحفية محايدة أكدت تحطم معنويات جنودها خلال ثمانية أيام وهم ينتظرون قراراً تعرف “تل أبيب” أنها لن تتمكن من اتخاذه بسهولة، بالنظر إلى السوابق التي وقعت بها في لبنان 2006 وغزة 2008 .
ومن باب الطرافة والتهكم، نعم تمكنت “إسرائيل” من تحقيق إنجازات باهرة، أولاً سجلت رقماً قياسياً يتيح لها دخول موسوعة “غينيس” لجهة عدد الأطفال الفلسطينيين الذين قتلتهم خلال ثمانية أيام . وثانياً تمكنها من تجييش أضخم دبلوماسية في العالم من بينها الولايات المتحدة الأمريكية ودول أوروبية أخرى لإيجاد مخرج لها لوقف العدوان في يومه الرابع، وثالثاً أعادت تكتيل الوضع العربي مجدداً حول الشعب الفلسطيني وقضاياه . ورابعاً تمكن رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو وفريقه من إعادة تعويم خصومه السياسيين في انتخاباته المبكرة التي كانت من بين الأهداف غير المعلنة للعدوان .
في السوابق “الإسرائيلية” أيضاً، الكثير من الإخفاقات والهزائم الموصوفة أمام المقاومات العربية بمختلف فصائلها، لكن في المقابل يسجل ل “إسرائيل” قدرتها على استثمار الوقائع والسياسات للتملص من تعهداتها والتزاماتها، فهل ستتمكن هذه المرة من التفلت مجدداً؟ أو أنه سيكون للعرب والفلسطينيين كلام آخر بعد متغيرات الوضع العربي أخيراً؟ إن تنقّل “إسرائيل” بين هزيمة وهزيمة بات أمراً واقعاً ينبغي تعزيزه وتكريسه في الذاكرة الجماعية للعرب، بعدما تمكنت “إسرائيل” من كي وعينا وذاكرتنا بأن جيشها لا يهزم ولا يقهر، وفي الواقع تبين أنه جيش لا يقرأ دروس الماضي ولا يفهم عِبره .