حرب الوعي.. من هو العدو؟
موقع العهد الإخباري-
أحمد فؤاد:
للأمام، يمضي دائمًا مسار التاريخ، في دفق هائج أحيانًا وهادئ في أحيان أخرى، يعاند الحالمين ويقدم الهدايا للبعض في مرات نادرة، لكنه يبقى خيطًا رقيقًا مرهونًا بعوامل القوة وإمكانيات الفرد والجماعة على كتابته وصناعته إن أمكن، وهو كذلك مربوط بالرؤية والبصيرة القادرة على فك شيفرة اللحظة المواتية، والبناء عليها للمستقبل.
كان لا بد من حديث للأمين العام لحزب الله سماحة السيد حسن نصر الله في ذكرى الجريمة الأميركية الكبرى باغتيال الجنرال قاسم سليماني والقائد أبو مهدي المهندس، وقد تكلم السيد وكان لا بد من نقاط توضع على حروف ساخنة، في منطقة متقلبة بشكل سريع ومثير للمخاوف، وقد وضع سماحته نقاط الوعي على حروف الفعل المطلوب، اليوم والآن.
إن أخطر ما يواجه أمة من الأمم أن تدخل حربًا وجودية وهي معصوبة العينين، مقيدة اليد والقدم، وهو حال أمتنا العربية مع الأسى الكثير والعميق. اليوم، نجح الإعلام الأميركي الناطق بالعربية، ممثلًا في أصوات غربان الخليج الناطق الناعق، بخلط الأوراق في المنطقة، فلا الصديق صار صديقًا ولا بات العدو هو الآخر عدوًّا، في كسر مذهل لكل الثوابت والمنطق.
عقب عامين من استشهاد الجنرال سليماني، البطل الذي حمل على عاتقه – بكثير من الإيثار والإنكار- كسر كل معادلة أميركية أرادتها واشنطن للمنطقة، وتمزيق كل خطط العمل ضد محور المقاومة، بل ووصل إلى أبعد مما كان يتخيله أي عاقل في سبيل وضع السلاح القادر بيد المقاومة الفلسطينية الصامدة، يرسم الإعلام الخليجي صورة مغايرة للأوضاع، تجعل من الولايات المتحدة الصديق والحليف، بينما يأتي التدبير والشر من طهران.
إنها “كارثة في الوعي والفكر والبصيرة والأخلاق والإنسانية”، كما ضغط على حروفها سيد المقاومة، تمامًا.
المأساة العربية الحالية يمكن ردها ببساطة، وبغير شبهة تجنٍ أو انحياز، إلى حقيقة عارية ومكشوفة اسمها التآمر السعودي مع واشنطن، بالمال حينًا والإعلام حينًا آخر، واللعب الطائفي القذر في أغلب الأحيان، كانت مملكة آل سعود هي التي تتولى تسويق الشر الأميركي إلى الدول العربية والإسلامية، وتسعى في خرابها ودمارها، وإن تتبع الشخص مصدر كل قنبلة وكل انتحاري يمزق الأبرياء في المساجد والمدارس والأسواق على امتداد العالم الإسلامي، ستجد من ورائه الفكرة السعودية والمال السعودي حتمًا.
ولمن نسي أو يتناسى ماذا قدم قائد فيلق القدس للعراق، فإن مشهدًا “هوليووديًا” بامتياز كانت تجري وقائعه بطول العراق وعرضه، تقدمت “داعش” بتسليح وإنشاء وتمويل أميركي/خليجي، لتحتل ثلث مساحة العراق، وتعمل سلاحها ورصاصها وخناجرها في قلوب العراقيين، وتنقل عبر الفيديوهات إلى الشاشات أشنع عمليات التصفية الدموية التي جرت يومًا إلى العالم، ولم يبد حينذاك في العراق قوة قادرة على الوقوف أمامهم لساعات في معركة، وانحلّ الجيش العراقي الذي صنعته ودربته واشنطن إلى قطع متناثرة، لا يجمع بينها إلا التراجع المخيف والمستمر في كل مدينة طرقت “داعش” أبوابها، وزاد الجنرالات الأميركيون من الرعب بقولهم إن العراق لن يتحرر من “داعش” سوى بعد 10 سنوات.
حضر الحاج قاسم فورًا الى العراق، وجاء نداء المرجعية الدينية بالجهاد ولبّى المجاهدون الدعوة، وكانوا في أول الصفوف وطليعة المجاهدين، يشكلون الحشد الشعبي، من شباب مؤمن يعرف قيمة الفداء ويحرص على الموت أكثر من حفاظه على الحياة، ونجح الشهيد وأبطال الحشد في كنس العراق كنسًا من الشيطان الذي زرعته أميركا.
في هذه الفترة، كان الإعلام العربي المربوط بإرادة واشنطن وتمويل الريال والدينار، يقدم “داعش” على أنها “مقاومة إسلامية”، ويربط وجودها وتمددها برضى شعبي عراقي عنها، ويدعم في تقاريره تصدير الرعب إلى قلوب أهل البلد، استكمالًا لدوره في دعم الحركات الإرهابية في سوريا المجاورة، وتمييع الحد الفاصل بين الإرهاب والقتال.
استكمل إعلام الخليج معركته على سوريا والعراق بمعركة أخرى على اليد الوحيدة التي كانت تمتد بالمساعدة للمقاومة في البلدين، فيلق القدس وقائده الشهيد سليماني، في إطار حرب أشمل مستمرة منذ عقود طويلة على شعوب المنطقة وعلى وعيها وقلبها، قالها ولي العهد السعودي محمد بن سلمان بلسانه، وفي حديث طويل لمجلة “ذي أتلانتيك” الأميركية. خرج محمد بن سلمان بشهادة الذات على الذات، هذا في حال أردنا إسقاط شهادة حمد بن جاسم، رئيس الوزراء القطري السابق عن الحرب الكونية في سوريا، والتي مولتها السعودية وقطر وغيرهما من دول الخليج، بعشرات المليارات من الدولارات، وبالتغطية السياسية والإعلامية المكثفة.
في حديثه مع الإعلامي الصهيوني، جيفري غولدبيرغ، رئيس تحرير مجلة ذي أتلانتيك، قال ابن سلمان نصًا: “عملنا بجهد في المملكة السعودية في سبيل المصلحة الأميركية، واجهنا المد الهائل بعد انتصار الثورة الإسلامية في طهران، وواجهنا قبل ذلك عبد الناصر في مصر، ووقفنا ضد الإيديولوجية الشيوعية للاتحاد السوفيتي، وناصرنا المقاتلين العرب في أفغانستان بالمال والسلاح، ودعمنا حركة الإخوان المسلمين لزعزعة الحكم الثوري في مصر، وكذلك فعلت الولايات المتحدة، ثم وقفنا بقوة ضد أيديولوجيا الثورة الإسلامية في إيران، والتي كانت أيضًا تعادي الولايات المتحدة”.
في هذا الحوار المنشور في شهر نيسان/ إبريل 2018، يكشف ابن سلمان كل ما قيل سابقًا عن رعاية الرياض وآل سعود للإرهاب في هذه المنطقة، بل وتصديره إلى العالم كله، في لحظة خلاف مع الحليف الأميركي أراد تذكيرهم بما تكبدته مملكة آل سعود سابقًا لتحقيق مصالح واشنطن، وما هي قادرة على فعله مستقبلًا من أجل هذه المصالح، وعلى رأسها اعترافه بدعمه الشخصي لخطة الكيان بإقامة “دولة قومية يهودية” على أرض فلسطين، وهو ما لم يجرؤ أي عربي على الاعتراف به من قبل.
أخيرًا.. إلى جانب كل حديث سماحة السيد حسن نصر الله عن التحديد والأولويات والعدو الحقيقي، فإن الأزمة الحقيقية للدول العربية، خلال السنوات الضبابية الحالية، ليست وقفًا على مستقبل مظلم في الانتظار، بكل المعطيات القائمة والقاتمة، لكن في أن هذه الدول تسير ببطء شديد في أفعالها وتجاوبها وبالمثل تجاربها، لتنتج لنا مشهدًا هو البؤس بعينه، إذ يمضي العالم من حولنا كالقطار السريع، بينما تسير الشعوب العربية كسلحفاة على أرض هشة، فلا هي تنتمي للدول المتقدمة، مهما حاولت دول الخليج الغنية شراء منجزات الغرب جاهزة، ولا هي تنتمي لدول نامية، قررت البدء في رحلة التطور علها تلحق – ولو متأخرة – بالركب الحضاري لبقية العالم.
ومرد هذه الأزمة إلى أن الدول العربية لا عدو لها أخطر من حكوماتها الحالية فعلًا، والتي تؤدي خطواتها الخاطئة أو الناقصة دائمًا إلى خلق أزمات جديدة من العدم، تضاف إلى أزمات سابقة وموجودة بالفعل، ثم تقف عاجزة أمام واقع ملغز بالنسبة لها، وتقفز فجأة فوق كل شيء إلى القمع الداخلي الواسع لإسكات أي انتقادات، أو تعيش في غيبوبة الحلم الجميل المسيطر على قصور الحكام والقادة، وتحاول إقناع الجميع بوجوده بل وواقعيته.
والأشد بؤسًا أن الحكومات العربية في كل مسيرها تتبع كل ما يصدر عن الغرب من توصيات ونصائح أو تعليمات، وتعمل جاهدة على إثبات الولاء للفكرة الغربية والحياة الغربية بل وحتى الفلسفة الغربية في النظر للعرب، وهي نظرة دونية بالتأكيد، قد ترى في أغلب الحكام العرب الحاليين – على عكس الكيان الصهيوني – صديقًا غير مؤذٍ، لكنه صديق متردد خائف، كسول، ثم هو عاجز عن تحقيق أي شيء لنفسه أو لغيره.