حرب المصارف على لبنان
موقع العهد الإخباري-
فاطمة سلامة:
لم تعد الصورة الذهنية التي تتسلّل الى مخيلتنا عندما نتحدّث عن المصارف في لبنان هي ذاتها الصورة السابقة المعبّرة عن وظيفة المصارف البديهية، تلك الوظيفة التي تتحوّل فيها المصارف الى “أوعية” تستقبل فيها الادخارات من الناس تحت مسمى “ودائع” ومن ثمّ توظّف جزءًا من هذه الودائع على شكل قروض واستثمارات بما ينفعها ويخدم ويُفيد المجتمع. في السنوات الأخيرة، باتت كلمة “مصارف” مرتبطة بصورة “سيئة جدًا” من صُنع المصارف نفسها. عندما يحضر ذِكرُ المصارف سُرعان ما يتبادر الى ذهن كثيرين أموالهم المُحتجزة بغير وجه حق. سُرعان ما يستحضرون طوابير “الذُل” أمام المصارف لاسترجاع جزء من ودائعهم بـ”القطارة” وكأنهم يتسولونها.
وللأسف، منذ تشرين الأول 2019 حتى تاريخه ــ ورغم تجاوزات المصارف الواسعةــ تُقدّم الأخيرة نفسها على أنها هي “المظلومة” والضحيّة. تتعامل مع الجميع وفق قاعدة واحدة محدّدة “ممنوع المس بها وإلا”. تعتبر منظومة المصارف نفسها فوق القانون والقضاء وحتى الدولة اللبنانية بأكملها. تتسلّح بالدور الذي لعبته وتلعبه في الانهيار و”الثِقل” الذي تمثّله في هذا الصدد لتفرض شروطها وتتهرّب من مسؤوليتها.
وهنا، لا يخفى الدور الذي لعبته البنوك اللبنانية ــ حين أقفلت أبوابها بداية الأزمةــ في ارتفاع سعر صرف الدولار على حساب انهيار سعر صرف الليرة الدراماتيكي. ومنذ ذلك الحين لم تترك المصارف أداة الا واستخدمتها لتقليص خسائرها على حساب الناس. وهي اليوم تُكمل مشروعها بعزيمة أكبر لبلوغ الانهيار ذروته. تعرف المصارف جيدًا “نقطة ضعف” النظام اللبناني، وتلعب عليها جيدًا. تستغلها الى أبعد الحدود وتمارس أقصى الابتزاز. تعلم أنّ الإضراب الذي تستمر فيه سيؤدي الى المزيد من الارتفاعات الجنونية بسعر الصرف. وبالفعل هذا ما حدث في الأيام الأخيرة اذ بات سعر الصرف فالتًا من عقاله وسط انهيار غير مسبوق بالعملة الوطنية.
لم “تبلع” المصارف الادعاء القضائي على “بنك عوده” بتهمة تبييض الأموال فقرّرت إعلان الحرب على لبنان والسوق النقدي. تريد المصارف في هذا الصدد “مقايضة” بين فكّ الاضراب واعتبار الادعاء القضائي وكأنه لم يكن وإلا… وفوق كل ما تمارسه، تمارس المصارف لعبة البيانات المحذّرة من الأسوأ. بيانها أول من أمس الثلاثاء وتهديدها بأنّه في حال استمرّ الادعاء القضائي سيؤدي إلى عزل لبنان ماليًا وتوقف التجارة الخارجية وفقدان المواد الأساسية، هذا البيان ليس إلا دليل واضح على نوايا المنظومة المصرفية التي تتكامل مع المشروع الخارجي الكبير بحصار لبنان الاقتصادي.
ناصر الدين: للمصارف اليد الطولى في الانهيار
الكاتب والباحث في الشؤون الاقتصادية زياد ناصر الدين يستهل حديثه في هذا الملف بالإشارة الى أنّ المنظومة المصرفية كان لها اليد الطولى في الانهيار الأول عام 2019، وهي اليوم تُكمل هذا الانهيار. سعر صرف الدولار ارتفع 40 ألف ليرة خلال ثلاث سنوات، ونحو 40 ألف ليرة خلال شهرين. لا يُخرج ناصر الدين ما نشهده اليوم من انهيار بسعر صرف الليرة عن سياق الحصار الخارجي الأميركي الأوسع. وفق قناعاته، الحصار يشتد على لبنان اليوم بأدواته الداخلية ومنها المصارف. يُذكّر بكلام مساعدة وزيرة الخارجية الأميركية لشؤون الشرق الأدنى باربرا ليف في 22 تشرين الثاني 2022 حين بشّرت لبنان بانهيار مالي كبير. وعليه، فالأدوات الأساسية التي تساعد في هذا الانهيار موجودة بدءًا من مصرف لبنان وليس انتهاء بالمصارف وما بينهما وسائل متعدّدة من لعبة الدولار والسياسة النقدية “العوجاء” وما الى هنالك.
يشدّد ناصر الدين على أنّ للمصارف اليد الكبرى بالانهيار لعدة أسباب؛ فالحركة الاقتصادية للبلد مرتبطة بشكل مباشر بها، وقد تبيّن في هذا الإطار أنّ لبنان دفع 19 مليار دولار -وهذا أمر غير جيد- للاستيراد من الخارج. كما يتم عبر هذه المصارف دفع رواتب الموظفين. ويرتبط بها أيضًا تحديد مصير الخسائر في لبنان ومصير المودعين اذ لدينا ما يفوق المليون حساب مودع. تمامًا كما يرتبط بها تحديد الواقع الاقتصادي الجديد للبنان بالمرحلة القادمة ربطًا بملف النفط والغاز. يستدل ناصر الدين على الدور الذي تلعبه المصارف في لعبة الانهيار بلفت الانتباه الى أنّ أي إضراب يحصل قد لا يُعطي نتيجة إلا إضراب المصارف. هذه المنظومة عندما تتوقّف عن العمل يرتفع سعر صرف الدولار ويزيد التوتر في البلد. وهنا يسأل: هل من يُنادي بالسيادة في لبنان أي المصارف غير قادر على تحمل قرار قضائي قانوني صحيح؟.
وفق ناصر الدين، تقدّم المصارف ذرائع لتنفيذ أجندة خارجية واضحة. إضرابها اذا استمر سيؤدي الى المزيد من الشلل والانهيار وارتفاع سعر الصرف والخلل الاجتماعي الذي قد يوصل الى انفجار اجتماعي. وفق حساباته، فإنّ المطلوب تحريك الشارع باتجاه سياسي معين استكمالًا للوظيفة التي بدأتها المصارف عام 2019. وفي هذا الإطار، يسأل ناصر الدين: من يوقف جنون الدولار اليوم؟ برأيه، اذا كان هناك 5 الى 10 بالمئة من الثقة فهذه الثقة تبخّرت ما سيؤدي الى المزيد من الانهيار بسعر العملة الوطنية. طبعًا يضاف الى ذلك السياسة النقدية الخاطئة للبنك المركزي والتي تمثلت بطباعة كميات ضخمة من الليرة قدّرت بما يفوق الـ85 ألف مليار ليرة ما أحدث تضخمًا هائلًا سرّع الانهيار.
ينتقي ناصر الدين من بيان المصارف التهديد بمعزوفة “عزل لبنان ماليًا”. يشدّد على أنّ هذه المعزوفة ليست جديدة بل تتكامل مع معزوفة سمعها المسؤولون اللبنانيون من الوفود الزائرة من الخارج. لطالما كانت تثار مسألة المصارف المراسلة من قبل الضيوف الخارجيين على قاعدة “يا لبنانيين حذار وانتبهوا ولا يغب عن بالكم أنّ هناك مصرفًا واحدًا لا يزال يعمل كمراسل، وهذا المصرف اذا ما توقّف فستقعون في مشكلة كبيرة”. وعليه، كان التهديد بضرورة تنفيذ الشروط السياسية. حينها ــ يقول ناصر الدين ــ كان الضغط في ملف النفط والغاز إلا أنّ معادلة القوة غيّرت مسار الأمور، وقد تكون تلك المعادلة قائمة في يوم من الأيام لكسر الحصار الاقتصادي عن لبنان، يضيف ناصر الدين ويؤكّد على أنّ التهويل بعزل لبنان يُضعف الثقة بالبلد ويثير الخوف لدى الناس انطلاقًا من التبعات التي يحملها. ماذا يعني أن نعزل لبنان خارجيًا؟ يسأل ناصر الدين ويُجيب على نفسه بالقول “يعني ممنوع أن تحوّل شركات الشحن الأموال الى البلد. ممنوع أن تتلقى المصارف تحويلات من الخارج. وعليه، لا يعود باستطاعتنا استيراد أي شيء”.
وفي ختام مقاربته، يرى ناصر الدين أنّ الحديث عن عزل لبنان الخارحي هو بمثابة “إعلان حرب”. من الواضح أنه يأتي في سياق اشتداد الضغط على لبنان للقبول بشروط سياسية كرئاسة الجمهورية. يذهب ناصر الدين أبعد مما هو ظاهر. ما يحدث هو أجندة متكاملة ومترابطة كرمى لعيون “اسرائيل”، فاشتداد الانهيار هدفه إلهاء لبنان في هذا التوقيت تحديدًا ليكون لهذا الانهيار تأثيراته على تأخير ملف النفط والغاز، يختم ناصر الدين.