حرب التجويع الأميركية ضد لبنان …على عتبة الفشل
موقع العهد الإخباري-
جورج حداد*:
في 19 تشرين الثاني 2019، وفي “التهريجة” التي أخرجها وكر عوكر، وتمت تسميتها “الثورة”، على نسق التسمية الشهيرة “الربيع العربي”، تذكيرًا بـ”ربيع” براغ وباريس في 1968، أطلقت المخابرات الأميركية بواسطة زعرانها الشعار المشبوه “كلّن يعني كلّن”.
هذا التعميم في تحميل مسؤولية الأزمة الوجودية، بسبب الحصار الخانق الذي شرع المحور الاميركي في فرضه على لبنان، كان له مؤدى واحد هو اشراك المقاومة بشخص حزب الله وحلفائه في تحمل المسؤولية ــ وفي الاخير تحميل حزب الله وحلفائه وحدهم المسؤولية، وهذا هو بيت القصيد ــ وهذا هو تماما ما تريده اميركا واسرائيل والسعودية من فرض هذا الحصار الخانق.
فماذا كان الهدف الاميركي من هذا الحصار؟
بعد أن فشلت “اسرائيل” في احتلال الأراضي اللبنانية وتحطيم القوة العسكرية والشعبية لحزب الله في عدوان تموز 2006، وتحويل الحزب الى مجرد شرذمة سياسية مهزومة، وبعد انتصار محور المقاومة بمشاركة حزب الله على الغزوة الداعشية (الاميركية ــ الاسرائيلية ــ التركية ــ السعودية) على سوريا والعراق ورد خطر اجتياح الطاعون الداعشي للبنان، بعد هذا الفشل المزدوج للمحور الامبريالي الاميركي ــ الصهيوني ــ التركي الاردوغاني ــ السعودي، لجأ هذا المحور المعادي الى شن الحرب الاقتصادية ــ السياسية ــ الاعلامية ــ النفسية ضد الشعب اللبناني ككل، واستخدام الاحزاب والتيارات والزعامات السياسية العميلة، والابواق الاعلامية المأجورة، لتحميل المقاومة بشخص حزب الله وحلفائه مسؤولية الأزمة، تمهيدًا لأحد أمرين:
الأول – أما تأليب قوى محلية لبنانية، وتسليحها وتمويلها ودفعها لمحاربة حزب الله وضربه، تحت خلطة من الشعارات الغوغائية “الثورية” المزيفة و”السيادية” العميلة والطائفية والمذهبية ــ وكان هذا الاحتمال ضعيفًا جدًا، لأن القواعد الشعبية للقوى العميلة في لبنان سبق أن اكتوت بنار الحرب الأهلية اللبنانية، ومن الصعب جرها مرة أخرى الى المستنقع ذاته، كما أن القيادات اللبنانية الطائفية والعميلة، ولو دُفعت لها مئات مليارات الدولارات كما دفع في السابق لـ”داعش” وأخواتها، فهي أعجز من أن تستطيع تجنيد جيش من المرتزقة، لمواجهة المقاومة بشخص حزب الله وحلفائه. وكان الجميع يدركون أن أي يد سترفع ضد المقاومة سوف لن تقطع من الكتف فقط، بل وستسحق رؤوس أصحابها أيضًا، وفي غضون أيام فقط.
والثاني – هو التقويض التام لمؤسسات الدولة اللبنانية ونشر الفوضى الشاملة تمهيدًا لتدويل “المسألة اللبنانية” واتخاذ قرارات دولية، من الأمم المتحدة اذا أمكن، أو من قبل أميركا والناتو والاتحاد الاوروبي وجامعة الدول العربية ومنظمة مؤتمر الدول الاسلامية، لارسال قوات ردع دولية او عربية او دولية ــ عربية مشتركة لاحتلال لبنان ونزع سلاح المقاومة واحلال “السلام الاميركي” في ربوعه. وفي هذه الحالة ترسل المساعدات الانسانية لفك الحصار التجويعي عن الشعب اللبناني المغلوب على امره.
وأمام تعذر اللجوء الى الاحتمال الأول لضرب ظاهرة المقاومة الوطنية الاسلامية في لبنان، بشخص حزب الله وحلفائه، ركز المحور الامبريالي الاميركي ــ الصهيوني ــ السعودي جهوده على تحقيق الاحتمال الثاني. واتبع لهذه الغاية تكتيكًا خبيثًا ذا وجوه متعددة، ولكنها تصب في النهاية في هدف واحد. ومن هذه الوجوه:
-1- تشديد الحصار المالي والاقتصادي أكثر فأكثر على لبنان دولة وشعبًا، وتضييق الخناق على الشعب اللبناني، وافقار الناس بالتدريج توصلًا الى تحقيق مجاعة كبيرة (على الطريقة الصومالية واليمنية) يكون ضحاياها الاوائل الاطفال والمرضى والمسنون ثم كل الشعب (باستثناء قلة من الاغنياء والميسورين) وزج الناس جميعًا في حالة من البؤس الشديد واليأس الأشد، وتعطيل الحياة السياسية والاجتماعية، وتحويل الناس الى قطعان بشرية جائعة وتائهة تبحث فقط عن لقمة خبز لعدم الموت من الجوع، مما يفسح المجال لتمرير المخططات التآمرية المعادية التي ترسم للبنان، بالتعاون مع الطابور الخامس اللبناني، وتنفيذ تلك المخططات بدون أي مقاومة أو معارضة شعبية.
-2- تحويل البلد الى غابة حقيقية تسود فيها فوضى شاملة، ويعم السلب والنهب والسرقات والقتل لأتفه الأسباب وقطع الطرقات واقتحام البيوت والمحلات والقتل بقصد السرقة والخطف والابتزاز والتزوير وترويج المخدرات وكل أنواع الجرائم.
-3- وعلى هذه الخلفية الكارثية، تنظيم ارسال مساعدات طبية وغذائية ومالية من الخارج، وتقديمها مباشرة الى ما يسمى جمعيات المجتمع المدني، وليس الى المؤسسات الرسمية، والعمل تحت هذا الغطاء “الانساني” لدعم وتمويل الطابور الخامس اللبناني لاستخدامه إعلاميًا وسياسيًا وتجسسيًا، وعسكريًا عند اللزوم، ضد المقاومة بشخص حزب الله وحلفائه، ولدعم كل مخطط تآمري خارجي يتم رسمه للبنان.
-4- تفكيك المؤسسات العامة وأجهزة الدولة اللبنانية تفكيكًا كاملًا، خصوصًا عن طريق إفقاد رواتب ومعاشات العاملين في تلك المؤسسات والأجهزة لقيمتها الشرائية بفعل التضخم المتزايد، كما عن طريق افراغ الخزينة ومن ثم العجز عن تقديم تلك الرواتب والمعاشات البائسة، لدفع العاملين في تلك المؤسسات، المدنيين والعسكريين، الى التخلف عن الالتحاق بأعمالهم ووظائفهم. وفي الوقت نفسه ايجاد الأشكال المناسبة، السرية والمكشوفة، لتقديم المساعدات المالية والغذائية واللوجستية والتسليحية البوليسية، من الخارج، مباشرة الى القوات العسكرية اللبنانية، من قوى أمن وجيش، بحجة الحرص على ضبط الأمن في لبنان، وذلك تمهيدًا، على المدى القريب، لاستمالة القوات المسلحة اللبنانية الى جانب المحور الاميركي، ولفك اللحمة بينها وبين المجتمع اللبناني، وخصوصًا اللحمة بين الجيش اللبناني والمقاومة الوطنية الاسلامية اللبنانية؛ وعلى المدى الأبعد، لتأطير القوات المسلحة اللبنانية وخصوصًا الجيش، في مخططات ضرب المقاومة وتحويل لبنان الى شبه مستعمرة أو محمية اميركية – سعودية – اسرائيلية.
-5- طرح الشعارات الخيانية المبطنة مثل: الحياد، والنأي بالنفس، والمحافظة على العلاقات العربية للبنان، والتمسك بـ”المجتمع الدولي” و”الشرعية الدولية”، والتلاعب بهذه الشعارات كما يريد الوكر الأميركي في عوكر، لاتهام حزب الله بالمسؤولية عن “العزلة الدولية” و”العزلة العربية” للبنان، والأزمة الراهنة فيه، بسبب المشاركة في الحرب ضد الطاعون التكفيري في سوريا، و”المغامرة” (حسب التقييم السعودي المشهور) بـ”استفزاز” “اسرائيل” (في حرب تموز 2006)، بدافع أجندة مزعومة لحزب الله “غير لبنانية”.
-6- تشغيل الاسطوانة القديمة ــ الجديدة، المشروخة، ونعني بها اسطوانة “السيادة اللبنانية”، والادعاء أن حزب الله ليس حزبًا لبنانيًا، بل هو حزب تابع لايران والنظام السوري، انطلاقًا من حرصه على العلاقات الاخوية مع سوريا الشقيقة لمصلحة لبنان وسوريا. وينسى أطراف جوقة شعار “السيادة اللبنانية”، أو يتناسون، أنهم كلهم بلا استثناء:
أولًا ــ كانوا من المؤيدين والمطبلين والمزمرين للحرب الصدامية الظالمة ضد ايران الثورة الاسلامية في 1980-1988، جنبًا الى جنب السعودية ومشيخات الخليج التي كانت تمول تلك الحرب.
وثانيًا ــ أنهم كلهم بلا استثناء كانوا من مؤيدي وداعمي “تعريب” و”تدويل” لبنان، لدى اندلاع الحرب اللبنانية في 1975، ولا سيما بعدما أوشكت قوات الحركة الوطنية اللبنانية المتحالفة مع المقاومة الفلسطينية، بقيادة الزعيم كمال جنبلاط، على أن تنتصر على معسكر ما كان يسمى “الجبهة اللبنانية” المتحالفة مع “اسرائيل”. وقد ذهب بيار الجميل الجد، بنفسه الى دمشق وطلب التدخل “العربي” ضد الحركة الوطنية اللبنانية التي كانت ــ حسب زعمه ــ تعتدي على “السيادة اللبنانية”.
أي أنه حينما يتعلق الأمر بضرب القوى الوطنية والثورية الاسلامية، اللبنانية والعربية والاقليمية، فإن “دوس السيادة اللبنانية” و”التعريب” و”التدويل” يكون “مشروعا!” اما حينما يتعلق الأمر بمقاومة الامبريالية الاميركية و”اسرائيل” والرجعية العربية والاسلامية والطاعون الداعشي والتكفيري، فهذا يشكل مسا بـ”السيادة اللبنانية” كما يريدها وكر عوكر وطابوره الخامس في لبنان.
-7- ولتمرير مؤامرة “تعريب” و”تدويل” لبنان، وعلى طريقة وضع ملعقة عسل في كأس السم، قامت الدوائر الاميركية بدفع الدولة الفرنسية، ذات “الصداقات” والنفوذ القديم في لبنان، للتدخل ــ بشخص الرئيس الفرنسي ذاته ــ وتقديم ما سمي “المبادرة الفرنسية” لانقاذ لبنان. وتحت هذا العنوان التخديري الزائف، ومنذ انفجار المرفأ في 4 اب 2020، عمل مخرجو سيناريو حرب التجويع ضد لبنان لدفعه أكثر فأكثر الى هاوية الجحيم، وفي الوقت نفسه نصب الافخاخ الامنية ــ الطائفية والمذهبية لحزب الله (كما جرى في خلدة وشويا) لجره الى معارك جانبية ذات ابعاد طائفية ومذهبية، لنزع صفة المقاومة عنه. وفي هذا الوقت كان “صديق لبنان” الرئيس ماكرون ينتظر في آخر النفق نجاح تنفيذ سيناريو الحرب التجويعية الاميركية ضد لبنان وعزل وضرب حزب الله وحلفائه او استسلامهم.
ولكن في حرب تموز 2006 فإن المقاومة فاجأت العدو مرتين:
أولًا ــ دفاعيًا: إن المجاهدين الأبطال دافعوا ببسالة أسطورية عن أرضهم، وطوال ثلاثة وثلاثين يومًا منعوا “الجيش الذي لا يقهر”، بكل آلته التدميرية الهائلة، من أن يتقدم شبرًا واحدًا على الأرض اللبنانية.
وثانيًا ــ هجوميًا: إن المقاومة كشفت ميدانيًا عن امتلاكها الصواريخ متوسطة وبعيدة المدى، والصواريخ الدقيقة والذكية، التي مكنتها من أن تواكب الإستراتيجية الدفاعية البطولية، بالإستراتيجية الهجومية، والقدرة على ضرب المواقع داخل كيان العدو، وحتى إصابة أرقى سفينة حربية اسرائيلية وهي تقصف بيروت من البحر تحت جنح الظلام.
وهذا ما اضطر قيادة العدو للتوسل الى سادتها في واشنطن لطلب وقف اطلاق النار، بالرغم من دموع الحزن السنيورية والمناحة السعودية.
واليوم أيضًا، في هذه الحرب الأميركية التجويعية التي لم يشهد لها لبنان مثيلًا منذ مجاعة جمال باشا السفاح في الحرب العالمية الاولى، فإن جبهة واشنطن ــ تل ابيب ــ باريس ــ الرياض وأذنابها من مافيات الطابور الخامس اللبناني، الماليين والتجاريين والاعلاميين و”السياديين ــ اللحديين” الخونة، المحتكرين واللصوص ومصاصي دماء الشعب اللبناني، قد تفاجأوا أيضًا مرتين:
أولًا ــ دفاعيًا: إن المقاومة، بشخص حزب الله وحلفائه، صمدت كـ”يا جبل ما يهزك ريح”، أمام جميع الضغوط والزعرنات والاستفزازات و”الأفخاخ” الأمنية ــ العسكرية؛ بحيث سقط تمامًا كل مخطط تأليب شوارعي ــ طائفي ــ مذهبي ــ سيادوي لحدي ضد حزب الله.
وثانيًا ــ هجوميًا: إن قوى المقاومة الاسلامية والوطنية اللبنانية، مدعومة من محور المقاومة الاقليمي والعالمي، انتقلت من استراتيجية الدفاع الى استراتيجية الهجوم، فجاءت العروض الانقاذية والاستثمارية الكبرى من روسيا والصين وايران والعراق، وتم توقيع اتفاقية توريد الطاقة لتوليد الكهرباء مع العراق الشقيق. وأخيرًا لا آخرًا أعلن القائد العربي والاسلامي الفذ، الحكيم، الصادق والمقدام السيد حسن نصر الله، عن قرار استقدام بواخر المازوت والبنزين من الجمهورية الاسلامية الايرانية الى لبنان، عبر الموانئ والأراضي السورية المحررة من التكفيريين، بكل ما يعنيه ذلك من كسر الحصار والعقوبات ضد لبنان وايران وسوريا معًا. وأعلن السيد حسن نصر الله أن السفن القادمة هي بمثابة “ارض لبنانية”، وبالتالي في حال حدوث أي اعتداء عليها فإن المقاومة سترد. وقد امتنعت كل من الأساطيل الأميركية و”اسرائيل” عن التعرض للسفن، أولًا تجنبًا لرد المقاومة، وثانيًا لأن أي عدوان من هذا النوع سيفضح أميركا و”اسرائيل” أمام شعوب العالم كله كمجوّعين وقتلة للشعب اللبناني المظلوم وكاعداء ألداء للبشرية جمعاء.
وأمام هذا التبدل الجذري في مجرى رياح الصراع الاقتصادي في لبنان، وفي مناخ الانسحاب الاميركي المذل والمزري من أفغانستان والعراق و(على الطريق) من سوريا، فإن الادارة الاميركية اضطرت لتجميد حصارها وحربها التجويعية ضد لبنان، وسارعت مديرة وكر عوكر لاعلان الموافقة الاميركية على استجرار الغاز من مصر، والكهرباء من الاردن، عبر الاراضي السورية، وبالتالي “تعليق” ما يسمى “قانون قيصر” المعادي لسوريا وللبنان. وفي الوقت ذاته سارع صندوق النقد الدولي للافراج عن مبلغ مليار و135 مليون دولار سيحول الى البنك المركزي اللبناني في 16 ايلول الجاري، وهو “حقوق” سابقة للبنان لدى الصندوق.
وتشير كل الدلائل إلى أنه أمام الهجوم المضاد لحزب الله ومحور المقاومة على جبهة الحرب الاقتصادية، فإن المحور الاميركي المعادي للمقاومة وللبنان مضطر للتراجع وتخفيف الضغوطات عن لبنان (وسوريا وايران) للحؤول دون خسارته التامة للبنان، الذي شرع في التوجه نحو “الخيار الشرقي”.
ولكن اذا انحسر النفوذ الأميركي من لبنان، بطريقة أسرع أو أبطأ، فإن أفاعي الاحتكار واللصوصية والفساد والخيانة الوطنية، ستبقى معششة في البيت اللبناني تهدده من الداخل، وتنفث سمومها خصوصًا في الاعلام المأجور، باسم “الثورة” و”الاصلاح” و”الدمقراطية” وحتى “العلمانية”.
ماذا سيكون موقف المواطن اللبناني المظلوم، والمقاومة، من هذه الافاعي؟ وماذا سيكون مصيرها؟
تلك هي المسألة الان في لبنان!
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
*كاتب لبناني مستقل