حرب البريكس والعشرين الكبار
موقع قناة الميادين-
عماد الحطبة:
الحرب ما زالت على أشدّها، وكلّ المشاريع المطروحة مفتوحة على احتمالات النجاح والفشل. يبقى العالم العربي من دون مشروع خاص به.
حاولت قمة البريكس التي انعقدت في جنوب أفريقيا تجنّب استفزاز مجموعة العشرين، فأشارت بإيجابية إلى جهود هذه المجموعة ودورها في الاقتصاد العالمي، خاصة وأنّ سبعاً من دول البريكس أعضاء في مجموعة العشرين هي: الصين والبرازيل وروسيا والهند وجنوب أفريقيا والسعودية والأرجنتين. هذه العضوية المزدوجة لم تكن في الماضي عائقاً أمام الدول في القيام بالتزاماتها في المنظّمتين، لكنّ الوضع تغيّر بعد العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا.
علينا الانتباه من الانجرار إلى الرواية المبسّطة التي تصوّر أن العالم متعدد الأقطاب يعني انضمام الصين وروسيا والهند، مثلاً، إلى النظام الاقتصادي العالمي القائم. ما يدور اليوم؛ حرب لا بد وأن تنتهي بهزيمة أحد نظامين. القطب الواحد ليس الولايات المتحدة، ولكنه النظام الرأسمالي الإمبريالي المتوحش بكل تجلياته الاقتصادية والسياسية والعسكرية.
في المقابل نحن أمام رأسمالية خالية من النوازع الإمبريالية، تسعى لتحقيق الأرباح من خلال التعاون الاقتصادي بعيداً عن الهيمنة، ومن دون أن يساورنا وهم أنها رأسمالية صديقة للشعوب، لكنها بهزيمتها للنظام الرأسمالي القائم ترفع نير الهيمنة عن عاتق الكثير من الشعوب والدول، وتساعدها على الانطلاق نحو تحقيق مصالحها الوطنية.
المعركة اليوم ليست أيديولوجية بين الاشتراكية والرأسمالية، نطاق المعركة اليوم أوسع وتشارك فيه دول كانت (وبعضها ما زال) تعتبر دولاً نامية. كان الصراع في الماضي يدور في المركز الأوروبي الأميركي حصراً، أدّت فيه الدول النامية دور “الكومبارس”، وأحياناً دور شهود الزور من دون طموح الانتقال إلى نادي الكبار.
لم يكن ذلك الخلل مرتبطاً بمؤامرة كما يخال للبعض، لكنها كانت طبيعة الصراع القائم التي لم يكن بمقدور الدول النامية المشاركة فيه، لأسباب ذاتية، في مقدّمتها الفقر والتخلّف، وأخرى موضوعية سببها تعقيد أدوات الصراع التقنية والعسكرية والاقتصادية، مما دفع الدول النامية إلى تأدية دور المتفرّج لعدم قدرتها على تحمّل الكلفة والعواقب المباشرة لهذا الصراع.
شروط الصراع الدائر اليوم مختلفة، فقد أدركت دول الأطراف أن نظام القطب الرأسمالي الواحد القائم لا يتسع للمزيد من المشاركين، وأن طبيعة علاقة هذا النظام ببقية العالم، تقوم على الهيمنة في جميع المجالات. هذه الهيمنة لم تعد سلوكاً استعمارياً عابراً، بل أصبحت جزءاً من طبيعة النظام الرأسمالي القائم، لذلك فهو مستعد للذهاب إلى أبعد نقطة اقتصادية أو عسكرية للحفاظ على طبيعة علاقة الهيمنة القائمة.
شهذا الفهم هو الذي دفع الصين للانحياز إلى الرواية الروسية في أوكرانيا، رغم أن الولايات المتحدة تشكّل المستورد الأول لبضائعها، وهو نفسه الذي دفع الولايات المتحدة لإعلان الحرب التجارية على الصين قبل العملية الروسية في أوكرانيا بسنوات، واللجوء إلى الاستفزازات العسكرية في بحر الصين الجنوبي، رغم أن استمالة الصين نحو الرواية الأميركية، أو حياد الصين سيساعد الولايات المتحدة على تحقيق أهدافها.
الفهم نفسه دفع باكستان والبرازيل وبعض الدول الأفريقية إلى محاولة الاصطفاف خارج الصف الرأسمالي العالمي. الأمر يتجاوز الرؤية ثنائية الأبعاد لمعركة الأقطاب، الاستنتاج المنطقي أن التعايش بين النظام الرأسمالي القائم الآخذ بالزوال، والنظام الجديد الآخذ بالاكتمال، أصبح تعايشاً مستحيلاً.
لم يتعامل القطب الرأسمالي القائم بإيجابية مع الإشارة التي أطلقتها قمة البريكس، وصمّم على طرح موضوع الأزمة الأوكرانية (بصياغة الناتو) على مائدة بحث قمة العشرين في نيودلهي. النتيجة الأولية كانت غياب رئيسَي روسيا والصين، مما أفقد القمة الكثير من إمكانياتها.
هذا الغياب انعكس على البيان المتوازن الذي تمكّنت الهند من انتزاعه من القمة، بعد ما ظهر من تشدّد الصين وروسيا بشأن مصالحهما وسيادتهما الوطنية. لم تقبل دبلوماسية القطب الواحد بتلك النتيجة، ووقّعت على هامش القمة اتفاقية مع السعودية على مذكّرة تفاهم لإنشاء ممر تنموي من الهند نحو أوروبا.
يأتي هذا الممر استكمالاً لعودة الحرب على مبادرة الحزام والطريق الصينية، تلك العودة التي أعلنتها قمة السبع من خلال مبادرة “إعادة بناء عالم أفضل”، والتي استكملتها قمة العشرين من خلال الاتفاق السعودي – الأميركي، الذي يعتبر مكمّلاً لمبادرة “المنتدى الدولي للتعاون الاقتصادي I2U2” والذي يتكوّن من “إسرائيل” والهند (I2) والولايات المتحدة، والإمارات العربية المتحدة (U2).
البضاعة الأهم التي ستنقل عبر هذا الممر ستكون الطاقة بكلّ أشكالها: النفط، الغاز، الطاقة الكهربائية، الهيدروجين الأخضر، والتي ستحمل جزءاً منها السكك الحديدية إلى الموانئ “الإسرائيلية” لتجد طريقها نحو أوروبا. ستتفرّع عن هذا الممر الرئيسي ممرات ثانوية، أكثرها بروزاً اتفاقية الماء مقابل الغاز الأردنية – الإماراتية – الإسرائيلية، واتفاقية إنشاء خط سكة حديدية عراقي – سعودي.
هذه الاتفاقيات تخبرنا بأن الحل الاقتصادي “الإبراهيمي” لأزمات منطقتنا ما زال يسير بالاندفاع نفسه، وإن اختلفت المسمّيات والوسائل. ويخبرنا أيضاً أنّ الاندفاع الأميركي نحو بثّ الحياة في “مفاوضات السلام” العربي الإسرائيلي لتكون مدخلاً للتطبيع السعودي الإسرائيلي، والتصعيد في الشرق السوري لقطع التواصل بين سوريا والعراق، كلها حلقات في المخطط نفسه، والذي يسعى إلى تأبيد الوضع القائم في المنطقة لصالح المشروع الرأسمالي، خاصة وأن المنطقة تشكّل عقدة المواصلات والطاقة في العالم.
الحرب ما زالت على أشدّها، وكلّ المشاريع المطروحة مفتوحة على احتمالات النجاح والفشل. يبقى العالم العربي من دون مشروع خاص به. كلّ المشاريع الإقليمية والدولية تتعامل مع منطقتنا كمعبر لمرور بضائعها، مقابل فتات تحصل عليه أنظمة فاسدة غير وطنية تحكم الكثير من البلدان.
حروبهم تخاض على أرضنا وندفع ثمنها من دمائنا، ومشاريعهم التنموية تمرّ عبر بلداننا ناهبة ما تجده في طريقها. نملك النفط والغاز ونتحكّم بأهم ثلاثة معابر مائية عالمية، مضيق هرمز، وباب المندب، وقناة السويس، ولا نجرؤ على تشغيل خط سكك حديدي يصل بين دولنا، أو مشروع اقتصادي يعظّم استفادتنا من ثروات بلادنا، ويساعدنا على مشاكل الفقر والبطالة التي تنهش مجتمعاتنا. إنه زمن المقاومة على كل الجبهات، فلنقاوم.