حدود المناورة الإسرائيلية في إتفاق ترسيم الحدود البحرية مع لبنان
موقع قناة الميادين-
حسن نافعة:
لتجنّب شبح الحرب التي لا يستطيع أحد التكهّن بعواقبها أو بنطاقيها الزمني والجغرافي، لم يكن أمام واشنطن سوى المسارعة في إرسال الوسيط آموس هوكستين إلى المنطقة، مزوداً بتعليمات لبذل قصارى جهده للتوصل إلى تسوية مقبولة للطرفين.
أشكّ كثيراً في أن تكون “إسرائيل” جادة حقاً في التوصل إلى اتفاق يسمح باستكشاف الغاز واستخراجه مما يعتبره لبنان منطقة اقتصادية خالصة له. من الواضح تماماً أنها كانت، وحتى دخول حزب الله على خط الأزمة، في وضع مريح للغاية؛ فقبل حدوث هذا التطور، كانت في وضع يسمح لها بالتعاقد مع الشركات العالمية الراغبة في استكشاف الغاز واستخراجه مما تراه منطقة اقتصادية خالصة لها، وأيضاً حرمان لبنان من القيام بالمثل.
ولأنها ظلَّت منذ قيامها تتعامل مع لبنان باعتباره الحلقة الأضعف في دول الطوق العربي، فقد كان بمقدورها منعه من استغلال ثرواته البحرية، بل سرقتها واستباحتها أيضاً من دون وجه حق. من هنا جاء إقدامها على رسم خط بحري من جانب واحد، يتيح لها سرقة أكبر كمية ممكنة من غاز لبنان.
وإذا أضفنا إلى ما تقدم أن “إسرائيل” ظلت مطمئنة تماماً إلى أن موقفها من هذه المسألة يحظى بتأييد مطلق من جانب الولايات المتحدة، لتبيَّن لنا أنها بدت واثقة تماماً بأن المفاوضات التي يقوم بها أي وسيط أميركي ستحسم لمصلحتها في نهاية المطاف.
دخول حزب الله على الخطّ بالتهديد بضرب السفينة التي كانت قد توجّهت فعلاً إلى حقل كاريش، في حال قررت “إسرائيل” بدء الاستخراج الفعلي قبل التوصل إلى اتفاق مقبول من الحكومة اللبنانية، غيّر مفردات هذه المعادلة تماماً، وخصوصاً عقب إعلانها رسمياً أنَّ الاستخراج الفعلي للغاز من حقل كاريش سيبدأ أول أيلول/سبتمبر، فهي تدرك أن السيد حسن نصر الله لم يعتد لغو الكلام، وأن حزب الله يملك من الوسائل والتصميم والإرادة ما يجعله قادراً على إلحاق أكبر ضرر بها في حال نشوب حرب جديدة.
ولأنَّ الولايات المتحدة و”إسرائيل” لا تريدان هذه الحرب، وخصوصاً في هذا التوقيت بالذات، المختار بعناية فائقة من جانب السيد نصر الله، فقد وجدتا نفسيهما مضطرتين إلى البحث عن بدائل أخرى؛ فالولايات المتحدة تبدو منشغلة كلياً بالبحث عن سبل فعالة لإحكام حصارها الاقتصادي على روسيا وإلحاق الهزيمة بها في الحرب الدائرة في الساحة الأوكرانية، ما يدفعها إلى العمل على تفادي اندلاع حرب جديدة في منطقة شديدة الحساسية والتأثير في سوق الطاقة العالمية.
أما “إسرائيل”، فهي تبدو غارقة في أوضاع داخلية شديدة التعقيد ومثيرة للانقسامات المجتمعية العميقة، في وقت توشك أن تخوض انتخابات برلمانية هي الخامسة خلال أقل من 3 سنوات، ومن ثم لا تريد بدورها خوض حرب قابلة للتحول بسهولة إلى حرب إقليمية شاملة.
لتجنّب شبح هذه الحرب التي لا يستطيع أحد التكهن بعواقبها أو بنطاقيها الزمني والجغرافي، لم يكن أمام الولايات المتحدة الأميركية سوى المسارعة بإرسال الوسيط آموس هوكستين إلى المنطقة، مزوداً هذه المرة بتعليمات لبذل قصارى جهده للتوصل إلى تسوية مقبولة للطرفين.
ولم يكن أمام الحكومة الإسرائيلية بديل آخر سوى تأجيل عملية استخراج الغاز من حقل كاريش، كي تتيح للوسيط الأميركي ما يحتاجه من وقت للمناورة والإنجاز، وكلاهما عملا لمصلحة لبنان الدولة والحزب المقاوم؛ فلكي ينجح المبعوث الأميركي، تحت ضغط تلك الأحداث المتسارعة، كان عليه أن يتخلى هذه المرة عن إظهار التأييد المطلق لـ”إسرائيل”، وأن يكف في الوقت نفسه عن استخدام تكتيك المماطلة الذي اعتاده، وهو ما حدث فعلاً، بدليل تمكنه هذه المرة من التوصل بسرعة إلى صيغة مكتوبة قبلتها، من حيث المبدأ، كل من الحكومتين الإسرائيلية واللبنانية.
ولكن سرعان ما تبين أنَّ القبول المبدئي بهذه الصيغة الأولية تم لأسباب مختلفة من جانب الطرفين المتصارعين؛ فالحكومة اللبنانية قبلتها لأنها رأت فيها بوضوح فتحاً لطريق تسوية قابلة لتحقيق الحد الأدنى من مطالبها، أي قبول “إسرائيل” بالخط 23، باعتباره خط الترسيم “الراهن”، أي القابل للتغيير مستقبلاً، وليس خط الترسيم النهائي، وتمكين لبنان من السيطرة الكاملة على حقل “قانا” الذي تعتبره “إسرائيل” حقلاً مشتركاً، غير أن قبولها بهذه الصيغة لم يكن نهائياً، إنما جاء مصحوباً بطلب “توضيحات” تزيل من النص بعض ما انطوى عليه من غموض قد يفتح ثغرات يمكن لـ”إسرائيل” استغلالها مستقبلاً.
أما “إسرائيل”، فقد قبلتها لهذا السبب تحديداً، أي لاحتوائها مصطلحات ملتبسة المعاني، وفيها ما يكفي من الغموض لتمكينها من الادعاء بأنها تستجيب لكل المطالب الإسرائيلية، ألا وهي: السيطرة على حقل كاريش كله تماماً، والحصول على جزء من عائدات حقل قانا، والادعاء أن خط العوامات أصبح الخط المقبول لبنانياً لترسيم الحدود البحرية النهائية بين الطرفين.
ورغم غموض نص المسوّدة الأولى الذي لم يكن قد نشر رسمياً بعد، سرعان ما تعرضت الحكومة الإسرائيلية بسبب موافقتها المبدئية عليه لهجوم كاسح من جانب بعض أطراف المعارضة الداخلية، وخصوصاً نتنياهو الذي اتهمها بالخضوع لتهديدات حزب الله والخنوع لإرادته.
هكذا، وجدت حكومة لابيد نفسها محشورة بين مطرقة أميركية تضغط عليها للإسراع في الموافقة على النص المطروح تجنباً لاندلاع الحرب، وسندان معارضة داخلية تحاول استغلال الموقف للحصول على مكاسب سياسية تمكنها من تحقيق أفضل نتائج في الانتخابات البرلمانية القادمة، ما دفعها إلى رفض ما اعتُبر “ملاحظات” أو “تعديلات” طلبت الحكومة اللبنانية إدخالها إلى نص المسودة الأولى، وقامت في الوقت نفسه بالتصريح للشركة المكلفة استخراج الغاز من حقل كاريش بإجراء عملية تجريبية لاختبار سلامة منظومة الضخ، تمهيداً لعملية الاستخراج الفعلي للغاز.
بات واضحاً أن موضوع ترسيم الحدود البحرية مع لبنان تحول إلى عملية شد حبال في لعبة الانتخابات الإسرائيلية الصعبة؛ فحكومة تصريف الأعمال في “إسرائيل” تحاول إثبات أنها لم تفرط في الحقوق والمتطلبات الأمنية، وتمسكت بها كاملةً، وما زالت تعتبر حقل كاريش خارج نطاق مفاوضات ترسيم الحدود البحرية مع لبنان، وأنها قادرة على استخراج الغاز منه في أي وقت، ولو أدى ذلك إلى اندلاع حرب مع حزب الله.
أما موقف الحكومة اللبنانية، ويا للمفارقة، فقد بدا أكثر تماسكاً وموحداً تماماً في هذا الموضوع بالذات، رغم حدة الانقسامات المجتمعية حول معظم القضايا، واتضح أنها تقف على أرضية أكثر صلابة من تلك التي تقف عليها الحكومة الإسرائيلية، ربما تحت تأثير الحراك السياسي الذي أحدثه دخول حزب الله على الخط وحرصه على صيانة ثروة لبنان الوطنية.
هكذا، عادت الكرة من جديد إلى ملعب هوكستين الذي لم يكن أمامه سوى بديل واحد، هو الإعلان أن جهود الوساطة الأميركية لم تفشل، وأن المفاوضات لم تنتهِ بعد، وستتواصل إلى أن يتم التوصل إلى اتفاق نهائي. حينها، بدا واضحاً بما لا يدع مجالاً لأيِّ شك أن الولايات المتحدة مصرة على التوصل إلى اتفاق، وأنها تريد تجنب اندلاع الحرب بأي وسيلة، كما تبين بوضوح أن جميع الأطراف تبذل كل ما في وسعها لتجنب حرب لا يريدها أحد.
ولأنَّ هامش المناورة المتاح أمام الحكومة الإسرائيلية كان قد تقلَّص كثيراً بعد إعلانها الموافقة المبدئية على مسودة الاتفاق الأولي، لم يجد هوكستين صعوبة كبيرة في محاولاته الرامية إلى سد الفجوة القائمة بين الموقفين الإسرائيلي واللبناني، والتوصل إلى صياغة جديدة تسمح للطرفين بالإعلان عن حصولهما معاً على كل مطالبهما. وقد جسّد ذلك قيام بايدن شخصياً بالاتصال بكل من رئيس الجمهورية اللبنانية ورئيس الوزراء الإسرائيلي لتهنئتهما بالاتفاق الذي تم التوصل إليه، غير أن ذلك لا يعني بالضرورة أن الأزمة انتهت.
في تقديري، الأزمة ستظل معلقة إلى ما بعد الانتخابات الإسرائيلية، وما جرى قد لا يكون سوى حيلة لكسب الوقت وتأجيل الأزمة إلى ما بعد هذه الانتخابات.
أظنّ أنّ الحكومة اللبنانية تعرف ما تريد وما ينبغي لها أن تفعل؛ فبعد التشاور بين الرؤساء الثلاثة وإقرار النص النهائي من جانبهم، يتوقع أن يقوم الرئيس ميشال عون بالتوقيع على المذكرة المقدمة من هوكستين، متضمنة نص الاتفاق النهائي، وإرسالها بعد ذلك إلى السكرتير العام للأمم المتحدة.
ولأن الحكومة اللبنانية لا ترى في النص المبرم اتفاقية دولية تحتاج إلى التصديق من جانب الدول الموقعة عليها كي تدخل حيز التنفيذ، فسوف تعتبر أنَّ الأزمة انتهت بالنسبة إليها، ومن ثم سيكون بمقدورها أن تشرع على الفور في إجراء الاتصالات اللازمة مع شركة “توتال” الفرنسية، ومع أي شركة عالمية أخرى، لإبرام ما تراه ضرورياً من اتفاقات تسمح لها باستكشاف الغاز واستخراجه من أيّ “بلوك” يدخل في نطاق منطقتها الاقتصادية الخالصة، بما في ذلك البلوك الذي يقع فيه حقل قانا، ما يعد من ناحيتها إنجازاً كبيراً.
أما الحكومة الإسرائيلية، فسيكون بمقدورها، بمجرد الموافقة على النص النهائي، بدء استخراج الغاز وضخه من حقل كاريش، وهو ما ستحاول تصويره للرأي العام إنجازاً كبيراً يثبت عدم رضوخها لتهديدات حزب الله، غير أن مصير الاتفاق ومستقبله سيظلان مجهولين. وعلى الأحرى أنّ الاتفاق لن يُعرض على الكنيست الإسرائيلي إلا بعد الانتخابات البرلمانية القادمة. لذا، على حزب الله أن يظل يقظاً، وأن يتحسّب لكل الاحتمالات.
مبارك للبنان هذا الإنجاز، ومبارك لحزب الله الذي ما كان تحقيق الإنجاز ممكناً أبداً لولاه.